يتأكد مع مرور الأيام الإنطباع العام عن الحملة الإنتخابيه الحالية و التي توشك على نهايتها حول الصبغة الإحتفالية التي إعتمدها مهندسوها و هيمنة الحملة الرئاسية على إهتمامات اللآلة الدعائية بمختلف أجهزتها و تبدو الصورة التي ترسمها الحملة عن تونس مختزلة في بلاد ترقص فرحا بتجديد إنتخاب رئيسها.

و هكذا بعد سنتين من التوسل و المناشدة حتى يعلن الرئيس قبوله بالترشح لدورة خامسة و سنة كاملة من المباركة و المساندة لقبوله بالإعلان عن ترشحه لا يمكن أن نستغرب أن تتلخص الحملة الإنتخابية في أسبوعين من الإحتفالات بانتخابه فضلا عما سيعقبها من إحتفالات بمناسبة حلول ذكري توليه السلطة بعد أيام في 7 نوفمبر القادم.

و يمكن القول رغم أن تونس ليست مملكة بصفة رسمية فإننا لا نزال ننظم أطول و أضخم إحتفالات بعيد العرش يمكن أن يشهدها بلد في العالم.

يمكن للكثيرين أن لا يتفقوا معي على هذه الصورة و لكنني لا أعتقد أن هناك أحدا لا يلاحظ حالة الهوس و الهستيريا التي أصبحت تسيطر على الحكم في بلادنا و التي تذكرنا إلى حد كبير بنهاية حكم الرئيس السابق الحبيب بورقيبة عندما وقع تحويله إلى مجرد صورة تتصارع حولها أجنحة النظام و الحاشية على النفوذ للتموقع إستعدادا لخلافته عن طريق المزايدة في تأليهه و تقديم شواهد الولاء له.

الرئيس بن علي ظهر مرة واحدة « للعموم » خلال هذه الحملة بمناسبة إفتتاحها يوم 10 أكتوبر بقاعة الرياضة برادس حيث قام بتلاوة خطاب نشر ملخصا في 24 نقطة و مطولا في كتاب من أكثر من مائة صفحة وهو عبارة عن مقتطعات من مخطط الدولة العشري للتنمية الذي وقع البدء في تنفيذه منذ سنتين و قدمه باعتباره » برنامج للسنوات الخمس القادمة، ويمهد في الآن نفسه للمراحل التي ستليه والتي تمتد إلى أواخر العشرية القادمة وما بعدها… » وقد تميز بخلوه من أي مضمون سياسي و تجنبه التعرض لكل القضايا السياسية المزمنة و المطروحة حاليا. و إذا كان لنوعية العبارات المستعملة و نسبة ترددها في الخطاب من معنى فإننا نجد أن الرئيس بن علي يردد ذكر سنة 2014 حوالي 20 مرة في نفس الخطاب بما يؤشر للهاجس الحقيقي الذي يحمله و المقصودين منه الذين أراد طمأنتهم بهذا الخطاب.

و يمكن القول أن إنتخابات 2009 و إن كانت خالية تماما من أي مضمون سياسي و لا تحمل أي رهان سياسي أو حتى إنتخابي، لا لأن نتائجها معروفة سلفا فقط أو لكونها حسب كل المؤشرات ستزيد من تركيز السلطة و التفرد بها بين أيدي أشد المدافعين على النهج الشمولي التسلطي القائم، فإنها تمثل نهاية مرحلة وبداية دخول البلاد التونسية لمرحلة عدم استقرار سياسي بسبب الظروف الموضوعية للسلطة ذاتها و مواحهتها لتحدي ضرورة تجديد نفسها.

فالرئيس بن على المتمسك بالسلطة بقوة يواجهه تحدي دستوري شكلي على الأقل يجعل من دورته القادمة آخر دورة يمكنه مباشرتها في السلطة. و لئن كانت إعادة تحوير الدستور لا يمثل إشكالا بالنسبة له على المستوى الداخلي على الأقل فإن قدرته على الإضطلاع بها في سن الثامنة و السبعون و لو بصورة صورية قد لا يكون مضمونا أو مقبولا و سيمثل بالنسبة للنظام الإشكالية الحقيقية التي تشغله في الفترة القادمة. لذلك يبقى السيناريو التقليدي للتوريث السائد في المنطقة العربية و الإفريقية حاليا الحل الأكثر إحتمالا بالنسبة لنظام السابع من نوفمبر فضلا عن كونه قد وضع فعلا في بداية التنفيذ منذ مدة من قبل العائلة المالكة حسبما تؤكده عديد المؤشرات المتضافرة سواءا من خلال تدعيم الوزن السياسي و الإقتصادي لصهر الرئيس « صخر الماطري » أو من خلال تعاظم الدور السياسي الذي أصبحت تحتله زوجة الرئيس « ليلى الطرابلسي » كوصية حقيقية على رئاسة الجمهورية. و هكذا يتضح أن أهمية إنتخابات تونس 2009 لا تكمن في ما سينبثق عن إقتراع 25 أكتوبر 2009 و لكن في ما وراء 2009.

ليس المقصود هنا البحث عن إستشراف مستقبل الوضع العام في تونس على خلفية ما يحصل حاليا بقدر ما هو محاولة رصد التحولات المترتبة عن الواقع الحاضر كما ييتجلى من خلال هذه الإنتخابات.

و أعتقد أن القصور الواضح في فرض طرح المشاكل السياسية الحقيقية سواء من داخل السلطة أو من خلال المعارضة بكل أشكالها سيزيد من تعميق إستقلال المجتمع عن النخبة السياسية. و إذا كانت السلطة و المعارضة يشكلان النظام القائم بكل ميزاته و هناته فغن فشل هذا النظام في التعبير عن تطلعات وإستحقاقات و مطالب المجتمع لا يعني سوى بداية القطيعة بين المجتمع و النظام. و يتأكد اليوم أكثر فاكثرو لدى فئات متعاظمة داخل المجتمع كما داخل النخبة أن تونس ليست في حاجة إلى سلطة جديدة و لكنها في حاجة إلى نظام جديد.

لذلك فإننا عندما نطالب بعدالة أفضل و قضاء أفضل أو بحرية تعبير و إعلام أفضل أو بانتخابات أفضل هناك من يضن أننا لازلنا نتوتجه لنظام السابع من نوفمبر و نتوسل له لتحقيقها لنا لأننا لا نختلف معه فقط في ما يمكن تقديمه حتى تصبح هذه المؤسسات على سبيل المثال على شكل أفضل و لكننا نتناقض معه في مقاصد الكلمات نفسها فما هو أفضل بالنسبة لنظام كنظام السابع من نوفمبر لا يمكن أن يكون أفضل لمجتمع كمجتمعنا.

لقد أقام جانب كبير من المعارضين لحكم الرئيس بن علي خلال العشرية المنقضية سواءا في تيارات وتنظيمات اليمين أو اليسار استراتيجيتهم لحل الأزمة السياسية على المطابة بالعفو التشريعي العام كمدخل لحل الأزمة السياسية و بينما كنا نمارس النضال الحقوقي في وجه دكتاتورية غاشمة ضد الظلم و على أساس عدم شرعية الجرائم و العقوبات المسلطة على كل المضطهدين كان القادة السياسيين لهؤلاء المضطهدين أنفسهم لا يتجاوزون المطالبة بالعفو و المصالحة مع النظام. و هو ما يعني أننا كنا نختلف جذريا في تقييم طبيعة النظام الذي نتعامل معه. لقد أعطى النظام جرائد و صحف عديدة لمنتقديه و قام بتمويلها لبعضهم و لكننا لم نكن نقصد هذا النوع من حرية التعبير و الصحافة كما لم نكن نقصد هذا النوع من حرية التنظم و تكوين الجمعيات و الأحزاب الممول حسب درجة الخضوع و الإنتهازية. و بنفس الشكل خبرنا العفو الذي يمنحه نظام السابع من نوفمبر و حدوده و معانيه و يمكن لأي شخص بدون إستثناء ممن شمله هذا الإجراء أن يحكي لنا حياة المعفي عنه في ضل نظام يعتبر لديه عدوا له. كما خبرنا ديموقراطية معارضته و كيف يرتب مؤتمراتها و ينتقي قياداتها.

و عندما فشلت مساعي إقامة هيئة وطنية في وجه الإستبداد على تراكمات نجاح وصدى إضراب الطعام من أجل الحقوق و الحريات بمناسبة إنعقاد المؤتمر العالمي للمعلومات بتونس ظهرت بكل وضوح عيوب النخبة السياسية بكل ما تحمله من عقلية ماضوية و أنانية و حسابات ضيقة سواء لدي الوصوليين داخل الحزب الحاكم أو لدى المعارضين و غلبت إستراتيجية البحث على التموقع و المشاركة على ضوابط المحافظة على المطالب المبدئية الأساسية التي نعرف جميعا أنه لا تحرر لمجتمعنا و وطننا من الإستبداد و النهب و المحسوبية بدون تحقيقها. و قد تجلى بشكل مكشوف هذا الوضع من خلال المواقف من إنتخابات 2009 و إهتزاز المواقف و ترددها بين المشاركة و الإنسحاب و المقاطعة. بل أننا و جدنا في بعض الفترات مجرد الجهر بضرورة الدعوة لمقاطعة هذه المهزلة و رفض نظام المحاصصة يثير من التشنج لدى بعض المعارضين أكثر مما يثيره لدى أجهزة الإستبداد. و نعرف اليوم بدون حاجة للإنتضار أو التذكير حصيلة الحقل من البيدر وسوء تقدير حسابات كل المناورين.

عندما يحل يوم 26 أكتوبر 2009 تكون كل الأمور تقريبا قد توظحت ليتجلى أمامنا وضع جديد لا يمكن لأي تونسي إلا أن يعيد النضر في مواقفه أمامه. و هو وضع ليس بالضرورة في صالح النظام القائم و قد إنتقل من الإستبداد إلى التملك حتى أصبحنا لا نعرف إن كان لدينا رئيس أو إثنين و إن كانت الحكومة حكومة أو محكومة و هل الأمن في أيدي مؤسسات معلومة أم سنشاهد فرق الموت وصنوف المليشيات و هو وضع لا أعتقد أنه مازال سيجد فيه من يشاركه في انتخابات بنفس المواصفات أو أن النظام نفسه بقي بحاجة و لو لمهزلة إنتخابات كما أنه وضع سيجد فيه الحزب الحاكم نفسه و هو الحامل لشعار الحزب القائد في التحرير و الضامن للمصير يسأل نفسه أي ضمان بقي يمثله بعد أن ترك البلاد صفقة تباع و تشترى يتنازع عليها أصحاب النفوذ ممن أثروا بالنهب و استغلال النفوذ.

إنه عهد جديد سيفرز الأحرار من العبيد.

المختار اليحياوي – الثلاثاء 20 أكتوبر