الصادق بلعيد هو أستاذ متميّز بالجامعة التونسيّة ومختصّ في القانون العامّ وعميد سابق بكليّة الحقوق والعلوم السياسية بين 1971 و1977. بعد أن هاجم بشراسة قيس سعيّد وانتقد بشدّة مشروعه السياسي، أصبح بلعيد من المُقرَّبين من الرئيس الّذي انفضّ حوله أقرب مساعديه، بعد أن لفظ حركة النّهضة ورفض الحوار معها، وهي نقطة التقاء سعيّد بعدد من الأكاديميّين.
ظهر الصادق بلعيد على شاشة الجزيرة ليلة 14 جانفي 2011 إثر هروب بن علي ليُعلن الخطأ الإجرائي الّذي قام به محمّد الغنّوشي الوزير الأوّل الأسبق في حكومة بن علي، حيث أعلن تولّيه الرئاسة بصفة وقتيّة بتفويض من الرئيس طبقا للفصل 56 من دستور 1959. لكنّ بلعيد رفض تطبيق هذا الفصل واعتبره مغالطة ترتقي إلى درجة الخيانة، إذ لا يمكن لرئيس أطاحت به ثورة شعبيّة أن يفوّض مهامّه إلى رئيس وزرائه. واقترح في هذا الصّدد تولّي رئيس مجلس النوّاب مهامّ رئيس الجمهورية طبقا للفصل 57 الّذي ينصّ صراحة على التدابير الواجب اتّخاذها في حال الشغور النهائي لمنصب رئيس الجمهورية. وهو ما حدث في السويعات القليلة الموالية.
الصادق بلعيد ومشاريع الدساتير
في فيفري 2011، وعند تتالي الاعتصامات التي اختلطت فيها الشعارات السياسيّة المطالبة بتعليق العمل بدستور 1959 وإرساء نظام برلماني مع المطالب الاجتماعيّة المنادية بتوفير الشغل والقطع مع الفساد والمحسوبيّة، أصدر العميد الصادق بلعيد وتلميذه قيس سعيّد بيانا أعلنا من خلاله وفاة دستور 1959 والحاجة إلى هيئة تأسيسية جديدة. وتلقّف عدد من السياسيّين هذا المطلب وتمّ تصديره إلى عموم الشعب الغاضب، الّذي تبنّى شعار إعداد دستور جديد. وتمّ الضغط على مؤسّستي الرئاسة والحكومة، فألغى فؤاد المبزّع رئيس الجمهورية آنذاك العمل بالدستور، وعيّن الباجي قائد السبسي رئيسا للوزراء بدلا عن محمّد الغنوشي.
أعدّ بلعيد مشروعا أوّليّا للدستور في 12 جويلية 2011، نصّ على مبادئ كبرى، مثل إقرار حريّة الضمير وإلغاء عقوبة الإعدام، والمساواة التامة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، والحق في العمل والضمان الاجتماعي والتزام الدولة بمحو الأمية في برامجها التعليمية، وحق المواطن في المراسلة الكتابية للمجلس التأسيسي.
ويجدر الذكر أن قيس سعيد يعارض المساواة التامة ويفضل مفهوم “العدل”. هذا ما صرح به مراراً عدةً في علاقةٍ بالمساواة في الميراث. كما يرفض إلغاء عقوبة الإعلام. وليست هذه النقاط الخلافية الوحيدة بين سعيد وبلعيد. إذ اعتبر هذا الأخير إقالة شوقي الطبيب من رئاسة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد قراراً غير دستوريٍ.
كما تطرّقت هذه الوثيقة إلى التدابير الواجب اتّخاذها في حال الخطر الدّاهم (الفصل 102)، وهي التدابير ذاتها التي نصّ عليها الفصل 80 من دستور 2014، والمتمثّلة أساسًا في استحالة حلّ البرلمان وعدم إمكانيّة سحب الثقة من الحكومة.
ليست فكرة التدابير الاستثنائية في حال ظهور خطر داهمٍ البذرة الوحيدة التي نثرها بلعيد في السنوات الفارطة حتى تثمر في ذهن قيس سعيد وفي فعله السياسي. فكرة الاستفتاء على الدستور هي أيضاً من اقتراحاته السابقة.
تمهيد ناعم للإلغاء دستور 2014
وفي حوار له نُشر على موقع “جون أفريك” في 19 أكتوبر 2011، اعتبر بلعيد أنّ مبادئ حقوق الإنسان والحريات والكرامة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية هي التي ألهمت الثورة التونسيّة، وهي تمثّل نقطة اللاعودة، مُشيرا في ختام حواره إلى “ضرورة عرض الدستور على استفتاء شعبي” حال إعداده. ولم يُخف خيبة أمله من دستور 2014 في مقال نشره بتاريخ 6 ديسمبر 2020، حدّد فيه علّتَين أساسيّتين، وهما غياب البعدَين الاقتصادي والاجتماعي في صياغة فصوله، والحال أنّ السياق الّذي كُتب فيه كان مشحونا بالمطالب الاجتماعية، إلى جانب عدم وضوح مكانة الدّين في الدستور وفي التشريع بشكل عامّ. وهو ما دفع بلعيد إلى اقتراح تعديل للفصل الأول من الدستور يُلغي التنصيص على دين الدّولة، ليصبح على النحو التالي:
تونس دولة حرّة مستقلّة ذات سيادة
تونس دولة مدنيّة تقوم على مبادئ الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة بين المواطنين، والعدالة، والتضامن الاجتماعي واحترام دولة القانون
فيما تنصّ الفقرة الثالثة من الفصل الأوّل على أنّ العناصر المُكوِّنة للموروث الثقافي الوطني يتمّ تحديدها بقانون أساسي، ويُقصَد بالأساس اعتبار الدّين رمزا من الرّموز الثقافية لا يمكن إدراجه بالدّستور.
تميّزت تلك الفترة من سنة 2020 بتردّي الوضع البرلماني من خلال تعطيل أعمال الجلسة العامّة وتبادل العنف والإصرار على تشويه صورة المؤسسة البرلمانية. في هذا الصّدد، تدخّل الصادق بلعيد على إذاعة موزاييك أف أم ليقترح تجميد أحكام الدستور واللجوء إلى أهل الخبرة لتغيير النظام السياسي والانتخابي، مُذكّرًا بمبادرة 2011 التي صاغها مع تلميذه قيس سعيّد التي تدعو إلى التخلّي عن دستور 1959 وإعادة تأسيس جمهورية جديدة. وقال:
على الرئيس قيادة ما يُشبه الثورة، وتونس ماضية في هذا الاتجاه
في إشارة إلى تفعيل الفصل 80 بشكل موسّع، يمكّن الرئيس من حلّ البرلمان ومراجعة الدّستور في ظرف شهرين. وفسّر العميد هذا الفصل، قائلا إنّ تقدير الخطر الداهم هو مسألة ذاتية، وأنّ لجوء الرئيس إلى المؤسسات الحالية -يقصد البرلمان- لا يسمح بإيجاد حلّ. فتعديل الدستور يتطلّب أغلبيّة برلمانية معزّزة، وهو أمر غير وارد لأنّ الأغلبية ليست في صفّ الرئيس. وقال:
تونس الآن في منعرج يفترض مبادرات جريئة لتعزيز الديمقراطية وألا ننزلق للدكتاتورية
ويبدو أنّ التلميذ الوفيّ لتعليمات أستاذه قد استوعب الدّرس بعد سبعة أشهر، ليُلعن تفعيل الفصل 80 من الدستور وتعليق أعمال البرلمان ومن ثمّ تجميده، مع إقالة الحكومة وتولّي السلطتَين التنفيذيّة والتشريعيّة بنفسه.
علاقة متذبذبة بقصر قرطاج
كان الصادق بلعيد من بين الأطراف المساندة لمبادرة وثيقة قرطاج التي اقترحها الباجي قائد السبسي بهدف تكوين حكومة وحدة وطنيّة في جويلية 2016. ولكنّه في المقابل انتقد بشدّة هذه المبادرة في حوارٍ سابقٍ واعتبر أنّ فيها إخلالات دستوريّة. كما انتقد الباجي قائد السبسي وقال إنّ الارتجالية التي تطبع سلوكه السياسي قد تدفع البلاد إلى الدكتاتوريّة.
من ناحية أخرى، وجّه العميد بلعيد نقدا لاذعا لمشروع قانون المصالحة في المجالَين الاقتصادي والمالي، حيث أكّد في جلسة استماع في لجنة التشريع العامّ بالبرلمان المُنحلّ انعقدت بتاريخ 22 جويلية 2016 ضرورة إعادة صياغة النصّ لأنّ من كتبه “بوجادي”، أي أنّه غير مؤهّل لكتابة النصوص القانونية. وانتقد في الإطار ذاته منظومة العدالة الانتقالية قائلا:
مبدأ العدالة الانتقالية غير سليم، والطرف المكلّف بتنفيذه ليس ملائما.
في إشارة واضحة إلى رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين، التي قال إنّها “مجنونة”، إثر عرض التمديد في مدّة عمل الهيئة على أنظار مجلس نوّاب الشعب المنحلّ في مارس 2018.
في المقابل، لم يعلُ صوته بنقدٍ من هذا القبيل تجاه المصالحة الجزائية التي سنها سعيد مؤخراً.
عند تقارب الصادق بلعيد مع قيس سعيّد إثر اتخاذ التدابير الاستثنائيّة، أصبح العميد السابق لكليّة الحقوق عرّابا لدستور الجمهورية الثالثة، يجتمع بالرئيس ويُبارك قراراته .لكن، إلى أي مدى؟ فهل يقبل بلعيد بالعدل بدلاً عن المساواة؟ وهل يذعن لكل نزوات الرئيس أو يبقى على مبدئه؟ تذبذب مواقفه السابقة من قيس سعيد لا ينبئ بشيءٍ من الانسجام بين الأستاذ وتلميذه.
…هذا الموضوع هام جداً، إنه يتعلق بدستور ، وعاء قانوني للدولة ومؤسساتها ، بداية يفترضُ ان من يضع مشروع القانون هم مجموعة من جهابذة واساتذة القانون ، ولا غرو ان يكون للصادق بلعيد الصوت المرجح ، في حالات التصويت على المواضيع الخلافية..
لا بأس ان يكون في الدستور مادة تتحدث عن علمانية الدولة ، وبالمناسبة في هذة الجزئية تعتبر تونس متقدمة عن باقي الدول العربية، و مسألة العدالة ام المساواة امام القانون ، فانة من المفيد التأكيد على مساواة الجميع أمام القانون ومع التأكيد على العدالة طبعاـ، لان ترك هذا النص يخص العدالة وفقط ، فإن معيار العدالة قد يختلف من رئاسة دولة الى أخرى ومن حزب حاكم إلى آخر ” جميع المواطنون سواسية امام القانون” أكثر تحديداً ، ويعمل بها في أغلب دساتير الدول المتحضرة…و تجدر الإشارة إلى مسألة هامة أخرى وهي التحصين الدستوري لمؤسسة رئاسة الجمهورية وكذلك مؤسسة البرلمان ، هاتان المؤسستان من المفيد ان يتم ضمان عدم تغول الواحدة على الأخرى واستثني هنا الظروف الطائة والموجبة، ك إعلان الأحكام العرفية مثلاً…. أما بالإشارة إلى المادة