تتسلّل بعض الإجراءات لفائدة رجال الأعمال والأثرياء المقرّبين من السلطة، عبر فصول وإجراءات خاصّة، عادةً ما تندسّ في قوانين المالية، أو تُضمَّن في قوانين قطاعيّة، مثل الإعفاءات الديوانية المستوجبة على استيراد العلف، أو التخفيض في المعاليم الديوانية المفروضة على اللاقطات الضوئية، أو إقرار عفو جبائي في الجرائم المتعلّقة بغسل الأموال.
ممارسات مخلّة بمبدأ المنافسة
تزامنا مع أزمة التزوّد بالعلف والقمح، نشرت جمعية ”آلرت“ بلاغًا على صفحتها الرسمية يوم 6 جوان، أشارت فيه إلى سيطرة ثلاث شركات على مجال تصنيع العلف وتوزيعه، وهي على التوالي ”بولينا“ و”ألفا“ و ”ألكو“، التي تتعامل حصريّا مع شركة قرطاج للحبوب التابعة لمجمع ”المختار“. يأتي هذا التوضيح بعد لقاء قيس سعيد بوزير الفلاحة يوم 6 جوان الجاري، وحديثه عن تأثير اختلال توزيع الحبوب والعلف على التحكم في الأسعار، مضيفًا أنّ هذه الممارسات غير مقبولة على الإطلاق، وفق بيان الرئاسة.
لم يكن هذا اللقاء الأوّل من نوعه للحديث عن أزمة العلف. ففي 24 فيفري، التقى قيس سعيد وزير الفلاحة وتحدّث معه عن مسألة ارتفاع أسعار العلف وما ترتب عن ذلك من غلاء في أثمان اللحوم والدواجن، نتيجة ”احتكار جهة أو جهتين لتوريد مادة الصوجا من الخارج، مذكرا بأن ديوان الحبوب هو الذي كان يقوم بتوريدها قبل أن تتمكن شركة واحدة بعملية التوريد وتتحكم في الأسعار كما تريد“، وفق ما ورد ببلاغ رئاسة الجمهورية.
وقد استفادت شركة حبوب قرطاج من فكّ الارتباط بين ديوان الحبوب وعمليّات استيراد الصوجا والذرة، بمقتضى قرار صادر عن وزارة الفلاحة والتجارة في 11 جانفي 1997، يتعلّق بالمصادقة على كرّاسَي شروط ينظّمان عمليّات توريد حبوب الذرة وفيتورة الصوجا، حتى تسيطر على سوق توريد الصوجا التي يُصنع منها العلف المركّب. وبمقتضى قانون المالية لسنة 2022، تمّ إقرار إعفاء من المعاليم الديوانية المستوجبة على توريد بعض مدخلات الأعلاف، وخاصة فيتورة الصوجا وقشور حبوب الصوجا (الفصل 36)، ما يُمهّد الطريق لشركات ومؤسّسات نافذة للاستفادة من هذه الامتيازات.
المنظومة الريعية كما يعرّفها عزيز كريشان في كتابه هي المداخيل المتأتية من امتلاك موارد نادرة، وهي باختصار القرب من السلطة السياسية، التي تحدّد من خلال سلطتها التقديرية أحقيّة اكتساب صفة ”المستفيد من الريع“، وبالتالي الحصول على امتيازات. ”قبل 2011، كانت المنظومة الريعية هي التي تخدم السلطة. أمّا الآن فهي التي تمثل السلطة“، يضيف كريشان.
الريع وحتمية التحفيز على الاستثمار
خلال فترة بناء الدولة الحديثة ما بعد الاستقلال، سعت السلطة السياسية إلى منح امتيازات جبائية للمستثمرين خاصّة مع سنّ القانون عدد 38 لسنة 1972 المتعلق بإرساء نظام خاص للصناعات الموجّهة للتصدير وإعفاء الشركات المصدّرة كليّا من الضريبة. تواصل منح الامتيازات الجبائية مع تبنّي تونس لبرنامج الإصلاح الهيكلي في 1986 وإرساء مجلّة الاستثمار سنة 1993 ومجلّة التشجيع على الاستثمارات في 2016.
”موضع الريع ينتج عن الامتيازات الجبائية المشطّة التي تلغي التنافس في مجال النشاط الاقتصادي، أو عن الاتفاقيات التي تحصل بين الإدارة وبعض المنتجين. فالامتياز الضريبي لا يجعل من الناس سواسية“، يقول أستاذ الاقتصاد عبد الجليل البدوي في تصريح لنواة. ويضيف: ”مع بداية التجربة التنموية كانت الإدارة تتفادى منح تراخيص أنشطة متعدّدة نظرًا لحجم السوق وقلّة الخبرة في مجال المنافسة. كما كانت تفرض ضرائب مرتفعة على أنشطة اقتصادية معيّنة بحيث تصبح دون منافسة سواء تعلّق الأمر بالإنتاج أو بالتوريد، وهنا يصبح هذا النشاط ريعيّا“، وهو ما يؤكّده عزيز كريشان في كتابه حين قال إنّ مصدر الريع سياسي يتغذّى من القرب من السلطة السياسية وولائه لها (ص.53).
في 2016، وافق البرلمان على استقلالية البنك المركزي التونسي، استقلالية تمنعه من إسداء قروض لفائدة الدّولة، ما يعني لجوء الدّولة إلى البنوك التجارية بفوائض عالية. ”ينتعش الريع عبر التحكم في المنظومة المالية، وهو يملك البنوك مثل بنك الإسكان والبنك الوطني الفلاحي والشركة التونسية للبنك“، يقول عزيز كريشان، موضّحًا أنّ نسبة الفائدة التي يمنحها البنك المركزي للدولة لا تتجاوز 3% من قيمة القرض، في حين تتضاعف هذه النسبة عندما تلجأ الدّولة إلى الاقتراض الداخلي أو الخارجي.
”هناك مجموعات تتحكّم في النشاط الاقتصادي وهي الوحيدة التي لها الحق في النفاذ لبعض الأنشطة، مثل البنوك التي تتحكّم في تمويل المشاريع، فنجد المؤسسات الصغرى والمتوسطة محرومة من التمويل، لأنّ البنوك مقسّمة على الأثرياء، وكلّ عائلة تمتلك نسبة من رأس المال“، يؤكّد الأستاذ عبد الجليل البدوي.
العطايا السياسية في ثوب قانوني
في 10 ديسمبر 2018، كان البرلمان يستعجل النقاش للتصويت على مشروع قانون المالية لسنة 2019. بدت الأجواء مرتبكة آنذاك، والحركة حثيثة بين النوّاب الّذين ورد عليهم مقترح تعديل حول تأجيل ضريبة بنسبة 35% على المساحات التجارية، من 2019 إلى سنة 2020.[1] هذا التأجيل كان يصبّ في مصلحة مجموعة مبروك، التي كانت الطبقة الحاكمة تطمع في مساندتها خلال انتخابات 2019، وهي عائلة ثريّة تملك مساحات تجارية معروفة مثل مونوبري وجيان. مروان المبروك، أحد المستفيدين من إجراء تأخير الضريبة على المساحات الكبرى، يعدّ من مقرّبي رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد الّذي تقدّم في 22 نوفمبر 2018 بطلب للاتحاد الأوروبي لرفع التجميد عن أمواله في البنوك الأوروبية. هديّة مجانية لكسب ودّ طائفة من رجال الأعمال والظّفر بمساندتهم خلال الحملة الانتخابية الرئاسية والتشريعية في 2019.
قانون المالية نفسه أقرّ تخفيضًا في المعاليم الديوانية والأداء على القيمة المضافة بعنوان اللاقطات الشمسية تباعًا من 30% إلى 15%، ومن 19% إلى 7%، التي اعتبرتها المعارضة البرلمانية في ذلك الوقت خدمةً لرجال الأعمال على حساب المصنّعين المحلّيين الّذين سيتأثّرون بإغراق السوق بالبضاعة المستوردة.
كما كان مشروع قانون المصالحة في نسخته الأولية التي تهمّ الجانبَين الاقتصادي والمالي، محاولةً لإرساء عفو عن الجرائم الماليّة المشمولة بقانون العدالة الانتقاليّة، ولإسداء خدمات لرجال الأعمال العالقة بهم شبهات إثراء غير مشروع. لكن أمام ضغط الشارع والمعارضة السياسية والمدنية انحسر مجال المصالحة نسبيّا لتقتصر على الجانب الإداري، ولكنّها دائمًا تصب في مصلحة الإفلات من العقاب.
قبل بضعة أيّام من حلّه، صادق البرلمان في 12 جويلية 2021 على مشروع قانون الإنعاش الاقتصادي الذي رفضه عدد من نوّاب المعارضة آنذاك، باعتباره واجهةً لإنقاذ المهرّبين والمتهرّبين جبائيّا وتشريعًا للفساد. مشروع القانون الّذي لم يختمه قيس سعيّد ينصّ في فصله الثامن على تسوية مخالفات الصّرف، بما في ذلك جريمة غسل الأموال المجرّمة بقانون الإرهاب، وتحديدا الفصل 92 منه. كما يقرّ عفوًا جبائيًّا عن المداخيل والأرباح غير المصرّح بها في فصله 26، وهو إجراء يشمل كذلك الأشخاص المعنيين بقانون الإرهاب ومنع غسل الأموال، ما فُهم منه أنّه خدمة لمصلحة نبيل القروي رئيس حزب قلب تونس، صاحب الأغلبية البرلمانية في ذلك الوقت، والذي أوقف رئيسه خلال فترة الانتخابات الرئاسية بتهمة الفساد المالي والتهرب الضريبي. فمشروع القانون وضع الإنعاش الاقتصادي كيافطة تخفي تدابير تخدم أحزابًا ورجال أعمال متنفّذين، لكنّهم محلّ متابعة قضائيّة.
مجلس المنافسة: ديكور قوي ومردود ضعيف
مجلس المنافسة هو هيئة ملحقة بميزانية وزارة التّجارة، يعود إحداثه إلى سنة 1991، حين كان يُسمّى لجنة المنافسة. يتركّب المجلس من 15 عضوًا، سبعة منهم قضاة. وهو ما يجعل منه بمثابة القضاء الابتدائي، إذ يمكن الطعن بالاستئناف في القرارات الصادرة عنه لدى المحكمة الإدارية. ويختص المجلس بمهمّة استشارية عبر إبداء رأيه في مشاريع النصوص التشريعية والترتيبية، ومهمّة قضائية من خلال النظر في الدعاوى المتعلقة بالممارسات المخلة بحرّية المنافسة. ورغم ذلك، لم يصدر المجلس خلال الفترة الممتدّة من إحداثه سنة 1991 إلى سنة 2019، سوى 111 قرارًا ”تضمّنت تسليط خطايا ماليّة تقارب 35 مليون دينار، تمّ استخلاص 4.5 مليون دينار من جملتها“، وفق ما ذكره النائب الأول السابق لرئيس مجلس المنافسة محمّد العيادي، الّذي قال إنّ هذه الإحصائيات ”ضعيفة ومحتشمة“، نظرًا لصعوبات قانونية وإجرائية، قد تتّكئ عليها السلطة لتبرّر عدم تطبيقها للقرارات الصادرة عن المجلس.
وتكمن صعوبة تطبيق قرارات مجلس المنافسة في ضبابية النصّ القانوني. فوزير التجارة، بمقتضى الفصل 44 من قانون المنافسة والأسعار، يتولّى متابعة تنفيذ القرارات الصادرة عن مجلس المنافسة، ولا تشمل هذه المتابعة الأحكام الصادرة في طورَي الاستئناف والتعقيب، في صورة الطعن في القرارات أمام المحكمة الإداريّة. فهو إذن تنفيذ جزئي ومنقوص لقرارات مجلس المنافسة، يقتصر على استخلاص جزء صغير من الخطايا الماليّة ومتابعة الإجراءات التحفظية. من ناحية أخرى، فإنّ مسؤولية وزير التجارة تنتهي عند متابعة تنفيذ الأحكام، وليس تطبيقها، ما يفرض أن يكون مجلس المنافسة هيئة مستقلّة عن السلطة التنفيذيّة، يُعهد إليه إصدار الأحكام القضائية والسهر على تنفيذها.
وللتذكير، يشكو المجلس حاليا نقصًا على مستوى تركيبته، بعد شغور منصب الرئيس ونائب الرئيس والكاتب القار، بالإضافة إلى تعيين حبيب الكتاري، عضو مجلس إدارة مجمع بولينا الّذي يحتكر قطاع العلف في تونس، ما يجعل المجلس في وضعية تضارب مصالح في حال تعهّده بدعوى تخصّ مجمع بولينا، إمّا بصفته شاكيًا أو مشتكًى به.
تحيط الدوائر السياسية نفسها بأحزمة قانونية واقتصادية لضمان المصلحة المشتركة بينها، حتى ينتعش ثالوث السلطة والمال والقانون خدمة للريع. في الأثناء، تواصل الحكومات مجاراة الوضع وشراء ودّ الأثرياء رغم أنّ الأحاديث تدور بصوت مرتفع حول النفوذ الاقتصادي ومخاطره على الموازنات العامّة وكلفة الامتيازات الجبائية وضعف مردوديّة المؤسسات المنتفعة بها مقابل ذلك، والضغط الجبائي المتواصل على الطبقة المتوسّطة، خاصّة مع اقتراب نهاية السنة المالية والشروع في نقاش مشروع ميزانية الدّولة.
[1]التأجيل كان يشمل عددًا من المؤسسات بين بينها البنوك والمؤسسات المالية ووكلاء السيارات وأصحاب العلامات التجارية الأجنبية، إلا أن وزارة المالية ارتأت تطبيق الضريبة على كل المؤسسات في 2019 باستثناء المساحات التجارية
iThere are no comments
Add yours