ظلّ تعاطي السلطة مع الاحتجاجات منذ 2011 قمعيّا، فكان الخطاب الذي تروّج له، ومازال، استعلائيّا ومُشيطنا للحملات الشبابية المناهضة لقراراتها وقوانينها، ولعلّ حملة “فاش نستناو” ضدّ قانون ميزانية 2018، خير دليل على ذلك، فمنذ الأيّام الأولى للاحتجاجات خرج رئيس الحكومة يوسف الشاهد ليصف المُحتّجين بـ”المُخرّبين” ويتّهمهم بـ”محاولة إضعاف الدولة”. هذه الاتهامات تبنّاها قياديّو حركة النهضة الإسلامية وحزب نداء تونس في محاولة لإجهاض الحراك الاحتجاجيّ أو ترويض فاعليه، حيث رافقت الاحتجاجات حملات تشويه في وسائل الإعلام العموميّة والخاصّة وعلى الصفحات في مواقع التواصل الاجتماعيّ المحسوبة على أحزاب السلطة أو بعض الجهات الأمنيّة. أمام حملات التشويه هذه أصدرت نقابة الصحافيّين بيانا قالت فيه “إنها لاحظت طيلة مدة الأزمة الأخيرة، تعاطيا إعلاميا متذبذبا وموجها في أغلبه لصالح وجهة نظر الحكومة والمؤسسة الأمنية، وقد تجلى ذلك بشكل صارخ في برنامج 75 دقيقة، الذي بث على المرفق العمومي الممول من دافعي الضرائب القناة الوطنية الأولى مساء الثلاثاء 9 جانفي 2018، إذ تحول البرنامج إلى جلسة تحقيق أمني مع الضيف وتوجيهه وجهة واحدة بهدف شيطنة الاحتجاجات الاجتماعية”.

متظاهرو حملة “فاش نستناو” يرفعون ورقة صفراء في وجه قوات الأمن – الجمعة 12 جانفي أمام مبنى ولاية تونس

الجبهة الشعبية كبش الفداء

خلال الاحتجاجات الأخيرة ضدّ قانون الميزانيّة كانت الجبهة الشعبيّة التي تقود المعارضة اليساريّة في تونس كبش الفداء، حيث صرّح رئيس الحكومة يوسف الشاهد بأنّ الجبهة هي المسؤولة عن أعمال العنف والتخريب، وجاءت من بعده تصريحات قياديّي حركة النهضة وأبرزها تصريحات رئيس مجلس شوراها عبد الكريم الهاروني  يوم الأحد 14 جانفي 2018 حيث قال “الجبهة الشعبيّة تورّطت في البرلمان وفي الشارع ودعت إلى تحرّكات وكانت تظنّ أن الشعب سينجرّ معها إلى الشارع، لكنّها بقيت وحدها في الليل، في الظلام، مع المهرّبين والمخرّبين والإرهابيّين والفاسدين”. وذلك إلى جانب تصريحات راشد الغنوشي والتي قال فيها “أن تقرّ ميزانيّة في البرلمان وتسقطها في الشارع هو تفكير فوضويّ”، رغم أن الجبهة صوّتت ضدّ قانون الميزانية وفق ما نشرته منظمة البوصلة. ردّت الجبهة، في بيان شديد اللهجة، على هذه التصريحات، حيث أكّدت فيه أنّها “عارضت منذ البداية هذا القانون منذ أن كان مشروعا وقبل ‏التصويت عليه من قبل الأغلبية اليمينية تحت قبة البرلمان”، وأنّها ترى “في تصريحات رئيس الحكومة تملّصا من المسؤولية وسعيا للانحراف بالرأي العام وبشكل ممنهج (بمعيّة بعض وسائل ‏الإعلام التابعة والمأجورة) عن الموضوع الرئيسي وهو البؤس الذي يعاني منه هذا الشعب المفقر والمهمش”. ‏كانت الجبهة ومازالت الموضوع الأوّل للشيطنة والتجريم من قبل الائتلاف الحكوميّ، وحتى حملة “فاش نستناو” التي قادها شباب الجبهة حاول الائتلاف الالتفاف عليها وحصرها في مربّع العنف من أجل وأدها. وقد أكّدت هذه الحملة أن شباب الأحزاب وقواعدها قادر على التعبئة ولو نسبيّا وأن الرصيد الشعبي لقادة اليسار متآكل حيث لم يعد خطابهم مقنعا لدى الرأي العام. لم تقف حدود شيطنة الجبهة الشعبيّة عند الاتهامات بالتحريض على العنف وتهييج المحتجّين، فقد قام الإمام التكفيريّ المقرب من حركة النهضة رضا الجوادي بإطلاق سبر آراء افتراضيّ  على صفحته بفايسبوك تمحور حول سؤال خطير “هل أنت مع تصنيف الجبهة الشعبيّة منظّمة إرهابيّة”، وكانت جميع التعليقات حول هذا السؤال تصبّ في خانة واحدة وهي أنّ الجبهة الشعبية هي الشرّ المطلق. يواصل رضا الجوادي اتهاماته ومحاولاته تشويه الجبهة وقادتها دون حسيب أو رقيب وتواصل الحكومة محاولاتها التضييق على المحتجّين بعمليات الايقافات العشوائيّة وتلفيق التهم الكيديّة. ما يلفت الانتباه هذه المرّة هو التركيز على الرموز والشعارات التي رفعها بعض المحتّجين خلال المظاهرات الأخيرة التي دعت إليها الجبهة، ونقصد هنا شعار الأناركية التي تمثل حركة اجتماعية مناهضة للسلطة القهريّة.

الحراك الاحتجاجيّ والأناركيّة

الأناركيّة في تونس هي أناركيّة فطريّة وعفويّة، فالمحتجون لاسلطويّون بامتياز، رافضون للسلطة بجميع تمثّلاتها دون أن يكونوا متأثّرين برموز الأناركيّة في العالم مثل الفرنسي جوزيف برودون والذي يقول بأن “الملكية سرقة” وبأنّ “اللاسلطوية هي نظام دون قوة”، ودون أن يقرؤوا للروسي ميخائيل باكونين والذي كتب “الله والدولة” معتبرا أن استعباد الإنسان ينطلق من فكرة الله التي تحدّ من حريّة تفكيره، ودون أن يستمعوا إلى محاضرات نعوم تشومسكي عن خيارات الأناركية وفرصها اليوم. المحتجون لا تهمّهم حزمة الإصلاحات الهيكليّة التي تفرضها مؤسّسات التمويل الأجنبيّة على الحكومة ولا محاولات التدجين والتطويع ولا حتى خطابات التشويه والتخوين. المحتجّون لا يهمّهم التمييز بين السلميّين والمخرّبين، لأنّ التخريب يمكن أن يكون جزء من عملية استعادة الواقع وقلب موازين القوى. التخريب هو في مضمونه شكل احتجاجيّ ورفض قاطع وراديكاليّ لكلّ ما من شأنه أن يرتبط بالسلطة القمعيّة وبالدولة التي تريد احتكار استخدام العنف ونحن هنا لا نتحدّث عن أعمال التخريب المأجورة والتي تهدف إلى توجيه بوصلة الاحتجاجات وحصرها في أعمال العنف.

رمز الأناركية الذي أثار الجدل رفع في مظاهرة “فاش نستناو”، يوم الجمعة 12 جانفي 2018 أمام مبنى ولاية تونس

أعمال التخريب أسقطت نظام حكم بن علي وجعلت الثورة فعلا ممكنا، ونذكر كيف تعامل القضاء مع شباب الثورة في القصرين والسرس بولاية الكاف ومنزل بوزيان بسيدي بوزيد عبر محاكمتهم بتهم الإضرار عمدا بملك الغير وحرق مراكز الشرطة. على إثر موجة المحاكمات التي طالت شباب الثورة في مختلف الجهات، أطلق نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي حملة #حتى_أنا_حرقت_مركز لمساندتهم ضدّ محاولات تكميم الأفواه وقمع الأصوات الحرّة. هذه الحملة هي تجسيد حيّ للطبيعة الأناركيّة للحراك الاحتجاجيّ في تونس الذي كان غير متحزّب ومرتبط بإيديولوجيا تقييديّة وموجّها ضدّ السلطة وضدّ ممارسات البوليس التعسفيّة. يطرح الحراك الاحتجاجيّ في تونس بديلا تحرّرياّ لاسلطويّا يتعارض مع الخطاب الالتفافيّ لأنصار الحكومة، هذا البديل تجلّى في تجربة جمنة التي ضربت عرض الحائط نمط الإنتاج الرأسماليّ. أكّدت تجربة جمنة على أنّه يمكننا التفكير خارج مفهوم السلطة وأن التاريخ السياسيّ لم يتوقّف عند مفهوم الدولة التي يعتبر منظّروها بأنّها الإطار التنظيميّ الأنجع والأنجح لأمور البشر.

رافضو الاحتجاجات يتحرّكون ضمن أطر السلطة وأنساقها الفكريّة، متسلّحون بخطاب الفضيلة، يشيطنون الاحتجاجات ويدعون إلى السلم والتمدّن والتحضّر دون فهم ملامح شخصيّة المحتجّ وطبيعة مطالبه. البعض الآخر ديمقراطيّون لا يرفضون الاحتجاجات ولكنهم ضدّ قيامها في الليل وكأن المظاهرات خاضعة إلى منظومة المواقيت، وكأن الاحتجاجات الليلية ليست ردة فعل على المداهمات البوليسية والايقافات الليلية. شيطنة الاحتجاجات هي محاولة فاشلة للعودة بشباب تونس “المُخرّب” إلى مربّع الخوف والقمع، مع العلم أنه لا أحد يعرف، إلى الآن، الهويّة الحقيقيّة للمخرّبين شمّاعة الحكومات المتعاقبة لتعويم الحراك الاحتجاجيّ وتقزيمه.