في الوقت الذي كان الرأي العام ينتظر شخصية سياسية متحزبة أو من خارج الأحزاب لكنها متمرسة ولديها خلفية تؤهلها للحكم، قدم لنا مجلس شورى حركة النهضة شخصية أصغر بكثير من حجم التحديات التي تواجهها البلاد: موظف في الدولة من القطاع الفلاحي شغل منصب كاتب دولة في حكومة الترويكا، أدار مؤسسات اقتصادية، ليست له خبرة سياسية أو مؤهلات قيادية أو حتى كفاءة استثنائية. لم تُعرف عنه مواقف أو آراء فيما يخص الشأن العام في تونس، لا يملك علاقات واسعة في الوسط السياسي والمجتمع المدني باستثناء علاقته بحركة النهضة. باختصار هو لا يتمتع بأي ميزة من الميزات التي يجب أن تتوفر في رجال الحكم.

هو رجل ستيني أصيل ولاية القيروان، باختصار مختص في التنمية الفلاحية وإدارة المؤسسات وحاصل على شهادة المرحلة الثالثة في الفلاحة، عمل في القطاع العام وكان مشرفا على إدارة الجودة والتنمية بوزارة الفلاحة قبل اضطلاعه بإدارة إحدى الشركات في القطاع الخاص، تم تعيينه كاتبا للدولة لدى وزير الفلاحة في حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريض واستمر في منصبه حتى سنة 2014.

فشل قبل الإمتحان

عندما صرح يوم الأربعاء  8جانفي 2020 بأنه يتعهد “بإدخال تعديلات على تشكيلة الحكومة وتغيير الوزراء الذين تحفظ عليهم السياسيون أو لم يوافقوا عليهم”، بدا الأمر وكأنه مزحة أو خبر ساخر تداولته بعض المواقع الهزلية، لكن التصريح كان صحيحا وحاول الحبيب الجملي من خلاله الحصول على ثقة النواب بأي ثمن كان. هو أكثر التصريحات إذ أنه لم يظهر فقط بمظهر المتردد وغير الواثق من فريقه الحكومي المُقترح، بل إنه وضع جميع وزراءه تحت الضغط نظرا لإمكانية تغييرهم بين لحظة وأخرى وهو ما لم يكن ليقدم عليه لو كان له الحد الأدنى من الدراية والتجربة السياسية.

هذا التصريح الطريف لم يكن الأول منذ تكليف الحبيب الجملي بتشكيل الحكومة في 15 نوفمبر 2019، بل اندرج ضمن تصريحات أخرى مثيرة للجدل من قبيل “وجدنا صعوبة في العثور على كفاءات نسائية”، “قدمت لرئيس الجمهورية قائمة بأسماء الوزراء المقترحين لكنني لن أعرضها عليكم اليوم”، “من يثبت أنه ينتمي إلى حزب سياسي سيتم عزله فورا”.

قد يلخص الجملي حالة العبث السياسي التي تعيشها البلاد، خاصة عندما صرح بأنه يتعهد بتشكيل حكومة كفاءات مستقلة بعيدة عن كل الأحزاب السياسية، وذلك بمناسبة إعلانه فشل المشاورات مع التيار الديمقراطي وتحيا تونس وحركة الشعب. وهو قمة العبث والاستهتار بمصالح الشعب باعتبار أن اللجوء إلى التكنوقراط في الحكم يكون عادة عندما تكون هناك أزمة شرعية أو انقسام حاد في الشارع وليس مباشرة بعد انتخابات عامة أفرزت شرعية جديدة، وإلا لماذا نرهق المواطنين بالتوجه دوريا إلى صناديق الاقتراع إذا كنا سنلجأ في النهاية إلى “التكنوقراط”.

مسؤولية النهضة

لكن حتى لا نضع كل المسؤولية على كاهل الحبيب الجملي، يجب العودة إلى الظروف التي تم فيها اقتراحه لتشكيل الحكومة، النهضة الفائزة في الانتخابات التشريعية تخلت عن فكرة ترشيح أحد قيادات الصف الأول فيها لرئاسة الوزراء بحجة أنها بصدد البحث عن توافق مع أحزاب أخرى وهو ما يستدعي وجود شخصية مستقلة على رأس الحكومة. فوقع الاختيار على الحبيب الجملي من بين شخصيات “مستقلة” أخرى مثل الوزير السابق منجي مرزوق ورئيس اتحاد الفلاحة عبد المجيد الزار.

الاختيار الذي تم بدفع من راشد الغنوشي لم يكن مقنعا داخل حركة النهضة وخارجها، فداخل الحزب تصاعدت موجة غضب من هذا الاختيار. هذا التوجه أدى إلى استقالة الأمين العام زياد العذاري من جميع مسؤولياته داخل النهضة بعد أن كان مرشحا بارزا لرئاسة الحكومة. أما خارج النهضة فقد أثار هذا الاختيار تساؤلات عدة: ما الذي يدفع بالغنوشي، في هذا الظرف الصعب الذي تمر به تونس، إلى اختيار شخصية ضعيفة لا تجربة سياسية ولا مميزات قيادية لها؟

إن حصلت حكومة الحبيب الجملي على ثقة مجلس نواب الشعب فستكون حكومة ضعيفة بحزام سياسي محدود في مواجهة معارضة قوية، وإن لم تحصل على الثقة فسنعود إلى نقطة البداية ونكون بذلك أضعنا على تونس وقتا ثمينا في ظرف داخلي وخارجي لا يحتمل مثل هذا العبث. عندها يجب على السياسيين جميعا استيعاب مصطلح تحمل المسؤولية: عندما تفوز في الانتخابات احكم البلاد مباشرة ولا داعي لاستبلاه الناس.