التّلفزيون له القدرة على التدخّل في تكوين عقول المشاهدين. بيار بورديو، التّلفزيون و آليّات التّلاعب بالعقول
إنّ الثّورة بمفهومها البسيط – كما تصوّرها أبناء الشّعب – هي عمية تغيير / إطاحة بنظام مستبد و تعويضه بآخر أكثر عدلا. و على الرغم من أنّ الثّورة التونسيّة كانت ”لحظة“ فارقة في تاريخ البلاد و حلمًا راود الجميع و عُلِّقَتْ عليه آمال كبيرة، فإنّ الثّورة المضادّة تسبّبت في إجهاض هذا المسار الثّوري من خلال العديد من الوسائل التي مكّنت مجموعة من صنّاع القرار و أصحاب السّلطة في النّظام السّابق من العودة إلى مراكزهم و إسترجاع مكانتهم التي كانوا يتمتّعون بها قبل الثّورة. هذا ما عملت جلّ وسائل الإعلام على إظهاره من خلال إستعادة رموز النّظام و تبيضهم و هو ما أدّى إلى المطالبة بالمصالحة التي وجدت معارضة من العديد من النّاشطين إلاّ أنّ ذلك لم يمنع عودة بارونات الفساد، كيف لا و هم مدعومون بدعاية إعلاميّة ضخمة.
لقد شرح عالم الإجتماع بيار بورديو في كتابه التّلفزيون و آليّات التّلاعب بالعقول الوسائل التي يعتمدها الإعلام للتّأثير على العقول و صناعة الرّأي العام خدمة لأجندات سياسيّة معيّنة لا بل إنّ نجاح أيّ مشروع سياسي بات مرتبطا إرتباطا وثيقا بنجاح ”المكينة الإعلاميّة“ التي تدعمه. ففي الحرب على العراق مثلا قام رئيس الوزراء الإنجليزي ”توني بلير“ آنذاك بتسخير وسائل الإعلام لإيهام المواطنين بأهميّة خوض الحرب و ضرورة الإطاحة بنظام صدّام حسين. لم تحد معظم وسائل الإعلام عن هذا الدّور في تونس، لا بل إنّها تحوّلت في أكثر من مرّة إلى بوق للدّعاية للإنقلاب على الثّورة، إذ شاهدنا إعلاميين عرفوا بولائهم و دفاعهم الشّرس عن النّظام السّابق يتصدرون المشهد و يمنحون فرصة الظّهور لمدّة ساعات على الهواء.
إنّ المتمعّن في المدّة الفاصلة بين تاريخ إندلاع الثّورة و وصولا إلى عودة ”الأزلام“ إلى المشهد يمكن أن يستنتج بسهولة القوّة الهائلة التي تتمتّع بها وسائل الإعلام من خلال التّوجيه و التّعتيم. بين مناشد لا يتوانى في إظهار حنينه لنظام بن علي وعائد من المنفى قضى سنتين فقط في السّجن و خرج ليقع إستقباله إستقبال ملوك ليوقّع بعدها على مصالحة قيل إنّها لفائدة البلاد و لصالح الجميع، بقي المواطن سجين التّلفزيون مكبّلا يُرْغَمُ على التّعامل مع هؤلاء.
لقد كانت إسراتيجية أصحاب المال و أصحاب النفوذ واضحة : ضخّ كمّ هائل من البرامج / المعلومات لتمهيد الطّريق أمام عودة إستبداد ال”هُمْ“، أولئك الذين حكموا البلاد و العباد منذ سنين. و لم تكن تحرّكات الشّباب و المجموعات النّاشطة (مانيش مسامح مثلا) و السّاعية لكشف هذه النّوايا كافية للتّصدي لقوّة الثورة المضادّة ذلك أنّ الأغلبيّة قد إقتنعت بضرورة المصالحة حجّتهم في ذلك الطّابع السّلمي للثّورة (و هي طبعا حجّة واهية و مغالطة روّجت لها وسائل الإعلام لترسخ في الأذهان) مع العلم أنّ المصالحة لا تتمّ إلاّ بعد المحاسبة التي تُعْتَبَرُ مرحلة ضروريّة في العدالة الإنتقاليّة.
ههنا تتحوّل وسائل الإعلام إلى مخابر سريّة و كواليس تحضّر داخلها كلّ السيناريوهات الممكنة التي تخوّل لأصحاب السلطة العودة لتصدّر المشهد من جديد و هي مهمّة ناجحة لما نشهده من غياب ردّة فعل جدية إثر تتالي ظهور رموز النّظام في مختلف البرامج : برهان بسيّس في برنامج يومي على قناة نسمة، محمّد الغرياني في برنامج لمن يجرؤ فقط و أخيرًا سليم شيبوب في برنامج ضيف التاسعة على قناة التّاسعة. والحقيقة أنّ الوضعيّة الأخيرة لسليم شيبوب هي بمثابة برهنة على نفوذ وسائل الإعلام، فبعد خروجه من السّجن إشتغلت الآلة الإعلاميّة في مرحلة أولى على التّذكير في أكثر من مرّة بتاريخه الرّياضي (وقع ذلك في عدة برامج) و في مرحلة ثانية وقع التّمهيد لإستقباله (بطريقة مستفزّة) للمصالحة ثمّ و كمرحلة أخيرة تبييضه نهائيا و دعوته كضيف مع صلاح الدين الجو رشي ليعطي رأيه في الثّورة و يصرّح نّ بن علي كان وطنيّا !
إنّ وسائل الإعلام من خلال تلاعبها بالعقول و تأثيرها على الرّأي العام و توجيهه تمثّل وسيلة لإطفاء أيّ حراك شعبيّ و لإخماد أيّ نفس ثوريّ، فأصحاب السّلطة في النّظام السّابق عادوا من جديد لا بل إنّ العديد منهم أصبح يجاهر بما يسمّيه ”إنجازات بن علي“ ضاربا بالثّورة عرض الحائط متناسيا و متجاهلا دماء من سقطوا ضحيّة للإستبداد. و لكن ختاما، تجدر الإشارة إلى أنّه وسط هذا الهجوم على الثّورة و ”الدّمغجة الإعلاميّة“ – التي أدّت إلى قلب المفاهيم و دفعت بالعديد إلى المطالبة بعودة النّظام القديم – نجد شبابا ناشطا يسعى لفضح هذه الممارسات بمختلف الطّرق المتاحة رافضا عودة إستبداد ال”هُمْ“.
iThere are no comments
Add yours