أعَادت مشاريع المصالحة المعروضة في الساحة السياسية الجَدل حول ملف رجال الأعمال المُقرّبين من النظام السابق الممنوعين من السفر. ويكشف التقارب الجديد بين نداء تونس وحركة النهضة عن ملامح اتفاق بين الحزبين الحاكمين، يقضي بتسوية ملف رجال الأعمال والإجهاز نهائيا على مسار المحاسبة الذي ظل معلّقا أكثر من خمس سنوات.

رغم المزاعم الحكومية المتعاقبة بأن هذا الملف مازال تحت أنظار القضاء، فإن العديد من المعطيات والوثائق -التي تحصّل موقع نواة على البعض منها- تشير إلى أن قائمة رجال الأعمال المتورطين في الفساد في ظل النظام السابق، لم تكن وليدة مسار قضائي مكشوف وإنما فُصٍّلت خارج دائرة الضوء، على مقاس مصالح الأحزاب الحاكمة. ويمكن إدارج هذه القائمة ضمن مسار معقّد تعود بداياته إلى إصدار مرسوم المصادرة منتصف مارس 2011، بُعيد تسلّم الباجي قايد السبسي مقاليد السلطة.

مرسوم امتصاص الاحتقان المؤقت

لم يكن مُمكنا في شهر فيفري سنة 2011 إقناع المتظاهرين بترك الفضاء العام والعودة إلى منازلهم، دون الإعلان عن إجراءات “ثورية” ضد العائلة الحاكمة السّابقة وبعض رموز النظام السياسية خصوصا بعد سقوط حكومة الغنوشي الثانية وتنصيب حكومة الباجي قايد السبسي خلفا لها. وانسجاما مع هذا المنطق نشأ المرسوم عدد 13 المؤرخ في 14 مارس 2011 المتعلّق بمصادرة أموال وممتلكات عقارية ومنقولة لعائلة الرئيس السابق وأصهاره وعائلة زوجته وبعض رموز النظام، وقد ضبط هذا المرسوم قائمة فيها 112 شخصا.

⬇︎ PDF

تشير الوثيقة التي تحصل عليها موقع نواة –التي تعود إلى تقرير أعدته لجنة المصادرة سنة 2013- إلى أن القائمة الواردة بالمرسوم المذكور أسقطت العديد من أسماء العائلة الحاكمة والمنتفعين من ارتباطهم بها. وتضم القائمة التي أعدتها لجنة المصادرة 131 شخصا غير مذكورين، وردت أسماءهم في تقارير وزارة الداخلية والبنك المركزي التونسي ولجنة مقاومة الفساد والمكلف العام بنزاعات الدولة.

⬇︎ PDF

إن القائمة المُلحقة بالمرسوم لم تشمل كل أفراد العائلة الحاكمة والمقرّبين منها، ولم تستوعب كبار المسؤولين في النظام، وإنما أتت على البعض دون البعض الآخر. ولئن لم تكن الاستثناءات واضحة آنذاك فإنها لم تأت جزافا، وإنما أملتها مصالح الحكم المؤقتة وفرضتها رغبة السيطرة على الشارع الثائر. وستؤثر سمات ولادة القائمة الأولى على بقية المسار الذي طبعته ثنائية: الضبابية/ الاستثناء.

من جهة أخرى لم ينص المرسوم على مسألة تحجير السفر-التي ستمثل لاحقا آلية ابتزاز- وترك الأمر لوزارة العدل التي أصدرت بلاغا بتاريخ 11 أفريل 2011 يقضي بتحجير السفر على وزراء ومستشاري الرئيس السابق. وقد عادت هذه المسألة لتطرح جدلا كبيرا أثناء السماح للسيدة العقربي، عضو اللجنة المركزية لحزب التجمع المنحل، بمغادرة البلاد باتجاه فرنسا يوم 30 جويلية 2011 عبر مطار تونس قرطاج، رغم القضايا المنشورة ضدها. وقد نجم عن هذه المغادرة المشبوهة نزاع بين وزارة العدل ووزارة الداخلية حيث اتهم وكيل الجمهورية محمد نجيب معاوية إدارة أمن المطار بتسهيل سفر العقربي، وبالمقابل أشارت وزارة الداخلية في بلاغ أصدرته آنذاك إلى أن إدارة الحدود والأجانب تلقت مكتوبا يحجّر سفر المعنية من قبل الجهات القضائية يوم 3 أوت 2011، أي بعد ثلاث أيام من مغادرتها البلاد.

تحجير السفر بمقياس المصلحة الحزبية

مع صعود حركة النهضة إلى سدة الحكم إثر انتخابات 23 أكتوبر، كان من المنتظر أن يعود ملف رجال الأعمال المقربين من النظام السابق إلى واجهة الحياة السياسية خصوصا وأن الحركة الإسلامية المنتصرة ما فتئت تتغنى بشعار “المحاسبة”.

في الأشهر الأولى من حكم الترويكا تهاطلت التقارير الإعلامية التي تشير إلى أن هناك 460 رجل أعمال ممنوعين من السفر، الأمر الذي دفع بوزير العدل والقيادي بحركة النهضة، نورالدين البحيري، إلى تفنيد الأرقام الواردة في هذه التقارير، مشيرا في أواخر شهر أوت 2012 إلى أن هناك 70 رجل أعمال فقط ممّن شملهم قرار تحجير السفر. وقد سبقت تصريحات نور الدين البحيري تحركات قامت بها حكومة الجبالي لرفع قرار تحجير السفير والعفو عن بعض رجال الأعمال.

شمل العفو 20 رجل أعمال حسب ما أعلنه آنذاك رضا السعيدي، الوزير المكلف بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وقد برّر الوزير هذا القرار بـ”ضعف القرائن المتعلقة بملفاتهم”. وفي نفس الاتجاه واصل السعيدي، القيادي في حركة النهضة، مفاوضاته مع رجال الأعمال حيث لم يخفِ -في إحدى تصريحاته الإعلامية- التقاءه شهر أوت من سنة 2012 بعدد من رجال الأعمال المعنيين بقرار تحجير السفر في سهرة رمضانية، وأفاد أنه “وعدهم بالإسراع في معالجة الملف في إطار تسوية عادلة وشفافة”.

إن قائمات رجال الأعمال المُعلنة من قبل وزراء النهضة، سواء المعنيين بالعفو أو بتحجير السفر، كانت تتسم بضبابية الأسماء والمعايير وتخضع لآلية الحذف حسب نتائج المفاوضات وليس وفقا لقرائن الإدانة القضائية. ويمكن استجلاء هذا الأمر من خلال مقارنة أرقام نورالدين البحيري بعدد الملفات التي أشار إليها تقرير لجنة تقصي الحقائق حيث ورد فيه “ولقد تولت اللجنة توجيه إحالات إلى النيابة العمومية يقارب عددها 300 إحالة (آخر المعطيات)، وذلك إلى غاية 20 أكتوبر 2011، مع العلم أن أهمية الملفات المحالة للنيابة تختلف من حيث حجم الفساد والرشوة ومن حيث مركز المسؤولين المعنيين بالممارسات المشبوهة وعدد الأشخاص المعنيين فيها”.

وفي نفس السياق تكشف القائمة التي تحصّل عليها موقع نواة -والتي تعود إلى تقرير داخلي للجنة المصادرة سنة 2013- عن عدة أسماء لمقربين من النظام السابق من بينهم رجال أعمال لم يشملهم مرسوم المصادرة وخضعت ملفاتهم لمنهج الفرز الذي يحدده معيار الولاء الجديد للحزب الحاكم(انظر القائمة في الوثيقة المسربة). وتتضمن هذه القائمة 207 شخصا منشورة ضدهم قضايا جزائية ومالية، البعض منهم وقع تحت طائلة التتبع والبعض الآخر  شملته حملة “الاستتابة الاقتصادية” أي تسوية وضعياتهم خارج الأطر القانونية. ويشترك الواردون بهذه القائمة في عدم ذكر أسماءهم بقائمة مرسوم المصادرة.

⬇︎ PDF

لم يسلم الأسلوب المتّبع من قبل حكومة النهضة من انتقادات إعلامية وسياسية واسعة، وقد عبر اتحاد الأعراف عن استياءه من تدخل الحكومة في ملف رجال الأعمال حيث أشارت وداد بوشماوي في إحدى تصريحاتها في شهر أوت سنة 2013 إلى أن هذا الملف أصبح “ورقة انتخابية”، وفي نفس السياق أكدت رئيسة اتحاد الأعراف أن الحكومة رفضت مدّها بقائمة رجال الأعمال الممنوعين من السفر.

الاحتجاج الذي أصبح مُعلنا في أوساط الأعمال بخصوص ما اعتبروه ابتزازا من قبل الحزب الحاكم، جعل حركة النهضة تسعى إلى التملّص من الملف بعد أن ظفرت بتسويات مع بعض رجال الأعمال، ونفس وزير العدل السابق نور الدين البحيري أكد في إحدى تصريحاته اللاحقة -عندما تقلد منصب وزير مستشار في حكومة علي العريض- أن “الملف عند القضاء وليس عند الحكومة”، في حين أنه أبدى في فترة سابقة (أواخر أوت 2012) إمساكه بالملف وقدّم أرقاما سبق وأن أشرنا إلها.

نداء تونس: مغازلة رجال الأعمال والإعفاء الناعم

ساعدت التحولات السياسية التي شهدتها البلاد بعد اغتيال الشهيد محمد البراهمي في 25 جويلية 2013 على إعادة طرح ملف رجال الأعمال من جديد. وبعد تخلي حكومة النهضة عن السلطة وتشكيل حكومة المهدي جمعة في 26 جانفي 2014، ظهر التحرر النسبي من وطأة المقايضة الحزبية ليلعب بذلك الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية دورا محوريا في الدفاع عن رجال الأعمال المتورطين في الفساد. وبعد الاحتجاج الذي سجّلته وداد بوشماوي ضد حكومة علي العريض بسبب إخفاء قائمة الممنوعين من السفر، أعلنت -بعد مرور شهرين فقط من تنصيب حكومة جمعة- أن قائمة رجال الأعمال الممنوعين من السفر تضم 43 شخصا. وتشير هذه القائمة إلى تحوّل جديد مقارنة بالعدد الذي أعلنه نورالدين البحيري حيث سقط 27 اسم من القائمة، في ظروف أقل ما يمكن القول عنها أنها ملتبسة.

بالتزامن مع ذلك بَرز حزب نداء تونس كلاعب سياسي جديد ومؤثر، وكان من الطبيعي أن يعمد إلى استثمار الغضب في صفوف قطاع واسع من رجال الأعمال، الذي خلّفه منهج المقايضة المعتمد من قبل الحركة الإسلامية المتخلية عن الحكم. ولاحت سياسة الاستمالة “الندائية” أثناء الإعلان عن القائمات الانتخابية التي ضمت ترسانة من رجال الأعمال، وشكّل هذا الخيار عاملا مساعدا على تعزيز الإمكانيات المالية لحزب نداء تونس، الذي فاز في الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة.

وفي سياق الحرص على المحافظة على هذا الدعم الانتخابي وتحويله إلى قوة إسناد في الحكم، شرع الحزب الحاكم الجديد في تسوية ملف رجال الأعمال الفاسدين، من خلال وضع إطار قانوني تمثَّل في “مشروع قانون المصالحة الاقتصادية” الذي أطلقه الرئيس السبسي منتصف السنة الفارطة وحظي بتزكية من مجلس الوزراء. ولئن لم تفلح رئاسة الجمهورية في تمرير هذا القانون بسبب المعارضة الاجتماعية والسياسية التي اصطدم بها، فإنها عادت إلى طرحه مؤخرا، معوّلة على دعم حركة النهضة التي تسعى هي الأخرى إلى تسوية هذا الملف.

هل اتفق الشيخان على قائمة نهائية ؟

إن قائمة رجال الأعمال المعنيين بالمحاسبة مازالت قيد المسكوت عنه، وعادة ما يبرّر المسؤولون هذه السمة بأن الملف تحت أنظار القضاء. وبالإضافة إلى هذا يعمد البعض الآخر إلى تضخيم القائمة والإيهام بأنها تضم الآلاف في إطار الدعاية لمشاريع المصالحة، وفي هذا السياق أشار مدير الديوان الرئاسي السابق والقيادي في نداء تونس، رضا بالحاج، إلى أن قائمة المعنيين بقانون المصالحة تضم 7 آلاف موظف ومسؤول، دون الإشارة إلى عدد رجال الأعمال.

من جهته تكتّم خليل الغرياني، رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية باتحاد الأعراف، في اتصال هاتفي أجراه معه موقع نواة، عن قائمة رجال الأعمال الممنوعين من السفر، مُكتفيا بالقول أن الملف تحت أنظار القضاء. وبالمقابل سبق وأن أشرنا إلى أن السيدة وداد بوشماوي كشفت في فترة حكومة المهدي جمعة عن قائمة تضم 43 رجل أعمال ممنوعين من السفر.

إن التكتم الكبير الذي يحيط بملف رجال الأعمال المتورطين في الفساد يخفي التسويات السياسية التي تجري مؤخرا داخل الإئتلاف الحاكم، بين حزب نداء تونس وحركة النهضة، ومن المنتظر أن يتم نظم هذه التسويات في إطار الدفع من جديد بمشروع المصالحة الذي يبدو أن حركة النهضة قبِلت به كحل لتصفية “تركة الماضي” وربط حبائل الود مجددا مع شق من رجال الأعمال الغاضبين من سلوك المقايضة القديم، وفي هذا السياق لوح رئيس حركة النهضة بمبادرة جديدة تحت عنوان “المصالحة الشاملة”.