حسب أرقام وزارة التربية، مازال 17 ألف معلم و350 مدير مدرسة متمسكين بقرار نقابتهم حجب نتائج التلاميذ عن الوزارة وعدم تنزيلها في المنصة الرقمية المخصصة للغرض، علما وأن عدد مُدرّسات ومدرسي الابتدائي يبلغ حوالي 68 ألف يتوزعون بين أكثر من 4500 مدرسة. ”الحاجبون“ استنفذوا ”صبر“ الوزارة التي اتخذت في الأيام الفائتة جملة من الإجراءات ”التأديبية“ القاسية وغير المسبوقة لمعاقبتهم.
كيف وصلنا إلى هنا؟: كرونولوجيا الأزمة
في 8 ديسمبر 2022 أصدرت الجامعة العامة للتعليم الأساسي بيانا أعلنت فيه قرارها حجب أعداد التلاميذ عن الإدارة وعدم تنزيلها على المنصة الرقمية، احتجاجا على ما أسمته ”تنكر“ وزارة التعليم لمحضر اتفاق 1 مارس 2021 و”نسف“ اتفاقية 16 نوفمبر 2022 وتملصها من التفاوض حول أربعة محاور تم الاتفاق على التناقش حولها: الموارد البشرية، الحماية الاجتماعية، المنح والمكافآت، والشأن التربوي. وفعلا سارت النقابة في هذا الخط إذ تم حجب أعداد الثلاثي الأول ولم تحصل مفاوضات جدية بين الطرفين حتى بعد إقالة الوزير السابق فتحي السلاوتي وتعيين محمد علي البوغديري خلفا له. في 1 أفريل أعلنت النقابة حجب أعداد الثلاثي الثاني أيضا وبررت ذلك برفض الوزارة فتح باب التفاوض أصلا، معتبرة أن “التفاعلات الرسمية شكلا ومضمونا كانت تدفع في اتجاه تسعير الأزمة وليس تطويقها“.
توصُّل الوزارة إلى اتفاق مع نقابة التعليم الثانوي أنهى حجب الأساتذة لأعداد تلاميذ الإعداديات والمعاهد، ما وضع الوزارة في موقع قوة لتظن أنّه بإمكانها إجبار نقابة التعليم الأساسي على قبول اتفاقية مماثلة أو الاستسلام كليا. طيلة شهري ماي وجوان كانت نبرة الوزارة عالية، مؤكدة أنها ستتخذ كل التدابير والإجراءات الإدارية والقانونية المستوجبة ضد المتمسكين بالحجب.
مطلع شهر جويلية وصلت الأمور إلى انسداد حقيقي وظهر جليا أن التصعيد هو الطريق الذي سيسلكه الجميع. انتهت المهلة الأخيرة فقررت الوزارة ”المرور بقوة“ وأعلنت في بلاغ صادر يوم 10 جويلية عن عقوبات ضد المعلمين (حجز مرتبات) والمديرين (إعفاءات) المتمسكين بالحجب، ثم نشرت بلاغا توضيحيا آخرا عددت فيه القرارات التي اتخذتها لفائدة قطاع التعليم الأساسي في المدة الفائتة. لم يتأخر رد جامعة التعليم الأساسي كثيرا حيث قررت خلال اجتماع الهيئة الإدارية القطاعية يوم 12 جويلية مواصلة حجب الأعداد ومقاضاة الوزارة وتنظيم جملة من التحركات تبدأ بالاعتصامات والمسيرات المحلية والوطنية وتنتهي بيوم غضب وطني أمام مقر وزارة التربية وقصر الحكومة بالقصبة. الوزارة هي الأخرى لم تترك مجالا للصلح، إذ قررت إضافة عقوبة أخرى للمعلمين الحاجبين الذين قدموا سابقا مطالب للتمتع بالتقاعد المبكر الاستثنائي، وذلك بوقف النظر في ملفاتهم..
الأزمة الحالية مستمرة منذ سبعة أشهر، لكنها في الحقيقة فصل جديد في أزمة مستمرة منذ سبعة سنوات. وقعت وزارة التربية ونقابة التعليم الأساسي اتفاقا شاملا في 7 ديسمبر 2015 كان يفترض أن يشكل قاعدة لإصلاح القطاع. لكن مماطلة الوزارة في التطبيق الكامل للبنود المتفق عليها ساهم في توتر الأجواء من جديد وتأزم الوضع بشكل مستمر.
”الحجب“: هل كان اختيارا موفقا؟
لم يكن حجب الأعداد الذي قررته نقابتَا التعليم الثانوي والأساسي من ”الأساليب النضالية“ الدارجة. ويبدو أنّ اختياره جاء لتجنيب المدرسين إمكانية اقتطاع جزء من مرتباتهم في حالة الإضراب أو الامتناع عن إعداد الامتحانات وإجرائها، خاصة مع تتالي الإضرابات في السنوات الأخيرة في مرحلة تعيش فيها البلاد موجة تضخم عاتية.
المعادلة كانت بسيطة: تحقيق مطالب عبر الضغط بشكل يمنع الوزارة/الإدارة من إنهاء السنة الدراسية، لكن دون أن يكون النضال من أجل هذه المطالب مكلفا. كما يدافع النقابيون عن هذا الاختيار من جهة كونه لا يضر بالتلميذ، إذ لا يحرمه من حقه في التحصيل العلمي ولا يعطل العملية التقييمية، بما أن الامتحانات تُجرى في وقتها ويتم إصلاحها ويمكن لأولياء الأمور الحصول على نتائج أبنائهم دون المرور بالإدارة والحصول على دفاتر الأعداد والكشوف. طبعا هذا التبرير لا يقنع الجميع، فكبار المسؤولين في وزارة التربية وجزء هام من الأولياء يعتبرون أنّ النقابات زجت بالتلاميذ في صراع لا دخل لهم فيه.
من المؤكد أنّ توصّل وزارة التربية إلى اتفاق مع نقابة التعليم الثانوي في 22 ماي الفائت وضع نقابة التعليم الأساسي في الزاوية. اتفاق حرمها من ”حليف“، وربما أثر نفسيا على العديد من المعلمين الذين قدروا أن المعركة خاسرة وأنه لا يمكن الاستمرار في سياسة الحجب إلى ما نهاية، فقرروا تسليم الأعداد إلى إدارات مدارسهم. لكنّ هذا لا يعني أن الشروخ ظهرت فجأة في الجسم التدريسي. هناك معلّمون لم يلتزموا بقرار الحجب منذ البداية وسلموا الأعداد منذ الثلاثي الأول، وآخرون التحقوا في الثلاثي الثاني، وفي كل الأحوال هناك 50 ألف معلم كسروا قرار الحجب ولم يتشبث به إلا ربع الإطار التعليمي تقريبا. هل كانت النقابات الاساسية والجهوية تجري تقييمات موضوعية ودورية لتطور موقف المعلمين من الحجب؟ هل اخذت الجامعة العامة للتعليم الأساسي بعين الاعتبار تزايد عدد غير الملتزمين من فترة إلى أخرى؟ هل اقترحت خططا وناقشت أساليب نضالية بديلة في ظل استعصاء التوصل إلى اتفاق مرضي مع الوزارة وتململ جزء من القواعد النقابية؟ ربما حان وقت مراجعة مدى نجاعة هذا “الأسلوب النضالي” من قبل نقابات التعليم في مختلف المستويات.
البوغديري: إكراهات السلطة تحجب صورة النقابي
”قف للمعلم ووفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا. تحية إلى أشاوس وماجدات الجامعة العامة للتعليم الأساسي بقيادة الأخ الرفيق المناضل نبيل الهواشي الذين استبسلوا في الدفاع عن منظوريهم. ما لا يتحقق بالنضال يتحقق بمزيد من النضال.“
لم يرد هذا الكلام على لسان واحد من قواعد نقابة التعليم الأساسي أو قياداته في إطار الأزمة الحالية، بل جاء في منشور وضعه السيد محمد علي البوغديري وزير التربية على حائطه الفيسبوكي (مرفقا بصورة تظهره رفقة نبيل الهواشي ونقابيين آخرين) بتاريخ 4 أفريل 2021، عندما كان أمينا عاما مساعدا للاتحاد العام التونسي للشغل، بمناسبة إعلان الجامعة العامة للتعليم الأساسي قرارها الدخول في إضراب عام بيومين إثر فشل مفاوضاتها مع وزارة التربية حول مطالب هي تقريبا نفسها التي يرفض البوغديري تحقيقها. في 1 جوان 2023 راجع البوغديري – بعد أن أصبح وزيرا للتربية متصادما مع نقابات التعليم – المنشور وحذف أغلب الكلام الوارد فيه ولم يترك منه إلا الجملة الأولى، وربما يعدّله مجددا أو يحذفه تماما مع تعقّد الأمور.
محمد علي البوغديري هو أيضا ذلك القيادي النقابي الذي طعن في قانونية المؤتمر الوطني 25 للاتحاد العام التونسي للشغل وشرعيّته (صفاقس، فيفري 2022) وألقى اثناء حضوره المؤتمر وثيقة القانون الأساسي على الأرض احتجاجا منه على تنقيح الفصل 20 الذي أتاح للأمين العام نور الدين الطبوبي الترشح لعضوية ثالثة للمكتب التنفيذي وبالتالي تثبيته في منصبه. اعتبر البوغديري آنذاك أن مؤتمر سوسة الذي انعقد في جويلية 2021 ونقّح الفصل 20 من القانون الأساسي يعد انقلابا و”ضربا للنواميس الديمقراطية للمنظمة“. المفارقة أنّ البوغديري صعد إلى كرسي الوزارة بفضل مساندته للرئيس قيس سعيّد، الذي كرس سيطرته على السلطة التنفيذية بتأويل متعسف للفصل 80 من دستور 2014 قبل أن يلغي الدستور بحد ذاته ويستبدله بآخر يمنحه سلطة شبه مطلقة.
قبل حمله لحقيبة وزارة التربية حمل البوغديري حقيبة المربي لسنوات طويلة عندما كان أستاذا للتعليم الثانوي، لكن لا يبدو أنّ هذا المعطى كان محددا في اختياره وزيرا للتربية والتعليم من قبل قيس سعيّد (في جانفي 2023). بل على الأرجح انه اختير -بعد أن أظهر مرارا مساندته القوية والحماسية للرئيس سعيّد- لمعرفته بخفايا ”المطبخ الداخلي“ لنقابات التعليم (وبالتالي نقاط الضعف والصراعات الداخلية)، ولكونه تزعم شقا نقابيا مناهضا للقيادة الحالية للاتحاد العام التونسي للشغل. يبدو أن ”ترويض“ نقابات التعليم أو ”تدجينها“ تماما هي ”أم المعارك“ التي يراد للبوغديري أن يقودها.
بين الوزارة والأطراف النقابية: حروب عبثية على حساب مصلحة التلميذ
لا يمكن قراءة موافقة نقابة التعليم الثانوي على مقترحات الوزارة ورفض نقابة التعليم الأساسي لها دون ان نربط الموقف بعلاقة قيادات كل نقابة قطاعية بالمركزية النقابية وعلى رأسها الأمين العام نور الدين الطبوبي، وكذلك بعلاقة قيادة اتحاد الشغل مع الرئيس قيس سعيّد. اتفاقية 22 ماي 2023 التي قبلت بمقتضاها جامعة التعليم الثانوي ترحيل الزيادات -المحدودة- في المنح والأجور إلى سنوات 2026 و2027 و2028 في اتفاق يمكن ان نعتبره غريبا وغير مسبوق، لم تغضب جزء هاما من الأساتذة فقط بل اثارت استياء جهات أخرى. نقابة التعليم الأساسي كانت أول المتضررين بما انها تركت في العراء تقريبا فتمسك أساتذة الثانوي بالحجب كان يوفر لها دعما وحماية، وكذلك لأن المبالغ والآجال التي وافقت عليها نقابة التعليم الثانوي أصبحت عمليا سقفا يصعب على المعلمين كسره. وربما هناك متضرر كبير آخر -بشكل غير مباشر- من نزع فتيل الأزمة بين الوزارة ونقابة التعليم الثانوي: قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل. على الرغم من توتر العلاقة بين المكتب التنفيذي للمنظمة وأعضاء الجامعة العامة للتعليم الثانوي في السنوات الأخيرة إلى حد التصادم بين اليعقوبي والطبوبي ورفع الغطاء عن تحركات الأساتذة في أكثر من مرة، فإن نقابة التعليم الثانوي تبقى احدى أعمدة اتحاد الشغل وواحدة من “آلياته الثقيلة“ عند الصدام مع السلطة.
لم يعد من الخافي تراجع قوة تأثير المركزية النقابية في المشهد والقرار السياسيين بعد أن لعبت أدوارا متقدمة ما بين 2011 و2021. تجد هذه المركزية اليوم نفسها محاصرة بين سلطة سياسية تقصي الخصوم وترفض الشركاء، ومزاج شعبي كاره للمعارضة والمجتمع المدني والنقابات، وتصدع داخلي. المركزية النقابية في مرحلة تقهقر وستسعى بكل السبل إلى استعادة جزء من موقعها الذي فقدته وكذلك للدفاع عن المنظمة بعد ما تزايدت القضايا المرفوعة ضد نقابيين، إضافة إلى الإجراءات الإدارية التأديبية ضدهم كما حصل في وزارتي النقل والثقافة. من هذا المنطلق يمكننا فهم ”شراسة“ وزارة التربية -كواجهة للسلطة السياسية- في الآونة الأخيرة وسعيها إلى القضاء على ”تمرد“ 17 ألف معلم تمسكوا بحجب الأعداد.
مآزق بالجملة
من المؤكد ان الجميع في مأزق، وعلى رأسهم وزارة التربية. طبعا المعلمون الحاجبون مهددون في قوتهم، ولا يخفى على أحد ان جزء كبير من الموظفين -وعموم التونسيين- يغرق كل يوم أكثر في ”الروج“ (السحب على المكشوف) وسداد القروض الممنوحة من البنوك التجارية والصناديق الاجتماعية، مما يعني ان كثير من المعلمين سيجدون أنفسهم بلا أجور وفي نفس الوقت مطالبون بسداد ديون فضلا عن كل نفقات المعيشة. وحتى إذا ما وضعنا الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية جانبا، وحتى ان حجبت الوزارة أجور جويلية والأشهر التي تليه، وحتى ان قامت بعزل الحاجبين وسجنهم، هل سيمكنها كل هذا ”القصف“ من الانتصار في ”الحرب“؟ سنبقى في نفس نقطة الانطلاق: مئات آلاف التلاميذ لا يعرف مصيرهم بعد ولا يمكن الاعداد للسنة الدراسية القادمة دون أن نعرف كم هناك من راسب وناجح.
بعيدا عن كل هذه الحسابات ومآلات الحروب العبثية التي تعيشها المدرسة العمومية منذ سنوات نورد هنا بعض الأرقام التي قد لا تكون ذات أهمية بالنسبة للأطراف المتصارعة.
- سنة 2012 ، أي قبل ان تتوتر علاقة وزارة التربية بالنقابات بشكل متصاعد ومستدام، كان عدد تلاميذ التعليم الابتدائي الخاص يقدر ب28875 تلميذا متوزعين بين 128 مدرسة خاصة لكن بعد تتالي السنوات الدراسية المتوترة والمتقطعة وما صاحبها من إضرابات ومقاطعة امتحانات وارتقاء آلي بلغ عدد تلاميذ الابتدائي الخاص في سنة 2017 79043 تلميذا تتقاسمهم 480 مدرسة خاصة.
- خلال السنة الدراسية 2022 – 2023 بلغ عدد التلاميذ المسجلين في مستوى سادسة ابتدائي 204 ألف تلميذا، لم يتقدم منهم لاجتياز مناظرة ”الدخول إلى المدارس الإعدادية النموذجية“ إلا 49533 مترشحا منهم 17908 تلميذا فقط استطاعوا الحصول على معدل يساوي أو يفوق 10 من 20. ومن بين الناجحين تحصل 3443 تلميذا فقط على معدلات تمكنهم من الحصول على مقعد في الاعداديات النموذجية.
ماذا تبقى، الارتقاء الآلي؟ إذا ما لجأت الوزارة إلى هذا ”الحل“ فسيعني ذلك ”هزيمتها“، كما انها ستوجه رسالة إلى التلاميذ وأوليائهم مفادها انه لا معنى لكل الجهود التي بذلتموها طيلة سنة دراسية شاقة ومتوترة. ولنذكر هنا بأن إقرار ”الارتقاء الآلي“ في مختتم السنة الدراسية 2014 – 2015 كانت له آثار سلبية جدا من حيث المستوى المعرفي للتلاميذ الذين دخلوا المدارس الإعدادية في السنوات التي تلت ذلك القرار. الارتقاء الآلي سيمثل أيضا هزيمة شخصية للوزير قد تعجل برحيله أو تضعف موقفه في مفاوضات لاحقة. من ناحية أخرى، إذا لانت مواقف الوزارة ومنحت نقابة التعليم الأساسي اتفاقا تفوق قيمته المادية و”المعنوية” ما منحته لنقابة التعليم الثانوي فإنها ستفتح على نفسها باب الجحيم وستثير غضب الأساتذة الذين مازال أغلبهم لم “يهضم” بنود اتفاقية 22 ماي بعد، وربما ستعود إلى مربع الانطلاق وتلغم السنة الدراسية 2023 – 2024 قبل بدايتها.
iThere are no comments
Add yours