essebsi-ghannouchi

أسابيع قليلة تفصلنا على الإنتخابات الرئاسية والتشريعية في تونس والتي ستنتظم بداية من يوم الأحد 26 أكتوبر القادم. تحضيرات الأحزاب لهذه الإنتخابات تجري بنسق متسارع، ولئن غاب عن أغلبها ضرورة عرض برامجها الإنتخابية فإنه لم يغب عنها الشروع في محاولات التأثير على الناخبين عبر خطابات جديدة ومختلفة أخذت بعين الإعتبار أخطاءها السابقة في محاولات لكسب تعاطف الناخب التونسي وإيهامه بقدرتها على إصلاح مسارها.

تعتمد الأحزاب السياسية أساليب مختلفة للتأثير على الناخبين ومن بينها وسائل الإتصال السمعية البصرية ووسائل الإتصال الحديثة كمواقع التواصل الإجتماعي واللقاءات المباشرة من ندوات واجتماعات وزيارات ميدانية وأيضا المعلقات واللافتات العملاقة وغيرها. وقد أعدت الأحزاب التونسية العدة لاستغلال كل هذه الأساليب من أجل الوصول إلى عقل الناخب التونسي وإقناعه بتميزها وتفرّدها. غير أنه ونظرا لخيبة الأمل التي مني بها التونسيون جراء الوعود الكاذبة التي أطلقتها الأحزاب السياسية خلال الإنتخابات الفارطة، اختار المتنافسون السياسيون بمناسبة الإنتخابات القادمة التغيير في خطابهم وأفكارهم في محاولة للتكفير عن أخطاء الماضي أو طمسها إن لزم الأمر، مستغلين في ذلك ما حصل من احداث في السنوات الثلاث الفارطة لتقديم رؤى مختلفة تصب أغلبها في خانة التملص من المسؤوليات السياسية ورمي الأخطاء على المنافسين مع وعود تتناسب مع ما تمر به تونس من ظروف أمنية واقتصادية خانقة.

وعود كاذبة غير منجزة

لازال الشعب التونسي يتجرّع مرارة تصديقه لوعود الأحزاب السياسية الوردية خلال الإنتخابات الفارطة. مباشرة بعد ثورة ذهب ضحيتها مئات الشهداء وآلاف الجرحى، لم يتوقّع المواطن التونسي أن يقع في فخ نفس الجشع السياسي والتكالب على المناصب من طرف أحزاب سياسية عانى أغلبها القمع والتضييق من طرف نظام بن علي وكان أولى بها أن تثبت ثباتها على المبادئ التي طالما نادت بها. غير أنّه وعلى إثر وعود إنتخابية فاقت التصورات ودغدغت أحلام التونسيين في بناء دولة عادلة تضمن مقومات الحياة الكريمة لمواطنيها، كانت الصدمة شديدة على إثر الفشل الذي منيت به الأحزاب المنتخبة في إدارة البلاد حتى أنها قادتها إلى متاهات سياسية واقتصادية وأمنية دفعت بالتونسيين إلى الثورة ضدّهم وتعويضهم بحكومة تكنوقراط لازالت تصارع من أجل الحفاظ على استقرار البلاد إلى حين الإنتخابات القادمة.

رغم أن الإنتخابات الفارطة انتظمت أساسا من أجل كتابة دستور جديد للبلاد إلا أنّ ممثلي الأحزاب السياسية، رغم وعيهم بدورهم التأسيسي القادم، قاموا بخداع الناخبين من خلال إعداد برامج انتخابية كاذبة في أغلبها وصعبة التطبيق. فحركة النهضة مثلا أعدت برنامجا انتخابيا من 365 نقطة من بينها : القطع النهائي مع منظومة الفساد، الحفاظ على مكاسب المرأة، إحداث أكثر من 400 ألف موطن شغل وتقليص نسبة البطالة إلى حوالي 9 بالمائة. كلّ هذه النقاط بقيت حبرا على ورق حتى أن حركة النهضة أثبتت في تمشيها التأسيسي والدستوري رغبتها في تطبيق عكس ما جاء به برنامجها الإنتخابي. فبخصوص القطع مع منظومة الفساد أثبتت حركة النهضة صاحبة الأغلبية في المجلس التأسيسي وأهم مكون للترويكا عدم جديتها في المضي في محاسبة الفاسدين حتى أنها لم تتورع عن التراجع عن التصويت على قانون إقصاء التجمعيين المتورطين مع النظام السابق. أمّا بخصوص المحافظة على مكاسب المرأة فقد عرفت نقاشات التأسيسي حول حقوق المرأة جدلا واسعا سببه رغبة بعض نائبات حركة النهضة في التنصيص على أن “المرأة مكملة للرجل” ولم يتراجعن عن هذا المقترح إلا بعد ضغط إعلامي وحقوقي واسع. كما فشلت حركة النهضة أيضا في الوفاء بوعودها بخصوص توفير عدد كبير من مواطن الشغل وقد جاء في تقرير لصندوق النقد الدولي بتاريخ افريل 2014 أي بعد مرور أكثر من سنتين على حكم الترويكا أن تونس هي الأولى عربيا في ارتفاع نسبة البطالة التي سجلت انخفاضا قدر ب 0.7 بالمائة حسب نفس التقرير. هذه إذا عينة من نقاط برنامج حركة النهضة الإنتخابي السابق والذي يرى محللون سياسيون أن حركة النهضة فشلت فشلا ذريعا في تحقيق أغلب نقاطه ال365.

ولئن حصلت حركة النهضة عموما على دعم الناخبين بفضل توجهاتها وأفكارها الدينية التي سعت إلى زرعها ومن بينها “إعادة الإعتبار للدين الإسلامي ورعاية المساجد والحد من الفساد الأخلاقي” الخ، فإن حزب العريضة الشعبية (تيار المحبة حاليا) الحاصل على ثاني أكبر عدد ناخبين في انتخابات 2011 اعتمد طريقة أكثر سهولة. فباعتماد قناته التلفزية الخاصة، نجح رئيس حزب العريضة الشعبية في التأثير بطريقة مباشرة على البسطاء والفقراء والمهمشين من الناخبين من خلال برنامج انتخابي “بدائي” ومؤثر. ففي حين سعت الأحزاب السياسية جاهدة للوصول إلى الناخبين في الجهات التي يقطنونها اكتفى الهاشمي الحامدي بتنشيط حصص تلفزية على قناته “المستقلة” التي تبث من لندن متوجها إلى التونسيين بجمل بسيطة تحمل وعودا طالما حلمت فئة هامة من المواطنين بتحقيقها : توفير الصحة المجانية والتنقل المجاني لمن هم في سن التقاعد، وإنشاء ديوان للمظالم حتى يأخذ كل ذي حق حقه. هذا بالإضافة إلى تأكيد الحامدي أنه في صورة انتخابه رئيسا فإنّه سيتخذ من “حي التضامن” الشعبي مقرا للرئاسة. وقد انطلت الحيلة على المواطنين ونجح الحامدي في احتلال مركز هام في المجلس التأسيسي إلا أن قوة منافسه (حركة النهضة) وإعدادها الجيد لحلفها الثلاثي حال دون تحقيق الهاشمي الحامدي لأحلامه التي بناها على أنقاض أحلام البسطاء من التونسيين.

نذكّر أيضا بوفرة الوعود التي قطعتها بقية الأحزاب خلال انتخابات 2011 والتي تميزت أغلبها بمس انتظارات المواطنين واللعب على أوتار أوجاعهم وأحلامهم. حتى أن البعض تمادى في استغفال شعب استفاق من صدمة الثورة فقطع وعودا غريبة وطريفة وساذجة ومن بينها : الصحة المجانية، تقليص ثمن الخبزة إلى 100 مليم، تزويج العازبين والعازبات بدون تكاليف، فرض الشريعة الإسلامية، السماح بزواج الرجل ب 4 نساء وغيرها من الترّهات التي كانت مادة جيدة للسخرية على المواقع الإجتماعية.

وعود جديدة بطعم الفشل، والمال السياسي في قفص الإتهام

لم يثن الفشل الذي منيت به الأحزاب جميعها بدون استثناء خلال الفترة السابقة عن العودة خلال التحضير للإنتخابات القادمة بأكثر عزم على مزيد تقديم نفسها في صورة “البطل المنقذ” للبلاد من شر الأخطاء التي ارتكبت سابقا. ولم يفت هذه الأحزاب أن تحمّل مسؤولية الأخطاء لمنافسيها السياسيين. وتهتم وسائل الإعلام المحلية والعالمية بتصريحات المرشحين الأهم للفوز في الإنتخابات في هذا الخصوص وهما حزبي نداء تونس وحركة النهضة. فتحاول حركة النهضة التملص من تهمة رعاية الإرهاب وحماية الإرهابيين والضلوع في تعكير الوضع الأمني بالبلاد، حيث تميزت تصريحات أغلب مرشحيها للإنتخابات بمحاولة التأكيد على رغبة الحركة في الفترة القادمة في “محاربة الإرهاب والسعي لضمان استقرار البلاد”. وفي هذا الإطار حمّل رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في اخر تصريحاته الإعلامية مسألة إطلاق سراح الإرهابيين لحكومة الباجي قايد السبسي مؤكدا أن هذه الحكومة سمحت بعقد أول مؤتمر لأنصار الشريعة. ويفهم من هذه التصريحات رغبة رئيس حركة النهضة في التملص من تهمة دعم الإرهاب التي لحقت حزبه وتحميل مسؤوليتها السياسية لمنافسه الأول، حزب نداء تونس.

في المقابل استغلّ قياديو حزب نداء تونس ما عرفته البلاد من ضربات إرهابية متوالية ضد تونسيين عزّل لتقدّم نفسها كبديل قادر على “لمّ شمل التونسيين الذين فرقتهم الأحزاب الدينية وحماية البلاد من عصابات الإرهاب”. ولم يفت ممثلو النداء من خلال تصريحات إعلامية التأكيد على جعلهم إنعاش الإقتصاد من بين أولوياتهم في محاولة للتأثير على المواطن التونسي الذي أنهكه غلاء الأسعار وتراجع المؤشرات الإقتصادية.

وتعمل بقية الأحزاب على نفس المنوال عبر استغلال قضيتي الأمن والإقتصاد كنقاط أساسية في حواراتها الإعلامية ولقاءاتها الشعبية غير أنّها أيضا لم تتوان عن التذكير بخصوصياتها الإيديولوجية وما ستحققه لأنصارها من رغبات. ونذكر هنا إصرار رئيس حزب الإنفتاح البحري الجلاصي على مسألة تعدد الزواج والزواج بقاصر وهي مسائل وإن لم ترق لكثير من التونسيين فإن فئة هامة من الشعب التونسي تساندها وتدعو إليها بدعوى ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية. كما أن إحدى المرشحات للإنتخابات التشريعية وهي منقّبة وعدت من خلال تصريحات إعلامية ب”تطبيق الشريعة الإسلامية” ضاربة عرض الحائط بكل ما جاء به دستور تونس الجديد من تنصيص على مدنية الدولة.

إن التطرق إلى التأثير النفسي على الناخبين من خلال الخطابات الرنانة ومحاولة الوصول إلى مكامن الخوف في عقولهم والسيطرة عليها عبر وعود طمأنة فإنّ التأثير المباشر يأخذ حيزا هاما من برامج الحملات الإنتخابية. ويلعب المال السياسي هنا دورا هاما حيث سجّلت المنظّمات المكلفة بمراقبة الإنتخابات تجاوزات مفضوحة تمثلت في شراء ذمم الناخبين باستعمال مبالغ مالية أو أدوات مدرسية أو خرفان أضاحي وهي ممارسات استعملتها أحزاب كبرى وذات موارد مالية هامة. ولا يفوتنا هنا التذكير بما تناقلته المواقع الإجتماعية من قيام مرشحين للإنتخابات الرئاسية بشراء إمضاءات تزكية من المواطنين بمبالغ تراوحت بين 50 و 100 دينارا. ونظرا لأن الغلبة دائما للأقوى ماديا وخطابيا فيمكن التكهّن من الآن بما ستشهده الحملات الإنتخابية من منافسة كبرى حول من يدفع أكثر. والأمر هنا يتوقف على وعي الناخب التونسي بضرورة التحري جيدا في محتوى الخطابات الرنانة وأيضا رفض بيع ذمّته بمبلغ زهيد. ولن يحصل هذا إلا في حال غلّب الناخب المصلحة العامة للبلاد على مصلحته الخاصة الضيقة. فكيف ستحمي الدولة ناخبيها من ضعاف الحال من سطوة المال الفاسد والتوجيهات الفكرية الخبيثة ؟