فور إعلان الخبر، سارعت بعض القيادات المتطرفة المحسوبة على الإسلام السياسي إلى تسويق الحكم في قضية الاتجار بالبشر وكأنه تبرئة بالكامل للمتهم وللمدرسة على حدّ سواء. فقد قام كل من سيف الدين مخلوف وعبد اللطيف العلوي، القياديان في ائتلاف الكرامة، بالهجوم على الإعلام وعلى مقدم برنامج “الحقائق الأربع” حمزة بلومي، الذي كشف قضية ما سمي المدرسة القرآنية بالرقاب، وتسويق الحكم في ملف الاتجار بالبشر وكأنه تبرئة لصاحب المدرسة.

اغتصاب واستغلال جنسي للأطفال

تعود أحداث قضيّة مدرسة الرقاب إلى تاريخ 31 جانفي 2019، حيث كشف برنامج “الحقائق الأربع” على قناة الحوار التونسي عن “مدرسة قرآنية” في منطقة الرقاب بسيدي بوزيد فتحت أبوابها منذ سنة 2012، وتعمل خارج إطار القانون ومناهج الدولة التعليمية. ورغم قرارات الغلق، فإنّها تحدّت الجميع وواصلت العمل في مخالفة صريحة للقانون. على إثر بثّ التحقيق، أذن وكيل الجمهورية بسيدي بوزيد بإخراج الأطفال من الفضاء الذي كانوا يقيمون فيه، وتم الاحتفاظ بصاحب المدرسة من أجل الإتجار بالأشخاص عبر الاستغلال الاقتصادي والاعتداء بالعنف، ومن أجل الإشتباه في الإنتماء إلى تنظيم إرهابي. وأصدر قاضي اﻷسرة بالمحكمة اﻻبتدائيّة بتونس قرارا يتمّ بمقتضاه إعادة أطفال مدرسة الرقاب إلى عائلاتهم بداية من 12 فيفري 2019.

منذ 4 أفريل 2019، تولت وزارة التربية بالتنسيق مع كافة الوزارات المعنية إعادة كل الأطفال الذين انقطعوا عن الدراسة والتحقوا بفضاء الرقاب والذين تتراوح أعمارهم بين 10 و18 سنة إلى المؤسسات التعليمية والتكوينية العمومية. وقرر رئيس الحكومة آنذاك يوسف الشاهد إعفاء كل من والي سيدي بوزيد ومعتمد الرقاب من مهامهما بعد أن تحولت ما يعرف بمدرسة الرقاب الى قضية رأي عام، على المستويين الوطني والدولي، لا سيما إثر اكتشاف عمليات اغتصاب واستغلال جنسي ضد بعض الأطفال، حيث قضت المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد في جويلية 2019 بسجن أحد “المدرسين”  بعشرين سنة سجنا لاغتصابه طفلين بهذه “المدرسة”.

 القاعدة وائتلاف الكرامة على خط الدفاع

أصدر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بيانا مع بداية أزمة مدرسة الرقاب بعنوان ” الحرب على الإسلام في تونس والجزائر.. إلى متى السكوت”، انتقد فيه تعاطي الحكومة مع هذه القضية، ودعا إلى الجهاد ضدها دفاعا عن الإسلام. كما ذهب رئيس كتلة ائتلاف الكرامة سيف الدين مخلوف إلى حد التهجم على ممثل النيابة العمومية بسبب قرار هذا الأخير الاحتفاظ بصاحب المدرسة وأحد “المدرسين” الذين تعلقت بهم تهمة الاغتصاب. وتسبب هذا التهجم في إدانة مخلوف نفسه بالسجن سنة و8 أشهر. ولكن لماذا تصر التنظيمات المتطرفة والإرهابية على الدفاع عن مثل هذه “المدارس القرآنية” على الرغم من ثبوت اكتشاف انتهاكات خطيرة بحقهم مثل الاعتداءات الجنسية؟

توجد في تونس حوالي 1130 جمعية خيرية أُحدثت أغلبها في الفترة الممتدة بين 2011 و2014، أي الفترة التي حكمت فيها الترويكا بقيادة حركة النهضة وتنشط ضمنها أكثر من 300 جمعية قرآنية، أحدثت داخلها ما سمي بالمدارس القرآنية، وهي مدارس لا تخضع لمراقبة وإشراف وزارة التربية مثلما ما هو الشأن للمدارس العمومية والخاصة في التعليم العادي. وهي لا تخضع أيضا لمراقبة وزارة التكوين المهني والتشغيل مثلما هو الشأن بالنسبة لمدارس التكوين المهني، وهي أيضا لا تخضع لوزارة المرأة والأسرة مثلما هو الشأن بالنسبة لرياض الأطفال والتعليم ما قبل المدرسي. كما لا تخضع لرقابة وزارة الشؤون الدينية مثلما هو الشأن بالنسبة للكتاتيب التي تعلم القرآن الكريم، مما يعني أنها هياكل تعمل خارج نظر ورقابة الدولة.

وقالت روضة العبيدي رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر أن هؤلاء الأطفال الذين يعيشون تحت وطأة التخويف والترويع يجهلون جميع العلوم ما عدى قصص القرآن. كما يقع تشغيلهم في البناء وفي جني الزيتون. ويتعرض الأطفال في هذه المعتقلات المسماة مدارس قرآنية، إلى ما أسمته رئيسة هيئة مكافحة الاتجار بالبشر، خروقات “فظيعة” ، مثلما حصل في المدرسة القرآنية بمعتمدية الرقاب من ولاية سيدي بوزيد حيث “تعرض هؤلاء الأطفال لانتهاكات إنسانية بشعة جعلتهم يعانون من أمراض جسدية ونفسية خطيرة جدا”.

حديقة خلفية وخزان سياسي

وقد كان الكشف عن محتشد الرقاب بمثابة الصدمة بالنسبة للتونسيين خصوصا بعد اكتشاف أن الأطفال الذين عُثر عليهم في المدرسة تعرضوا للاغتصاب والضرب بالفلقة، وأُجبروا على تناول أطعمة منتهية الصلوحية بهدف ”مجاهدة النفس”. ويعمد القائمون على هذه المدارس على حرمان الأطفال من النوم وإجبارهم على أكل طعام متعفن بالدود والنوم على الأرض، والعيش في ظروف قاسية وغير إنسانية، مع زرع الخوف في نفوسهم. ويرفض بعض “تلامذة ” ما سمي بالمدرسة القرانية بالرقاب مصافحة النساء أو النظر إليهنّ.

ويمكن هذا الأسلوب في ” التعليم” من السيطرة على الأطفال وتطويعهم وكسر شخصياتهم، ويحولّهم لخزّان جهادي احتياطي للتنظيمات الإرهابية، وفي أحسن الحالات التي ينجو فيها هؤلاء من قبضة التنظيمات الجهادية فإنهم يتحولون إلى خزان سياسي وانتخابي مفضّل لتنظيمات الإسلام السياسي الأشد تطرفا على غرار ائتلاف الكرامة. لذلك يمثّل هذا النوع من المدارس الحديقة الخلفية لتيارات الإسلام السياسي، حيث يمارس فيها كل أنواع الأدلجة والدمغجة بتطويع الدين لأجنداتهم السياسية وتفريخ الإرهاب. وهو ما يفسر سعيهم المحموم لتبييض تلك البؤر والاستماتة في الدفاع عنها.