بقلم رضا السمين،

طال ليل الظلم في بلاد العرب حتى استيئس عوام المثقفين من بزوغ فجر الحرية والمواطنة والعدالة… ولم يبق إلاّ الحسرة والخوف والانتظار. أدمن الناس الترقّب وانتظار أشعّة الخلاص حتى مات من مات وعاش كالأموات من بقي تحت القهر والحرقة والفقر، سنوات من فوقها سنوات، وكثرت فِرقُ العويل وجلد الذات والثرثرة في انتظار الصباح الذي لا يأتي …

فإذا بشعب تونس يقرّر يوم 17 ديسمبر 2010 ، وعلى خطى الشهيد محمد البوعزيزي، أن لا ينتظر شمسا ولا مخلّصا، بل أن يفجّر نور الشمس من روحه بما يملك من حناجر وعزّة نفس وشبكات الصداقة، بمظاهرات مليونية واحتجاجات مستمرة شملت جميع فئات الشعب كالعمال والفلاحين والطلبة والموظفين والبطّالة وأساتذة الجامعات والمحامين والذين انتفضوا وأصرّوا على الحصول على حقوقهم.”التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق”، “خبز وماء وبن علي لا”، “الشعب يريد إسقاط النظام”. دور الشباب كان محوريا في التخطيط والإبداع وحشد الجماهير لدفعها للانضمام إلى الفعل الثوري حتى هروب الطاغية ومتابعة أهداف الثورة. في تونس شاركت النساء من مختلف الأوساط والأعمار والانتماءات، شاركن منذ بداية الثورة حتى هروب بن علي والطرابلسية. وقد رسخت في ذهن الملايين من المشاهدين صورة تلك الشابة التونسية وهي تنحني على شاب مُلقى على الأرض نتيجة عنف البوليس، لتقدم له إسعافات أولية واضعة فمها بمحاذاة فمه، في لحظة وطنية تغلّب فيها الحسّ الثوري على كل الاعتبارات الأخرى. جماهير تتحرّك بدون قيادة موحّدة ولا أدلوجات، تجمعها وحدة الهدف وتفعيل مفهوم الجماهير الغفيرة كمحرّك أساسي للثورة. ثورة الكرامة هذه استبقت ثورة أخرى ربّما كانت لا تبق ولا تذر ألا وهي ثورة الجياع. سبقتها ولم تلغ أسبابها… وتبقى الأخيرة محتملة جدّا إذا لم يتمّ تغيير الواقع الاقتصادي والجهوي والاجتماعي سريعا، فالجياع لن يصبروا بعد الثورة طويلا، برغم عودة روح الانتماء للوطن والفخر به لعامّة التونسيين. القضاء العاجل على الجوع والبطالة أمّا القضاء على الفقر فيحتاج إلى خطط اقتصادية وبرامج علمية طويلة أو متوسّطة المدى.

نأسف لوجود حالة غير مسبوقة من الهرولة السياسية على حساب العمل الاجتماعي، وعلى حساب تركيز الجهد، في هذه الفترة الانتقالية، ضدّ بقايا التجمّع الفاسد والمتآمرين على الثورة… واجبنا اليوم مواصلة الحذر من فلول الثورة المضادّة والحضور الفاعل في الشارع والساحات ضدّ البلطجة السياسية، والحرص على مدنية الدولة ومدنية الحكم، وذلك بالعمل على التعجيل بانتخاب المؤسسات الدستورية لتقصير الفترة الانتقالية وعودة الجيش إلى ثكناته… هذا أهمّ واجب اليوم خاصّة ونحن في بلد لم يعرف الديمقراطية منذ استقلاله، والأكيد الأكيد أنّ الذين لا مصلحة لهم في الثورة عملوا منذ 14 جانفي وسيعملون من أجل إحباط ثورتنا للبقاء في السلطة أو لتقاسمها مع العسكر، ومواصلة نهب ثروات البلاد وحماية القتلة والفاسدين. وتخريب العمل الثوري بالمظاهرات المطلبية المستمرة، والتي تتحول في غالب الأحيان إلى فوضى في الشارع تعوق أي عملية بناء، وبالانفلات الأمني الذي يشرف عليه ويديره رؤوس الفساد. من الواضح اليوم وضوح الشمس أنّ الشعب، في هذه المرحلة الانتقالية، لا يملك القرار السياسي الذي ما زال بيد بقايا النظام المخلوع والمتآمرين الجدد أصحاب عناوين السفارات ونزاعات المسائل الهامشية لتفتيت قوى الشعب، والوصاية على الديمقراطية المزيفة والتي مزّق أكاذيبها شبابُ الثورة.

قال الحِميَري في كتابه، الروض المعْطار في خبر الأقطار ” إنّ تونس تقصم الجبابرة :وكلّ جبار إذا ما طغى – وكان في طغيانه يسرفُ – أرسله الله إلى تونس – فكلّ جبّار بها يُقصف – “… إنّ شعب تونس لم يك ميّتا فأحيته طليعة ما حتى تنصّب نفسها وصيّا على ثورته، وليس بقاصر يحتاج للعجزة للأخذ بيده إلى بَرّ الأمن، والذين لم ير الشعبُ يوما أمانا مع أجهزة أمنهم الفاسدة، ولن يقبل الشعب التونسي، بعد ثورته العظيمة، أن تحتكر أقليّة طفيلية معروفة خيرات البلاد وإنتاجَ الكادحين ولسان حالها الفاسد يقول “ونشرب إن وردنا الماء صفوا – ويشرب غيرنا كدرا وطينا”… ولن يقبل الشعب التفريط في حرّياته وكرامته مقابل الأمن والعودة إلى حكم الفساد والظلم، مهما كانت محاولات الإعلام الرجعي والأمن السياسي ومدراء السجون لنشر ثقافة ونفسية الخنوع تحت غطاء القبول بالأمر الواقع، وإشراف جهاز قمع رهيب متشعّب بسجونه وتعذيبه ومخبريه، ورعايته للفساد الإداري والسياسي وما يسبّبه من اختفاء الأموال بالملايين والمليارات وانعكاسات ذلك على التعليم والصحة والبنية التحتية والخدمات الأساسية (وكلها من حقوق الإنسان).

خلايا النهب والقمع، التي أعادت تنظيم قواتها بعد تولّي السّبسي، وتفاقمت عددا وعدّة من حول كبار رؤوس الفساد والمتستّرين على القنّاصة، من ميليشيات التجمّع والأمن السياسي. هؤلاء هم أعداء الثورة. هُم العدوّ.

هل مؤسسة الأمن مع الثورة، أم ضدّها، أم في منزلة بين المنزلتين، أم تقف على الحياد ؟ وإلى متى يبق سلوكها حائرا ومحيّرا قبل انخراطها في واحد من المعسكرين ؟ وما هي شروط وتبعات ذلك على المجتمع المدني وحرّياته ؟ إنّ تورّط الأمن، سواء عن طريق السكوت أو التواطؤ أو المشاركة، في مؤامرات الترويع الأمني ضدّ المواطنين، وضدّ المتظاهرين والمعتصمين بصفة خاصة ؛ ثمّ تشغيل اسطوانة “البعبع” الذي يخشاه الغرب، أي التلويح بخطر انقضاض الإسلاميين ؛ بحيث يصبح الحلّ الأمني غطاء لانقلاب عسكري على المجتمع المدني، وخشبة الخلاص لبقايا النظام المخلوع لسرقة الثورة وهدر دماء الشهداء وتضحيات المجتمع الأهلي ؛ أيّ تورّط كهذا، نأمل أن لا يقع، هو أخبث أنواع الثورة المضادة. أسئلة خطيرة نطرحها مع إيماننا العميق بقدرة هذا الشعب بتعدّديته العظيمة وإبداعه، في الساحات والشوارع والمواقع، على التصدّي لأيّة محاولات لسرقة مكتسبات الثورة والعودة إلى الوراء، ولن تذهب دماء الشهداء والجرحى ومعاناة الأهالي هدرا مهما كان الثمن. ولن يفلح أيّ استبداد جديد في قهر هذه الثقافة السياسية الوطنية الحرّة التي وُلدت من رحم التضحيات والثورة.