المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

revolutions-sursis-tunisie

بقلم أيوب المسعودي،

في الحاجة الملحّة لنقد ذاتيّ…

أربع سنوات مرّت منذ أن أطلق الشّهيد محمّد البوعزيزي صيحة الحياة تلك الّتي كسرت آخر قيود الخوف وألهبت الجماهير من المحيط إلى الخليج، صيحة ثائر آثر الموت عزيزا على المهانة والاستكانة والموت ذليلا، صيحة متمرّد على دولة حرّاس العقول والضّمائر والسّكنات والهمسات، دولة الفساد والمحسوبيّة الّتي احتكرت فيها العائلة الحاكمة كلّ شيء حتّى السّرقة والتّهريب والتّحيّل والنّهب.

قد يبدو هذا الكلام شاعريّا إنشائيّا للبعض، أتفهّم ذلك في زمن التّزييف والتّحريف، زمن تهافت المعاني، زمن فعل فيه ساسة ما بعد 14 جانفي ما فعل زابا بمعاني التغيير والتعددية والتحديات الجسام والوطنيّة والاستقلال والمرأة والإعجاز الاقتصاديّ وووو. أو ربما يبدو كلامي عدميّا متصلّبا للبعض من الّذين أحسدهم على تفاؤلهم العجيب الّذي أحترمه ولا أريد خدشه.

صحيح أنّ أربع سنوات لا تعني شيئا في تاريخ شعب ضارب في أكثر من ثلاثين قرنا من القدم، صحيح كذلك أنّ أوّل كتابات جدّيّة وشاملة عن الثّورة الفرنسيّة أتت بعد قرنين من اندلاعها، أي في مطلع القرن العشرين، بعد أن خفتت حدّة المصالح والصّراعات الطّبقيّة والفئويّة المتناقضة والمتقاطعة الّتي كان غبارها يشوب حقيقة الخطابات “الثّوريّة”، ولكنّ اللّافت أيضا هو أنّ جون جوراس في “التّاريخ الاشتراكيّ للثّورة الفرنسيّة”1 (كتب في 1903) لم يصل إلى نفس التّحليل الّذي أتى عليه كارل كوتسكي في “الصّراعات الطّبقيّة في فرنسا في 1789”2 (كتب في 1901 – يمكن تحميل نسخة رقميّة منه في المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة عبر هذا الرّابط) حول طبيعة الصّراعات الّتي طبعت الثّورة الفرنسيّة ومآلاتها. من هذا المنطلق التّمهيديّ، علينا جميعا توخّي الكثير من الحذر والتّواضع في تحليل سيرورة ثورة 17 ديسمبر وخاصّة الحكم على الفاعلين والمتحرّكين باسمها. هذا لا يعني أن ننتظر قرنين من الزّمن لنراجع أنفسنا، ونساهم كلّ بمقدار، في محاولة وضع المسار على السّكّة الصّحيحة خاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار عامل تسارع التّاريخ وتدفّق المعلومة ومراكمة التّجارب الإنسانيّة طوال التّاريخ، يتطلّب ذلك بعض التّجرّد والابتعاد عن صخب الآنيّ وغوغائيّة الظّرفيّ.

وبالعودة إلى الثّورة الفرنسيّة،  هناك عدد من الفوارق الهامّة بين السّياقين الثّوريّين الفرنسيّ والتّونسيّ أسوقها، دون الحصر:

1- الظّروف الدّاخليّة : كان الصّراع الطّبقيّ واضحا في فرنسا في 1789، والمتضرّرون من الإقطاع واضحين وحاسمين عكس المجتمعات العربيّة ذات الاقتصاديّات الرّيعيّة التّابعة والبنيات الاقتصاديّة الّتي أرادتها الإمبرياليّة هشّة مفتقرة لطبقة رأسمالية حقيقيّة خارج إطار الرّأسماليّة الصّغيرة التّابعة والانتهازيّة وغير مهيكلة أصلا حول صناعات كبرى مثلا ممّا سمح للنّظام البنعلي اختراق كلّ فئات المجتمع بوسائل وميكانيزمات شيطانيّة مختلفة وممّا حال أيضا دون تأصيل الصّراع الطّبقيّ وتجسيده سياسيّا في الأيّام الأولى والحاسمة للثّورة.

2- الظّروف الخارجيّة : كان انقسام الامبراطوريّات الأوروبيّة (الحرب الرّوسيّة التّركيّة، الصّراع بين بروسيا والنّمسا على بولونيا…) من الأسباب الأساسيّة لنجاح الثّورة الفرنسيّة. ذلك أنّ هذه الصّراعات أضعفت خطّ القوى الخارجيّة للثّورة المضادّة والّتي سعت إلى إجهاض الثّورة الفرنسيّة حفاظا على عروش الملكيّة الأوروبيّة. على نقيض ذلك، كانت الأنظمة الرّجعيّة العربيّة القلقة على مصير عروشها والمعادية للدّيمقراطيّة وحقّ الشّعوب في الكرامة وفي تقريرمصيرها وثرواتها في أوج قوّتها الماليّة وحتّى السّياسيّة ممّا جعلها تحشد المال والإعلام وحتّى السّلاح لتجهض الثّورات هنا وهناك.

في الحقيقة، سيؤثّر العاملان المذكوران سالفا، والمتداخلان بقوّة كما سنبيّن ذلك، بقوّة في مسار الحراك الثّوريّ والمآلات السّياسيّة لما بعد هروب رأس النّظام في 14 جانفي. طبعا يحتاج التّحليل إلى قدر أوسع من التّدقيق والجهد لتحديد المتصارعين من طبقات اجتماعيّة، إن صحّ التّعبير، وقوى خارجيّة وداخليّة وفاعلين سياسيّين وميدانيّين من أولئك الّذين أثّروا بطريقة أو بأخرى في مسار الثّورة التّونسيّة المجهضة. وبما أنّ المرحلة تميّزت بالاستقطاب الثّنائيّ  فمن الطّبيعيّ أن نركّز اهتمامنا، ولو في مرحلة أولى، على طبيعة هذا الاستقطاب وحقيقته وتأثيره في مسار الثّورة دون السّقوط في التّحليل الآنيّ الظّرفيّ الّذي غرق فيه العديد من السّياسيّين الغارقين في التّفاصيل المملّة الّتي تحول دون تمثّل المرحلة في تاريخانيّتها ممّا جعلهم يتحوّلون في أحسن الأحوال إلى صحفيّين سياسيّين أو، في أسوأ الأحوال، إلى سيّاح حزبيّين لا هويّة فكريّة لهم وتتحكّم في خياراتهم موازين القوى المتقلّبة.

فعلى المستوى الدّاخليّ البحت، ومن وجهة نظر طبقيّة اجتماعيّة، يمكن تشبيه طبيعة الصّراع بذاك الّذي حدث في المكسيك في العشريّة الثّانية من القرن العشرين. إذ يمكن أن نقول أنّ ضعف الثّورة المكسيكيّة كان من ضعف طبقة صغار المزارعين الّذين كانوا يشكّلون القوّة الأساسيّة للثّورة، وكان ضعفهم يكمن، رغم قدرتهم على قلب معادلات النّظام القائم، في فشلهم في أن يشكّلوا تنظيما قويّا وذي وزن في تحديد مصير المكسيك3 (أنظر مقال آلان وودس القيّم بمناسبة المأويّة الأولى للثّورة المكسيكيّة عبر هذا الرّابط). ويرجع ذلك إلى كون المزارعين كانوا يشكّلون مجموعة أفراد لم تكن تربطهم علاقات إنتاج محدّدة وثابتة بقدر ما كانوا أداة في يد البرجوازيّة النّافذة، نفس تلك البرجوازيّة الّتي استغلّت غضبهم لقلب أعدائها الإقطاعيّين والحلول مكانهم في الحكم قبل أن تنقلب عليهم وتقمع غضبهم في مرحلة لاحقة. بالنّسبة لتونس كذلك، لا يمكن أن نتحدّث عن طبقة اجتماعيّة بالمعنى الحرفيّ للكلمة، للأسباب الّتي أسلفنا ذكرها، بقدر ما كان الأمر يتعلّق بمجموعات أو فئات اجتماعيّة تشترك في عدد من التّطلّعات : شباب متعلّم راكم الشّهادات وسنوات الدّراسة ليعرف بعدها سنوات وفي بعض الأحيان عقودا من البطالة والإذلال والفقر وطبقة “وسطى” (لا أحبّ هذا التّعبير الرّأسمالي الّذي وضعت مقاييسه المؤسّسات الماليّة الدّوليّة لأنّ الطّبقة الوسطى في تونس هي أقرب إلى الفقر) متعلِّمة ومنفتحة على العالم الخارجيّ ترنو إلى مزيد من العدالة والحرّيّة، صلب هذه الفئة الثّانية نجد فئة نشطة ومؤثّرة ستلعب دورا هامّا في الأيّام الحاسمة للثّورة عبر النّقابات الأكثر تأثيرا كنقابات التّعليم الثّانويّ أو سلك المحاماة المسيّس مثلا. نحن هنا إذا إزاء فئات شبه مشتّتة هي عبارة عن مجموعة أفراد لا تجمع بينهم علاقات إنتاج وإنّما غضب من منظومة استبداديّة احتكرت الثّروة والسّلطان والوجاهة الاجتماعيّة والسّياسيّة…

ستستفيد البرجوازيّة “التّقليديّة” التّونسيّة، الممثّلة في جامعيّين ومختصّين”تقليديّين” في القانون أيضا وقيادات من المجتمع المدنيّ من اتّحاد شغل واتّحاد أعراف وممثّلي بعض القطاعات “المسيّسة” من محاماة وقضاء وأيضا قيادات الأحزاب السّياسيّة التّاريخيّة، من تشتّت قوى الغضب الشّعبيّ وخاصّة الشّباب الغير منظّم والّذي سرعان ما اخترقته الأحزاب بالخطابات الأيديولوجيّة البرّاقة الّتي تستميل حماسة الشّباب ونزوعهم إلى المثل العليا المجرّدة الّتي نقلت إليهم خصوماتها لتنفرد البرجوازيّة، في هيئات ولجان عديدة، وفي محطّات متتالية (من هيئة بن عاشور إلى الحوار الوطنيّ) لترتيب “توافقات” أو “صفقات” مرحلة ما بعد 14 جانفي بعد أن فرّ الخصم. أؤكّد هنا أنّني لا أستثني أحدا في سوء تقدير أولويّات هذه المرحلة الحاسمة بما فيها كاتب هذا المقال الّذي آمن في مرحلة ما بجدوى العمل في أحد الأحزاب “التّاريخيّة” بدل الاكتفاء بالعمل الميدانيّ والدّفع نحو تشكيل تنظيم شبابيّ فاعل.

في الحقيقة، أعتقد أنّ بعض قيادات الطّبقة السّياسيّة “التّاريخيّة”، ولا أتحدّث عن السّذّج مثلي ومثل كثير من الشّباب من حديثي العهد بالسّياسة والّذين انخرطوا بشكل لا إراديّ، طبيعيّ وطوعيّ في مسار الثّورةّ، كانوا يدركون بل ويريدون وقف المدّ الشّعبيّ الّذي كان سيأتي على أسس النّظام القائم بمفهومه الشّامل، حكما ومعارضة، وهو تحديدا ما لم يكن يريده جزء هامّ من “المعارضة السّياسيّة” الّتي لم تكن ترنو إلى أكثر من إبعاد الخصم التّاريخيّ لتحلّ محلّه وفق ترتيبات تحدّدها هي في هيئات ولجان تحدّد هي تركيبتها. طبعا لا أصدر حكما هنا على صواب هذا الخيار ولا أريد شيطنة المعارضة السّياسيّة الّتي أعتقد أنّ أغلبها كانت صادقة في مقاومة الاستبداد، فلا أحد يمكن أن يتنبّأ بما كانت ستأول إليه الأوضاع في ظلّ انخرام الوضع السّياسيّ والأمنيّ مع فراغ مؤسّساتيّ وغياب تنظيم ثوريّ يؤطّر الغضب الشّعبيّ، أريد فقط الإشارة إلى غياب تنظيم جماهيريّ يعبّر عن الإرادة الشّعبيّة للجموع الغاضبة ويترجمها سياسيّا.

ولكنّ ما سيأتي لاحقا، عندما ستتمكّن هذه البرجوازيّة من الحكم، وفي تشكيلات مختلفة (الهيئات الانتقاليّة، حكومات محمّد الغنّوشي، حكومة السّبسي، حكومات التّرويكا، حكومة التّكنوقراط…)، من تعامل مع هذا الشّباب الثّائر والغاضب هو الأخطر في تقديري.

في كلّ الثّورات والأزمات السّياسيّة، يستنجد الحكّام بأزمات قد تكون أمنيّة داخليّة أو خارجيّة أو عدوّ خارجيّ يستوجب وحدة مقدّسة تؤجّل المعارك الدّاخليّة إن لم تلغها أو تضعف خطّ المقاومة الدّاخليّة وتشتّته وقد تجنّده لمحاربة هذا الخطر القادم من الخارج. ونجد في التّجربة التّونسيّة أشكالا متنوّعة من تعامل السّلطة الحاكمة مع الشّباب الثّائر والغاضب.

الكلّ يتذكّر كيف تمّ، وبشكل مفاجئ، فتح الباب لتهجير عشرات الآلاف من التّونسيّين إلى أوروبا عبر لمبدوزا وكيف تجاهلت السّلطات المتعاقبة عذابات عائلات المهاجرين ومطالبهم الملحّة في البحث عن أبنائهم؟

في الثّورة الفرنسيّة، حاول الملك بادئ الأمر تضخيم التّهديد الخارجيّ، إلّأ أنّ تصميم الثّوّار وضعف الجبهة الخارجيّة للأسباب الّتي ذكرناها حالت دون نجاح مراوغة الملكيّة. في وقت لاحق، عندما توحّدت الامبراطوريّات الأوروبيّة ضدّ الثّورة الفرنسيّة خوفا على عروشها، كانت الثّورة الفرنسيّة قد تنظّمت وأصبح لها جيش قويّ وموحّد حامل لعقيدة ثوريّة بعد أن التحق به العديد من أبناء المزارعين الفقراء الّذين كانوا يحاربون في صفوفه دفاعا عن الفوائد الّتي نالوها من الثّورة (كملكيّة الأراضي المصادرة إبّان الثّورة من الكنيسة وسنّ مئات القوانين ضدّ الإقطاع…). في تونس، وخلافا لذلك للأسف، كانت ومازالت المؤسّسة العسكريّة تعاني تهميشا وما يزال العمل العسكريّ محتقرا في الوعي الجماعيّ. هذا بالإضافة إلى تواضع قدرات المؤسّسة العسكريّة التّونسيّة بالمقارنة مع جيرانها، الأمر الّذي سيجعل السّلطة الحاكمة، بدلا من اختلاق أزمات خارجيّة مع الجوار القريب، ستشجّع بطرق مباشرة أو غير مباشرة على ما سمِّي باطلا الجهاد في سوريا. ستلعب التّرويكا حكومة ورئاسة دورا أساسيّا في الدّفع بآلاف الشّبّان التّونسيّين في المحرقة السّوريّة وفي حرب لا ناقة ولا جمل لهم فيها عبر الدّعوات المباشرة وغير المباشرة والتّنسيق مع السّلطات اللّيبيّة والتّركيّة لتهجير الشّباب التّونسيّ للقتال في سوريا عبر ليبيا فميناء أنطاليا ثم سوريان كلّ ذلك بتواطؤ مع بارونات التّهريب والإرهاب الّذين تمعّشوا من تجارة البشر والسّلاح والنّفط اللّيبيّ والسّوريّ الّذي يباع بأبخس الأثمان في تركيا مقابل دم الشّباب العربيّ اليائس من الثّورة المسروقة. هذا طبعا دون الحديث عن دول حلف شمال الأطلسيّ المستفيدة الأولى من الحروب بين الإخوة العرب عبر صفقات تسليح كلّ أطراف النّزاع لتربح على جميع المستويات وتوفّر سيولة تخرجها من أزمتها الاقتصاديّة الخانقة دون أن تريق دم أمريكيّ أو فرنسيّ واحد، وما حاجتها لذلك والعرب يتناحرون كما أرادت لهم الرّاعية الأمريكيّة؟

في الطّرف المقابل، أو في ما اتُّفق على تسميته بقوى المنظومة القديمة، نلاحظ نفس الممارسات ولكن بوسائل مختلفة. ولعلّ التّركيز المكثّف حول الحرب على الإرهاب وإدخال نوع من التّراتبيّة المقيتة الّتي تضع شهداء الإرهاب في مقام يعلو مقام شهداء الثّورة الّذين تناساهم الإعلام تحت راية الحرب المقدّسة ضدّ الإرهاب وأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، يذكّرنا بما حدث في الثّورة الألمانيّة الّتي أجهضت في بدايات القرن العشرين، بالرّغم من توفّر كلّ الظّروف التّاريخيّة والطّبقيّة لثورة اشتراكيّة (نجاح الثّورة البلشفيّة وأغلبيّة من العمّال…). إلّا أنّ الحزب الدّيمقراطيّ الاشتراكيّ، وإن كانت جلّ قواعده من العمّال، كان تحت سيطرة برجوازيّة صغيرة كانت تصبو أكثر إلى حماية امتيازاتها ومصالحها وستقف مع الامبراطوريّة (Le Reich) في التّداين الحكوميّ الضّخم من أجل الحرب المقدّسة رغم معارضة الطّبقة الكادحة الّتي تشكّل أساس الحزب، وسيكون كارل ليبكناخت (Karl Liebknecht) وروزا لكسمبورغ (Rosa Luxembourg) من القلائل في الحزب ممن سيعارضون هذا الخيار وسيقاومونه من أجل توحيد العمال ضدّ “العدوّ الحقيقيّ الّذي هو في الدّاخل”، هكذا كان شعارهم الّذي سيغتالون بسببه.

طبعا سيخرج علينا الحقوقجيّ ذو النّرجسيّة العمياء بخطابات رنّانة من قبيل ديبلوماسيّة القيم والمبادئ ونصرة الشّعب السّوريّ وووو. وهنا أقول للشّباب انتبهوا خاصّة من هؤلاء الّذين يرسلون أبناءهم للدّراسة في الجامعات الفرنسيّة والأمريكيّة ويشجّعونكم في نفس الوقت على ترك الوطن للموت من أجل سراب. انتبهوا لمن لم يجنّد العقول والطّاقات لتوحيد الجبهة الدّاخليّة ضدّ الجهاد المقدّس ضدّ الفقر والبطالة والتّبعيّة والتّخلّف والجوع والمهانة. انتبهوا ممن راهن على تفريخ أحزاب تجمّعيّة سمّوها مجازا دستوريّة واستقبلوا رموزها وطبّعوا معها طمعا في تقسيم التّجمّعيّين قبل أن ينقلب السّحر على السّاحر. انتبهوا ممّن رفض المحاسبة منذ الدّقائق الأولى والحاسمة من الثّورة طمعا في تسويات مع النّظام القديم.

بناء على ما سبق، نحن إذا لسنا إزاء استقطاب بين قوى الثّورة وقوى الثّورة المضادّة، فقوى الثّورة لم تحكم يوما بل أُخمِدت أو شُتِّتت أو هُجِّرت أو لنَقُل صُدِّرت إلى معارك خارج حدود الثّورة وتاريخها لتخلو السّاحة لمحترفي التّضليل والصّفقات والتّسويات. إنّ منطق العسكرة الّذي يطغى اليوم يجرف الثّورة ويصحِّر ساحة المعركة الحقيقيّة. كم آسف حين أرى أصدقاء كنت أحسبهم ولازلت فرسان الحقّ من ينجرّون، بصدق وحسن نيّة، وراء موجة الاستقطاب ويخلون ما تبقّى من ساحة المعركة. في الحقيقة، لا يمكن أن تكون في أكثر من معسكر، وما أن تلتحق بأحد معسكري الثّورة المضادّة حتّى تهجر معسكر الثّورة الّذي سيكون أعزل ومعرّضا للتّفجير والتّفخيخ والتّشويه وسيحمل حتما تشويهات حرب قوّتي الثّورة المضادّة. بل إنّ الأخطر هو الاصطفاف على أساس التّخويف المنهجيّ الّذي أسلفنا تفصيله، لا يمكن أن نكون أداة لأيذ من القوى المضادّة للثّورة.

إنّ التّحدّي المطروح اليوم هو إعادة ترميم صرح الثّورة المهترئ واستنهاض الشّباب الغاضب والثّائر بعيدا عن تشنّج الهويّات وصخب الثّوريّين المزيّفين الّذين جرّبناهم ففشلوا وألحقوا بالثّورة ما ألحقوا. التّحدّي هو كيف يمكن بناء تنظيم شعبيّ جماهريّ يجمع بين الجِذريّة والعقلانيّة، بين الدّيمقراطيّة والانضباط، بين الصّرامة الفكريّة والبراغماتيّة المبدئيّة، بين الاختلاف ووحدة الصّفّ ضدّ قوى الرِّدّة المتوحّدة على تدمير الثّورة؟ التذحدّي الأكبر هو في إعادة بناء الأمل على أنقاض الخوف والتّخويف؟ كيف نعطي موعدا للشّباب مع وطن يتّسع لآمال الجميع في حياة كريمة لا ظلم فيها ولا إهانة، وطن المساواة الحقيقيّة بين المواطنين على اختلاف جهاتهم وانتماءاتهم السّياسيّة والفكريّة؟ كيف نبني نخبة سياسيّة جديدة تتوجّه إلى أجمل ما في عقول المواطنين وقلوبهم من ذكاء وحبّ للغير وتسامح وصفح وتجاوز إلى ما هو أعظم وأرقى عبر برامج عقلانيّة علميّة لا إسقاطات أيديولوجيّة جامدة تثير الأحقاد والفتن؟

هوامش

1. Histoire socialiste de la révolution française, Jean Jaurès 1903.

2. La lutte des Classes en France en 1789, Karl Kautsky.

3. La révolution Mexicaine de 1910 – 1920, Alan Woods.