بقلم المختار اليحياوي

من علامات المحن في هذا الوطن أن تضرب عن الطعام حتى يسمح لك بالكلام.

و من مفارقات الزمن أن تصل إلى حد الإنتحار ليدرك خصمك أنك مصمم على الإنتصار.

فلا أسوأ من هذا الزمن إذن و لا أنكى ممن يصولون فيه بحكمهم بلا خجل.

يقول توفيق بن بريك بأسلوبه الساخر “ما أحلى البلاد بلا عباد”، و أقول جادا غير هازئ “ما أحلى البلاد بلا قوّاد”. فحالنا اليوم حال من لم يبقى أمامه من حل لتستعيد بلاده صفائها و نقائها إلا أن يرحل عنها الزائد في هذا الوطن.

هل نفرغها من عبادها لنتركها سائبة سبيا لمن يحسبون أنهم وحدهم
أصحابها؟

هذا طبعا ما لا يمكن أن يكون كما أحسبكم تدركون.
الزّائد إذن أن يرحّل عنها حكّامها غير مأسوف عليهم كما أجلي عنها المعمرون و لكنهم لا يفهمون.

المستبدون دائما لا يفهمون لأن الإستبداد من صنوف الجنون، لذلك نحتاج للكلام لنقارع السوط بالصوت لنرد الخطاب بالخطاب و عسى أن يبقى كلام بكلام و لا ينالنا الانتقام :

قد تكون البلاد لكم وحدكم، كلها، بعبادها و دوابها كما يتخيّل لكم.

و قد تطول أيديكم كلما ليس لكم حتى مجرد قلم تسحقه أو صوت تكتمه.

و قد تطال أسماعكم همسنا لتقرأ آمالنا و تتجول معنا في مشاهد أحلامنا.

و لكنكم مهما فعلتم و مهما وصلتم في سبر أغوارنا و فك شفرة أسرارنا لن تكتشفوا سوى ما سوف يروّعكم و يدمر كيانكم. لأنكم سترون أنكم ببساطة غير موجودون. فحلمنا أضحى أن نحيا بدونكم، أن نسترد وطننا لنا وحدنا بدون أوصياء، بدون متسلّطين، بدون منافقين، بدون سفهاء و بدون لصوص و لا مرابين.

و منتهى القصور أن يستبد بالمرء الخيلاء و الغرور فيخال نفسه من أصحاب الرسالات و الكتب وهو في مجلس البطش و الظالمين لا يطالعه غير تصنع المنافقين للسرور ووجوم المسحوقين من ظلم الطغاة وضنك المتزلّّّفين فيعتقد أن الأمر أمره و لم يبقى في البلاد من لا يسبح بذكره.

و لكننا عندما نعيش في عصر الإتصالات، وفي حكم من يملكون الفضائيات و كل الأمواج و الذبذبات و كل الصحف و الأنترنات فما أسهل الغرور إليهم وهم يملئون بخطابهم كل الفضاء و ينشرون صداه في كل الأرجاء حتى تنبح به الكلاب و تعوي به الذئاب.

إنهم في غيّهم عاجزون أن يدركوا أن هذا الصخب المحموم صمّت عنه الآذان و انسدّت دونه منافذ القلوب و الأذهان حتى عدى فرط ضجيج يبعث على النفور و الازدراء، ينغص راحة العباد دون أن ينال منهم مراد.

فما عسانا أن نرد على من يعلي صوته بقدر ما تتسع دائرة الصمت من حوله حتى كاد يحول البلاد إلى خراب يحلق فوقها غراب.

ندرك اليوم أننا في مهب قد تعصف بنا في أية لحظة نزوة غضب
لكننا نعي جيدا دورنا…

دورنا أن نضل ذلك التحدي الذي لا ينحني و ذلك الصدى الذي لا ينفك عن قول “لا”.

دورنا أن نجلي الغشاء عن السفاسف و حسابات التفهاء.
فلا خير في الأوطان إن خار رجالها و يا خيبة الرجاء من وطن دنسه عار الجبناء حتى انتهى في مزاد السماسرة و الوسطاء.

* من وحي خطاب 10 ديسمبر 2005

المختار اليحياوي

تونس في 12 ديسمبر 2005