المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

لا أريد لهذا التقرير أن يصبح جزءا من لعبة سياسية (وهو ما يحدث) أو أن يفشل. إن المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، إلغاء عقوبة الإعدام وإلغاء تجريم المثلية الجنسية هي حقوق أساسية لطالما طالب بها المجتمع المدني لعقود طويلة. لأن في إقرارها تأصيل وضمان لقيمة وكرامة الذات البشرية وتركيز لأسس العدل والسلام. هذا بديهي ومفروغ منه. فما يجب التركيز عليه إذن هو خلق أرضية وأدوات حوار للدفع بالحجة والفكرة الكفيلتين بإقناع الآخر المتردد أو الرافض لهذه الحقوق الأساسية وإن أظهر تشددا أو عنفا. هذا التوجه العقلاني هو أساس كل فعل إنساني أو منتوج ديمقراطي بما في ذلك الدستور أو القانون أو حقوق الإنسان وهذه مهمتنا الأساسية كمفكرين، مثقفين، أكاديميين، حقوقيين، صحافيين أو مهتمين بالشأن المدني بالتنصيص على هذا التمشي وتكريسه كمخول أول لأي فعل ديمقراطي داخل واقع مُعقد ومركّب كالواقع التونسي. إذا كنت غير قادرا على الحوار مع الآخر (بمساوئه) فأنت المشكلة أو طرفا فيها. هذا مفروغ منه أيضا. كذلك، يجب الدفع بالتقاطعية الفكرية والأيديولوجية التي من شأنها أن تعزز إنسجاما بين مطالب حقوقية مركزية ومكونات مجتمعية سياسية لا تقتصر فقط على الجندر و العرق بل كذلك على الطبقية والقومية بشكل يصرف عن الإطار الإيديولوجي أي شبهة للإقصاء أو الإستثناء. غير أن المتابع لخطاب لجنة الحريات الفردية والمساواة يلاحظ غياب إطار نظري فكري تقاطعي وشامل، إضافة إلى هشاشة المبادئ الفكرية المؤسسة والتي يمكن أن يُبنى عليه مشروع مجتمعي حقوقي يدهم الجميع وليس فقط ”مجموعة مستنيرة.“

إرتكبت لجنة التقرير ولازالت أخطاء فادحة في المضمون والخطاب. فالتصور الخاطئ لدورها التاريخي والحضاري أفقر أدوات الخطاب التي استعملت للترويج للتقرير، وسوء توقيت وصيغة هذا التقرير أبرزا أن هذه اللجنة ورئيستها مثال آخر عن البورجوازية القومية التي تريد أن ترسم لنفسها مشروع راديكاليا يليق بمكانتها الاجتماعية والثقافية، لكنها تجد نفسها تتخبط في ازدواجيات عديدة وتناقضات هدامة.

تصور أفراد اللجنة لدورهم التاريخي و الحضاري

يردد أغلب أفراد اللجنة بأن المرجعية الإيديولوجية هي فكر وكتابات الطاهر حداد. وهو ضرب من الإدعاء الفكري لمن لم يقرؤوا له أو إحتفاء بورقيبي الشكل بإرث الحداد. طبعا الحداد كان ثوريا ومجمل ما جاء به من أفكار تحررية للمرأة هو بلا شك جزء مهم من الدعم الذكوري للحركة النسائية. وهنا المشكلة، فللحداد أفكار عديدة قد تكون معبرة عن روح عصره ولكن لا مكان لها داخل حوار مدني وعصري حول حقوق المرأة، فقد غلب على المفكر التونسي النص الديني في تحليله التشريعي والإجتماعي كمرجعية عليا (أو حتى أحادية) في دعوته لتحرير المرأة مما خلف بعض النقائص أراها مفصلية في مراجعة ونقد إرث الحداد. مثلا، عارض المفكر الزيتوني بشدة مسألة الزواج من الأجنبيات ورأى فيها تهديدا للشخصية التونسية (وهي نفس الحجة التي يستعملها بكثرة رافضو مقترحات التقرير). كذلك، رفض الحداد التحرر الجنساني والجسدي للمرأة في ما يعرف بـ”سفور المرأة“ فغلب علي حجته الطابع البطرياركي حيث أكد أن تطوير المرأة محدد بالإعداد الصحيح، ”كيف نثقف الفتاة لتكون زوجا فأما“ وليس بالتبرج وإثارة الشهوات. ما أود تأكيده أن فكر الحداد هو فكر مهم، ولكن يجب نقده ووضعه في أطره الخاصة. إن الإدعاء الزائف بالمرجعية الحدادية بشكل شمولي كالذي يردده أفراد اللجنة والمتعصبين لهم هو نوع من الإستخفاف الفكري.  

يؤكد الروائي العربي عبد الرحمان منيف أن ”القوى التي تدعو إلى التجديد، وتقدم نفسها على هذا الأساس، يجب عليها قبل كل شيء، أن تقوم بعملية نقد ذاتي، أن تقول بصراحة أين أخطأت، أين قصرت أو عجزت، وما هي الصيغ و الضوابط التي تمنع تكرار الماضي … أما أن نضرب صفحا من الماضي، ونعتبر أنفسنا أبناء مرحلة جديدة … فإننا نكون كمن يتواطأ مع نفسه ومع الآخرين لتزييف مرحلة تاريخية بكاملها…من شأن ذلك أن يمنع قيام صيغ جديدة، وأن يجرد القوى القائمة من المشروعية التي ترشحها للمستقبل.“ من جهة أخرى فإن في ردها على سؤال نواة حول أوجه الإختلاف بين عصر الطاهر الحداد وعصرنا الحالي، تكشف إجابة رئيسة اللجنة بشرى بلحاج حميدة عن نوع من العلوية الطبقية التي تشكل أفقا إيديولوجيا يختلف عن ذلك الذي انطلق منه الحداد، حيث أجابت بأنه ”مافما حتى سلطة تنجم إطردنا أو تنبذنا“ لتبرز بشكل عفوي تشابك خلفيتها الطبقية مع مراكز السلطة في تونس.
نفس التصور الطبقي القائم على التمييز المطلق بين طبقة غنية حضارية قادرة على الحوار و إعطاء الحقوق وطبقة فقيرة ريفية تضطهد بشكل شامل حق المرأة في الميراث هو جزء لا يتجزء مثلا من الأفق الفكري لبلحاج حميدة وهو ماكشف عنه إفادتها بأن ”العائلات الغنية في تونس لن تحتاج لقانون حتى تتفاهم فيما بينها وإنما العائلات ذات الدخل المحدود هي التي تحتاج لقوانين تضمن حقّ المرأة“. المشكلة هنا ليس في تأكيدها على التمايز الفطري المزعوم بين وضعية المرأة الريفية والمرأة ”الغنية“ بل في التعميم الذي وَضع كافة النساء الريفيات في نفس السلة وغيب مجهودات وانتصارات (ولو جزئية) في تحسين وضعهن دون مساعدة. 

كذلك، عندما جُوبهت بعدائية شديدة، كشفت بلحاج حميدة عن عنصرية طبقية لا تقل فداحة عن تلك التي استعملها مهاجموها، حيث أشارت خلال الندوة التي نظمهما حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي أن ”ردود أفعال بعض التونسيين تجاه تقرير اللجنة كشفت حقدا طبقيا تجاه متساكني المدينة والأثرياء والطبقة المثقفة”، وأن ”هنالك فئة اجتماعية في تونس لا تشترك مع باقي التونسيين في الإرث المدني والتصور المجتمعي“، لتستعمل بعد ذلك لغة مقيتة عنصرية وهجينة لا مكان لها داخل حوار مجتمعي أو لدى حقوقية حيث أكدت أن ”هناك فوارق في مستوى الإدراك الذهني بين التونسين، الشئ الذي جعل التقرير يلقى رفض البعض.“ 

إن تصور لجنة التقرير وجزء هام من المتعصبين لها لدورهم الحضاري والتاريخي هو مرة أخرى تطبيق باهت للتجربة الفرنسية على واقع تونسي لا يعكس بالأساس انبهارا إيجابيا بالنجاح الهام لتلك التجربة بل رغبة متجددة بالتشابه والمحاكاة بما فعلته المرجعية الفرنسية. المشكلة هنا أن الطبقة المهيمنة في تونس لا تملك نفس القدرات التاريخية والمادية والفكرية التي تملكها البرجوازية الحاكمة في فرنسا، وبالتالي فإن ما حصل ويحصل هو نوع من الخمول الفكري والرعونة الأيديولوجية في تطبيق صيغ وتمشيات ليس لها مكان داخل التجربة التونسية التي عليها أن تسلك طريقها الخاص. فالكم الهائل من الاستشهادات بالمثال الفرنسي (على حساب تجارب أخرى، لاتينية مثلا كما حصل مؤخرا في الأرجنتين  حيث تتواصل جهود العمل القاعدي والتثقيف العام رغم الخيبة الأخيرة من أجل ضمن الدعم الجماهيري لقانون الإجهاض) ينم عن نرجسية جوفاء وعن غياب أي نزعة ابتكارية كفيلة بطرح جديد وتقاطعي لمطالب حقوقية أساسية.

إذن يصبح التنافر المعرفي فكرا وأسلوبا، فكيف يمكن أن نفسر تصريحا لرئيسة اللجنة بأنها ”كأمّ لا تتمنى أن يكون لها ابن مثلي ولكنها كحقوقية تقف ضدّ كل أشكال الاعتداء  على المثليين والمثليات“ هذا هراء وهذيان وتناقض من شأنه أن يضعف المبادئ الحقوقية الحقة ويضيف خطورة إلى الوضع الهش للمثليين في تونس. في مرات عديدة أجد نفسي أكرر نفس التساؤل: ”هل تعي حقا ماتقول؟“

أدوات الخطاب التي استعملت للترويج للتقرير

في ظل هشاشة الحجج وضعف التصور الثقافي والإيديولوجي تبرز علات وأخطاء فادحة في أسلوب وأدوات الحوار. قد أكون مهتما كثيرا بالتفاصيل فيما يلي، ولكن لي قناعة فرويدية راسخة بأن زلات اللسان هي مفاتيح الفكر الغير مباحة. أكّدت بلحاج حميدة في حوارها مع نواة أن مهمة اللجنة تكمن في ”نعطيو فكرتنا وخلي التوانسة يتناقشوا وأحنا مقتنعين إنو الحكاية موش باش تتفصل لا في عام أو عامين .. هاذوم إقتراحات باش يكونو موضوع نقاش“ لتضيف أن ”حتى حد ما يملك الحقيقة.. هذه الحقيقة الوحيدة..هو حوار يلزم يتواصل“. غير أن هذا الكلام الجميل استبدل بآخر أقل تقبلا للاختلاف وفيه تعصف على متطلبات دنيا لأي عمل حقوقي شعبي. ففي الرفض القاطع لفكرة الاستفتاء الشعبي والدفع بحجج واهية خلال برنامج إذاعي على إذاعة ”ديوان آفم“ بأن تونس ”مازالت بلاد ماهياش متاع ديمقراطية وهناك تلاعب بعقول لعباد .. لأننا مازلنا نعلمو في العباد“ لتضيف أنه يمكن للتونسيين المشاركة في الحوار عبر وسائل الإعلام الضامنة ”لحوارات حقيقية.“ لا تكمن سلبية خطاب اللجنة وهشاشة أفقها الفكري في رفضها للاستفتاء، بل تشير إلى أن تونس ”مازالت بلاد ماهياش متاع ديمقراطية“ وإلى تبني أفكار هدامة ترى في المجتمع التونسي (أو فئة منه) أنها مجموعة قاصرة ولاواعية. وهذه مشكلة أخرى، فخلال التصعيد السياسي الحالي بين اليمينيين الحداثيين من أفراد لجنة التقرير واليمين الديني التي تتزعمه النهضة، يطفو أحيانا للسطح كلام ملتبس وعبارات هجينة تهدم أي مسعى للتثقيف العام أو حتى لإمكانية الحوار الديمقراطي.

في تبادل حديث عفوي بين بالحاج حميدة وأحد الضيوف خلال نفس البرنامج الإذاعي، تطرق المُحاور إلى التجربة الأمريكية في مايخص تشريع الإجهاض في سياق رده على تركيز بالحاج حميدة على التجارب الفرنسية وأشار إلى أن كل ولاية أمريكية تختلف عن غيرها في ما يخص تبني أو رفض قانون الإجهاض (وهي معلومة خاطئة لأن قرارا للمحكمة العليا الأمريكية في 1973 شرع لإجبارية الامتثال وتوفير خدمات الإجهاض، غير أن التطبيق مازال ضعيفا في بعض الولايات)، غير أن رد رئيسة اللجنة على المثال كان ردا تعيسا ومرفوضا على كل الأصعدة حيث قالت بأن السبب وراء عدم القبول الكامل هو سيطرة الكنيسة (وهي حجة  يمكن أن تسمع) لتضيف ”احنا في تونس معندناش كنيسة حمدالله يا ربي“. هذا الخطاب هو أنموذج للتنافر المعرفي الكريه.

الأكثر غرابة والذي يكشف عن فكر استعلائي هو غياب أي مجهود إتصالي واضح كفيل ببسط أهم مقترحات اللجنة وتقديمها بشكل بسيط وسلس للعامة. في ردها على سؤال نواة حول الموضوع، اقتصرت إجابة بلحاج حميدة المهزوزة على ترديد باهت، قائلة ”منعتبروش أنها مسؤوليتنا..باش تفسر للتوانسة محتوى التقرير ولا تقنع بيه ولا تدفع لأنو ياخذو منو أقصى مايمكن من الإقتراحات“ وحددت دور اللجنة في كتابة أفكار ومقترحات حقوقية على ورق ضمن ما يخوله لها ”الأمر الرئاسي“.

من جانب آخر، يشير التقرير إلى أن اللجنة تؤمن أن ”مشروع الإصلاح  الذي أنيط بعهدتها هو مشروع مجتمع كامل“، وبالتالي هناك تصور خاطئ لمهتمها واستعمال سيء للغة العربية، فهذا المشروع الإصلاحي ليس مناطا بعهدتها وكل ما فعلته اللجنة هو عمل تقني يتمثل في إعداد وتقديم تقرير في ظرف 9 أشهر يختزل جملة من المطالب الحقوقية التاريخية، والعهدة هي المسؤولية والكفالة والرعاية وهذه أشياء ليست من صلاحيات اللجنة وأفرادها بل من خصوصيات المجتمع المدني والقوى السياسية. ما يبرز كذلك في خطاب أفراد اللجنة هو الدعوة إلى فرز مقترحات التقرير وإمكانية الدفاع عن بعضها وترك ما تبقى وربط هذا التمشي بإغراء السياسيين بأن التاريخ سيسجل لهم هذه المواقف الإنتقائية، وهو ما أشار إليه مثلا سليم اللغماني عضو اللجنة، عندما صرح بأنه لم أستغرب رد فعل رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي إزاء ما توصل إليه التقرير، قائلا ”إن من حق رئيس الجمهورية التركيز على النقاط التي يراها ضرورية من وجهة نظره السياسية“. 

توقيت وصيغة هذا التقرير

إن خطورة ربط طموحات حقوقية مؤسسة ومركزية لأي مجتمع ديموقراطي بمجموعة من الأفراد والمتعصبين لهم، الذين غلب عليهم فهم زائف وتعامل هدام مع أساسيات الفكر والطرح والتنظيم و التكريس لأي مشروع مجتمعي تقدمي بهذه الأهمية، تكمن في الضرر البالغ والأذى الأكبر الذي يمكن تلحقه لجنة الحريات الفردية والمساواة بهذا المشروع  عبر تجريده من أهميته واستعماله سياسيا وإيديولوجيا. يؤكد التقرير في مقدمته أن ”مسيرة الإصلاح في بلادنا لم تنقطع، بوتيرة تقوى أحيانا وتخف أحيانا أخرى، بحسب ملابسات كل ظرف. لكنها مسيرة مسترسلة مستمرة“، وهو نوع من الترويج لمزاعم تاريخية لا ترى مانعا أو خشية في إشارة إلى فترة الحكم الاستبدادي البورقيبية أو الأوتوقراطية البوليسية لبن علي كفترات إصلاح لها ”ملابساتها“ الظرفية.  

عندما تقول بلحاج حميدة مثلا أن ”رئيس الجمهورية يختار اللي يحب“ أو تشير إلى غياب ”الرؤية السياسية“ للرئيس عن اللجنة أثناء إعدادها للتقرير، يفرضه سؤال ما نفسه بقوة: هل يمكن أن يؤخذ ما تقوله على محمل الجد؟ كيف لمطالب حقوقية كإلغاء عقوبة الإعدام أو المساواة في الإرث ألا تكون مطالب سياسية إذا ما اعتبرنا تاريخ التجاذبات والصراعات السياسية التي خلفها طرح هذه المواضيع على مر التاريخ التونسي والعربي المعاصر؟ كذلك، هل ترى فعلا  بأن للسبسي رؤية سياسية تجديدية كفيلة بتعبئة قوة الدولة لصالح مشروع راديكالي كالذي عبر عنه التقرير؟

هناك زيف وخفة في التعامل مع الشعارات والقضايا الأساسية ما من شأنه، كما يلاحظ عبد الرحمان منيف في سياق حديثه عن الهوية والتغيير أن ”يُلحق بهذه الشعارات والقضايا أكبر الضرر، إذ يفرغها من محتواها ويفقدها جديتها وثقة الجماهير بها، ما يجعل إعادتها للتداول والجدية أمرا بالغ الصعوبة، خاصة وأن العمل السياسي يقاس بنتائجه لا بالنيات الكامنة وراءه.“ هناك ضرورة واضحة إلى تخليص مقترحات التقرير من أوهام ومزاعم أفراد اللجنة التي قدمته.