من فرنسا إلى تونس، مرورا بإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، يُستحضر بغزارة مبدأ الحرب على الإرهاب، دون أن يتم تفسيره. في 09 جانفي 2016 وخلال تكريم ضحايا الهجوم الإرهابي على متجر إيبار كاشير، أعاد رئيس الوزراء مانويل فالس ما سبق وأن صرح به في نوفمبر 2015 “بالنسبة لهؤلاء الأعداء الذين يهاجمون أبناء وطنهم…لا يمكن أن يكون هناك أي تفسير مُستحق. لأن التفسير يعني رغبة في إيجاد العذر”. وفي الآونة الأخيرة وبعد هجمات إقليم الأود في جنوب فرنسا، دافع الذي أصبح نائبا مرة أخرى على “حظر السلفية”. وعلى غرار الرؤساء ورؤساء الوزراء عبر العالم، يعزم رئيس الحكومة السابق على القضاء على الإرهاب دون أن يفسّر ماهو الإرهاب، أو تكون له القدرة على تعريفه.

التعريف المتغير

ظهر مصطلح الإرهاب في فرنسا خلال ثورة 1789. ويشير إلى نظام الإرهاب (سبتمبر 1793- جويلية 1794) الذي اختارت من خلاله الحركات الجمهورية العنف تحت تحريض روبسبيار. كان الهدف “الدفاع” عن الجمهورية ضد أعداء الثورة. مثلت هذه المرحلة بداية العديد من الهجمات الإرهابية ذات الغرض السياسي في فرنسا، من بينها الهجوم الجمهوري في 28 جويلية 1835 الموجه ضد لويس فيليب الأول، آخر ملوك فرنسا، وقد خَلَّف 18 قتيل و22 جريح. وهكذا يترأس الإرهاب بشكل متناقض أسس الجمهورية، رغم أنه نظام ينهض على القيم العالمية للحرية والمساواة. وبعد تلك الفترة كان إرهاب مؤيدي الاستعمار الأكثر دموية في فرنسا. وقد نشرت آن ماري دورانتون، المؤرخة المختصة في اليمين المتطرف في كتابها “زمن منظمة الجيش السري” أرقاما متعلقة بالهجمات المنسوبة لهذه المنظمة “12299 تفجير بلاستيكي، 2546 هجوم فردي و510 هجمات جماعية…بلغت حصيلتها ما لا يقل عن 2200 قتيل عموما”.

منذ حرب الجزائر وتفجير قطار ستراسبورج-باريس في 1961 الذي نفذته منظمة الجيش السري وخلف 28 قتيلا، كانت تلك الهجمات الإرهابية التي ضربت باريس وسان دوني في 2015 الأكثر تسببا في عدد الموتى والجرحى، وقد تبناها تنظيم الدولة الإسلامية. الإرهاب في اللغة العربية اسم مشتق من فعل أرهَب الذي يفيد “إثارة الخوف” و”الإفزاع” و”الترويع”. ورغم أن هذا المصطلح ارتبط بالإسلام، إلا أنه لا دلالة له في القرآن. وخارج سياقات محددة مثل الدفاع الشرعي عن النفس أو الحرب بين التنظيمات المسلحة، فإن استهداف حياة الآخرين (مثلها مثل الانتحار) محرمٌ رسميا من قبل هذا الدين. ولكن رغم ذلك يُشار جماعيا إلى الإسلام والمسلمين كمسؤولين على الهجمات الإرهابية، وقد أدانت الكثير من المنظمات غير الحكومية انتهاك حقوقهم الأساسية. لم يلعب القانون الجزائي الفرنسي دوره كضمانة، خاصة وأن تعريف الإرهاب في المجلة الجزائية ليس دقيقا بما فيه الكفاية. إذ يقرن هذا التعريف جملة من الأفعال بالنية في “التعكير الخطير للنظام العام عن طريق الترويع والإرهاب”، بعبارة أخرى هذه النية كافية لوصف الإرهاب. في حين أن النظام العام هو مفهوم فضفاض جدا، تطور ويتطور مثلما يوضح ذلك ثامي عيوش، الأستاذ بجامعة ديدرو 3، فهذا الخطر قد يهدد بالقضاء “على كل فكر منشق وكل معارضة سياسية”.

على غرار القانون الفرنسي، تكابد المعاهدات الدولية من أجل التعريف القانوني للإرهاب. كانت اتفاقية جينيف لسنة 1937 المعتمدة من قبل عِصبة الأمم بمبادرة من الحكومة الفرنسية أول محاولة للتقعيد، وقد عَرّفته على أنه مجموعة من “الأفعال الإجرامية الموجهة ضد دولة ما والتي يكون هدفها أو طبيعتها إثارة الرعب بين شخصيات محددة أو مجموعات من الناس أو داخل الجمهور”. وفي غياب التصديقات الكافية عليه بقدوم الحرب العالمية الثانية، لم يدخل هذا التعريف حيز التنفيذ.

في التاريخ الراهن، لا يوجد حدث أكثر معاصرة من هجمات 11 سبتمبر 2001، يجسد أفضل منه نقطة التحول. وهو يطبع باستمرار الوعي الجمعي والعلاقات الدولية، فقد شكل فرصة لجورج بوش ومؤيديه لإغناء مفهوم “صراع الحضارات” واستخدام نشيد “هل أنتم معنا أم أنتم ضدنا”، مقسّما بذلك العالم إلى فئتين. هذا الجو العسكري لما بعد 11 سبتمبر قد شرّع العديد من الحروب، من بينها تلك التي شُنت في العراق ضد صدام حسين، إذ أصبح الحليف القديم “إرهابيا”. وإذا كان قرار مجلس الأمن 1373، الذي اعتمد في 28 سبتمبر 2011 إثر الهجمات قد اعترف “بالحق الطبيعي في الدفاع الشرعي، الفردي أو الجماعي”، ولكنه لم يحدد دائما بدقة “الأفعال الإرهابية” التي يمكن ممارسة هذا الحق ضدها…

ووفقا للأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان، فإن “عدم الاتفاق على تعريف واضح ومعروف يقوّض الموقف المعياري والأدبي ضد الإرهاب قد شوه صورة الأمم المتحدة”. ويصطدم التعريف الحاليّ بعائقين أساسيّين هما: “استخدام الدول للقوات المسلحة ضد المدنيين” و”للسكان الخاضعين للاحتلال الأجنبي الحق في المقاومة ولا ينبغي لأي تعريف للإرهاب أن يلغي هذا الحق”. في هذه الحالة، كيف نميّز الإرهاب عن المقاومة المشروعة؟

إرهاب أو مقاومة؟

بعد التنصيص عليها في عام 1789 بموجب إعلان حقوق الإنسان والمواطن، فقد أعيد التأكيد في ديباجة الإعلان العالمي لعام 1948 على أنّ “مقاومة الاضطهاد” هي “الملاذ الأسمى للثورة ضد الطغيان والظلم.” هذا المبدأ يؤسس ويشكّل جوهر العديد من حركات التحرير المسلحة على غرار حزب المؤتمر الوطني الافريقي. يدلّ تصنيف الولايات المتحدة الأمريكيّة لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي ونيلسون مانديلا كتنظيم إرهابي إلى حدود سنة 2008 على أن استعمال هذا المصطلح خاضع للسياقات التاريخيّة والسياسيّة بإمتياز. فالعديد من الدول بما في ذلك فرنسا والمملكة المتحدة وإسرائيل دعمت نظام الفصل العنصري ضد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، قبل أن تشيد أخيرا بشجاعة نيلسون مانديلا وتمدح نضاله ضدّه.

وحتى اليوم، فإن العديد من الدول تتحجّج بالإرهاب لتبرير الجرائم ضد المدنيين. أحد الأمثلة هو بشار الأسد الذّي يحاول إضفاء نوع من الشرعيّة على قصف طائراته للمدنيين من خلال الإدّعاء برغبته في “تحرير حلب من الإرهابيّين”. ومن جانبها، فإن إسرائيل، التي يلقى “نموذجها لمحاربة الإرهاب” الشكر في فرنسا، تبرّر أعمالها الإرهابية، وعمليات الاغتيال والاستخدام غير المتناسب للقوة والوسائل العسكرية خلال عملياتها الحربية بما يردّده القادة الإسرائيليين بشكل منهجي عن “الإرهاب الفلسطيني”. في المقابل، يتغاضى المسؤولون الاسرائيليّون عن حقيقة أنّ الجماعات الصهيونية نفذت هجمات إرهابيّة خلال مرحلة إنشاء “الدولة اليهودية”. فمنظّمة الأرغون هي من أدخل الإرهاب إلى المنطقة في أواخر الثلاثينيات، وكانت المسؤولة عن أكبر هجوم إرهابي في التاريخ الفلسطيني بتفجيرها جناح فندق الملك داوود الذي يضم المقر الرئيسي لحكومة الانتداب البريطانية في القدس في 22 جويليّة 1946، مما أسفر عن مقتل 91 شخصا وإصابة 46 آخرين. لاحقا، سيصبح مناحيم بيغن الذي شارك في هذا الهجوم، رئيس الحكومة الإسرائيلية بين سنوات 1977 و1983.

إذن، وفي هذه الحالة كما في حالات أخرى، تصبح الدول مُدانة بممارسة “إرهاب الدولة” ودعم الإرهاب. المثال المصريّ بدوره يمثّل حالة أخرى شبيهة بما سبقها. فالرئيس الحالي متّهم من قبل هيومن رايتس ووتش بأنّه كان المسؤول عن ارتكاب “جرائم محتملة ضد الإنسانية”. إذ قامت قوّات الأمن المصريّة في 14 أوت 2013 بقتل حوالي 1000 مدني أثناء تظاهرهم لدعم الرئيس المنتخب محمد مرسي ورفض الانقلاب العسكري. أمّا تونس، فلا تستثنيها تلك الانتقادات.

توظيف ضد المعارضين

على عكس فرنسا، فالإرهاب في تونس ظاهرة حديثة نسبيا. إذ تعود أقدم التفجيرات الإرهابية الموثقة إلى حادثتي سوسة والمنستير بتاريخ 2 أوت 1987. وقد نُسبت إلى حركة الإتجاه الإسلامي وأوقعت 13 جريحا. إن الغموض القانوني المذكور آنفا سمح للدولة بهامش مناورة واسعة النطاق ومكّنها من احتواء أيّ تحرّكات للمعارضة كما فعل على سبيل المثال زين العابدين بن علي. إذا لم يكن هناك تفكك قانوني بعد الإطاحة بالرئيس السابق، ليظّل هذا القانون ساريا إلى حدود سنة 2015. تلك السنة التّي شهدت أكثر الهجمات دموية على الإطلاق في تونس. أمام هذا الظرف، أصبحت مكافحة الإرهاب قضية وطنية وصار تبني قانون جديد حتميّة لا غنى عنها. لن يطول انتظار التونسيّين حتّى يتمّ الإعلان في 07 اوت 2015 عن القانون الجديد “المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال”. قانون تضمّن تعريفا “فضفاضا وغامضا للغاية” للإرهاب، وهو ما دفع عددا من المنظّمات غير الحكومية للتنديد بمخاطره، بل وتشبيهه بقانون “باتريوت آكت” (قانون مكافحة الإرهاب، أو قانون الوطنية هو قانون قد تم إقراره في الولايات المتحّدة الأمريكيّة بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001).

يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا معلّقا على الوضع في الجزائر: “كلما زاد الخلط في مفهوم ما، كلما كان أسهل تطويعه لصالح الإنتهازيّة”. ليعود هذا الأخير متسائلا عن مفهوم الإرهاب: “ما هي النقطة الفاصلة بين تحوّل الإرهاب من عمل مُدان إلى خيار وحيد لمعركة شرعيّة؟ أو العكس؟ كيف نُحدّد الخطّ الفاصل بين الوطني والدولي، بين الشرطة والجيش، بين التدخل “لحفظ السلام” والحرب، بين الإرهاب والحرب، بين المدنيين والعسكريين على أرض ما ضمن هياكل تضع الضوابط الدفاعية أو الهجومية لـ”مجتمع” ما؟ مع استمرار هذه الأسئلة دون إجابات محددة وتعريف واضح واستراتيجية سياسيّة طويلة الأمد، فلن يتحقّق النصر في الحرب ضد التنظيمات التي تتبنّى هذه الأيديولوجية.

من السجن إلى داعش: أي بدائل في تونس وفرنسا لمجابهة هذه الظاهرة؟

في فرنسا كما في تونس، مثّلت السجون أحد الفضاءات التّي يتمّ فيها استقطاب أو تكوين الإرهابيين المستقبليين. بعد أن أيقنت السلطات محدوديّة سياساتها وأمام إكتظاظ السجون، تحاول الحكومات في البلدين تكييف منظومتها التشريعية وأساليبها في التعامل مع هذه الظاهرة.


حالة الطوارئ في فرنسا وتونس: غياب النجاعة وانتهاك للحقوق والحريات

"الحرب على الإرهاب" التي تُخاض على نطاق عالمي بلغت ذروتها، وقد كان لفرنسا وتونس نصيب منها. وفي خضم البحث عن حلول للهجمات الإرهابية لسنتي 2015 و2016 لجأت الدولتان إلى عدد من التدابير الأمنية، من بينها حالة الطوارئ. ولكن على ضفتي البحر الأبيض المتوسط تقع إدانة العديد من التجاوزات التي رافقت هذا الإجراء.


بين فرنسا وتونس: سردية الجهاد تتغذى من التهميش الاجتماعي

من تونس إلى فرنسا، تَرك المئات من الشبان -على امتداد السنوات الفارطة- بلديهما للالتحاق بجبهة القتال السورية. هذه الهجرة التطوعية التي تحضنها فكرة "الجهاد تحت راية الخلافة الإسلامية" جعلت فرنسا وتونس تتصدران المراتب الأولى في تزويد التنظيمات الجهادية المسلحة بالعناصر البشرية. وقد ساهمت أيضا في قلب المسارات المعيشية للمئات من الشبان، الذين اندفعوا بحماسة إلى مغادرة حدودهم الجغرافية والركض وراء سراب الأمة المُتخيلة. بين فرنسا وتونس يُطرح السؤال دائما حول العوامل التي ألقت بكل هؤلاء إلى مثل هذا الخيار، هل أن سردية الجهاد كافية لوحدها أن تمارس جاذبيتها الخاصة عليهم أم أن الواقع بمستوياته المتشابكة ساهم في صناعة هذه التجربة؟


تونس-فرنسا: تعبئة مواطنية ضد القمع بإسم مكافحة الإرهاب

منذ سلسلة الهجمات التي ضربت فرنسا سنة 2015 وحالة الطوارئ التي تلتها، يرى الكثير من الفرنسيين أن حقوقهم قد انتُهِكت. وهكذا فإن بعض الجمعيات الفرنسية والتونسية، وكذلك الأفراد، يتجندون يوميا من أجل الدفاع عنها وإدانة التجاوزات المرتكبة.


تونس-فرنسا: الإرهاب، تحدّ مشترك لضفّتي المتوسط

منذ سنة 2015، وخلال النقاشات الدورية التي جمعتنا بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لفت انتباهنا تقارب الأوضاع بين فرنسا وتونس بخصوص مسألة الإرهاب، من ضمنها؛ إقرار حالة الطوارئ كإجراء طبيعي، والجدل حول سحب الجنسية وحول الشباب المهمش أو الذي أضاع بوصلته، والرابط بين السياسات السجنية والتطرف... من خلال مسألة الإرهاب، وخلف الروابط التاريخية التي تجمع الدولتان، لاح لنا أن المجتمعين الفرنسي والتونسي، كمجتمعين شقيقين، يمران بصعوبات مشتركة. وقد تبعتها نقاشات بين CCFD-Terre solidaire و"أورينت XXI"، وهكذا وُلدت فكرة القيام بتحليل مقارن بين فرنسا وتونس بخصوص مسألة الإرهاب.