بقلم عماد الدائمي

“ما نيل المطالب بالتمني ..حقنا في العودة ينتزع ولا يستجدى.. تضامننا هو حجر الأساس لاستعادة حقوقنا والتحرير والعودة”. كلمات خالدة قالها المطران هيلاريون كبوشي مطران القدس المنفي من فلسطين منذ أكثر من ثلاثين عاما في ملتقى دمشق لحق العودة الفلسطيني في موقف مهيب اختلطت فيه دموع المطران الصادقة بتصفيق الحضور وهتافاتهم.

كلمات استمعت إليها بخشوع أمام تلفازي يوم الأحد الماضي، فوجدتها تعبر بدقة متناهية لحد التماهي عن مشاعري وتصوري لمسألة عودتنا معشر المنفيين العرب الفارين من جحيم الدكتاتوريات وتعسف الأحكام العرفية والناجين بجلودهم من اضطهاد الأنظمة الثورية وتسلط الجمهوريات الملكية وتنكيل الحكام المتشدقين بالديموقراطية.

إنكسار المحب المتشوق، وصدق المؤمن المخلص، وعزة الكريم الذي لا يرضى الهوان، وعزيمة الثائر الذي يرفض الانحناء … معاني مكثفة في خطاب المطران.. التقت في خطاب واحد لتعطي لمفهومه للعودة (ومفهومنا) هوية فريدة، تتعالى عن الزمان والمكان، وتخترق جدار المستحيل لتحلق فوق سماء الممكن، في إنتظار لحظة النزول على الأرض الموعودة، لحظة إلتقاء الثالوث المقدس: النية والفعل والقدر.

“ما أحلى الحياة بالأمل”، أمل عاش به المطران ثلاثين عاما، وظل طيلة تلك الفترة حيا نابضا لم ينقص منه تعقد الواقع في بلد المنشأ ولا رغد العيش وكثرة المشاغل في بلد الملجأ.

“ما أضيق الحياة لولا فسحة الأمل”، ضيق عبرت عنه دمعات صادقة لرجل فاق عمره الثامنة والثمانين، ودب في نفسه المكلومة مع تلك السنين شعور مرير بأنه مغادر لدنيانا هذه قريبا دون أن يطفىء ضمأه بتكحيل عينيه برؤية موطنه وتمتيع جوارحه برائحة ترابه الطاهر. ولكنه الايمان ما أعظمه، يحضر كلما اعترى نفس المؤمن ضعف بشري، ليطرد اليأس ويزيل الهم ويرفع الغم ويبث الأمل من جديد، فينبري المطران من جديد بلغة المتيقن من رحمة ربه والمحتسب له في بلواه والواثق في قدرته وجلاله ليصدع عاليا مدويا أنه “إن لم يعد لوطنه جسدا وحواسا” فإنه عائد حتما روحا وأنه سيحلق بفضل المولى فوق كنائس القدس ومآذنها ليلقي عليها نظرة وداع قبل أن يلقى ربه.

ما أروع تلك الكلمات، وما أجمل تلك العبر، وما أصدق تلك المشاعر.

مزيج عجيب من المشاعر تنازع نفسي وأنا أصغي لتلك الكلمات الخالدة: إشفاق وإعجاب وحزن وفرح وضيق وأمل.

ما أقساه شعور الانسان بأنه قد يموت بعيدا عن وطنه، محروما من حق طبيعي أعطاه المولى بعدل وسواسية لكل خلقه: حق أن يكون لكل شخص موطن ومسقط رأس. ما أشده على النفس شعور حزين بالغبن والقهر لوجود موانع اصطناعية وإرادات خارجية ظالمة تمنع وصلا وتفرض فصلا وتقطع رجاء.

ما أشد وطأتها على القلب مشاعر الحنين والشوق عندما تثور دون إنذار لتهز الوجدان وتشل الحركة وتعقد اللسان.

ما أقواك في ضعفك، سيدي المطران، عندما اعترفت أمام الجميع، في إنكسار عزيز وذل كريم، أنك تلجأ يوميا إلى مكان صغير للصلاة حيث مقر إقامتك في منفاك بروما كلما ضاقت بك الدنيا وهاجمك الحنين والشوق ولا تنطق بأي حرف “لأن الله يعرف كل شيء”.

كلمات مزلزلة في إنكسارها، تدك عرش الجبابرة … لو كانوا يفقهون..

نعم، سيدي المطران، “الله يعرف كل شيء” عن حالك وحال كل من حرم العودة إلى المهد وحضن الأم وتراب الآباء والأجداد ومرتع الصبا ومرابع الشباب.. وهو بجلاله ليس بعاجز على أن يردكم، ويردنا، إلى أرض الميعاد، رغم تدبير الأعداء وجبروت الظلمة. ولكنه الابتلاء يا سيدي. ابتلاكم المولى وابتلانا بالضعف والمنفى، وابتلى عدوكم وخصمنا بالقوة الموهومة والملك والجبروت، ليرى ما نحن وهم فاعلون.

عادل سبحانه في خلقه، يهب لمن يشاء سطوة في الدنيا، ولكنه يسلبه راحة البال ومحبة الخلق وطيب الذكر عند الغيب. ويبتلي من يشاء في صحته أو حريته أو يقدر له النفي من موطنه، ولكن يعوضه عن ذلك، إن صبر واحتسب وثبت، طمأنينة القلب وصفاء السريرة وحسن القبول ونصاعة الذكر في تاريخ البشر… وهي نعم ليس لها حدود.

معذرة سيدي إن أسأت فيكم أدبي بمقارنة غربتنا بغربتكم ومنفانا بمنفاكم وعودتنا بعودتكم. فجلالة قضيتكم، أهل فلسطين، وقداسة موطنكم، ومسار نضالكم الخالد وما قدم فيه من أرواح وتضحيات، ومصيرية عودتكم الاستراتيجية إلى مهد الرسالات المغتصب في ظل حرب المشاريع والارادات التي تنخرط فيها كل قوى الخير والشر في العالم… كل ذلك وغيره عوامل تجعل القياس باطلا وموازين الأهمية والأولوية مختلة.

غير أن عذري في جرأتي وسوء أدبي عاملان قد يشفعان لي، أولهما الإستواء بيننا وبينكم في الألم والضعف البشري عندما تلهب مشاعر الشوق والحنين كيان أحدنا وتجرح فؤاده وتطرد سهاده، أو عندما تضيق به الدنيا وهو يسمع نبأ رحيل قريب أو عزيز دون أن يرسم على جبينه قبلة وداع قبل أن يوارى أديم أرض هو محروم من وطئها..

أما العامل الثاني الذي يعدل نسبيا الكفة، كفة العذاب والمعاناة، ظلم ذوي القربى الذي هو أشد وأنكى من ظلم العدو الظاهر. فخصمنا الذي الذي نفانا من ديارنا، يا سيدي، على عكس عدوكم، يتكلم لغتنا ويدين ديننا ويشاركنا أعيادنا. مأساة مضاعفة أن يكون الذي يمنعك من العودة إلى وطنك أخ لدود لك يشاركك في الوطنية وفي التاريخ وفي تحديات المستقبل، اختلت لديه استحقاقات الحاضر وغلبت عليه مصالح اللحظة، فكسر العهد وفرط العقد وشتت الشمل.

سيدي المطران، إن قدسية عودتكم وفرادتها وارتباطها بمسار ومآلات الصراع الأزلي بين الخير والشر، يجعل تحققها في آماد قريبة مسألة عسيرة المنال في حساب البشر. أما عودتنا معشر المنفيين والمهجرين واللاجئين العرب، رغم تعقد شروطها وكثرة عوائقها ورغبة الكثيرين في تجويفها من معانيها، فتبقى أيسر للتحقق.

إذ يكفي أن يستفيق خصومنا ذات صباح ويقرروا أن يرفعوا الحواجز ويزيلوا العقبات مراعاة لمصلحة البلاد والعباد بل ومصلحتهم الشخصية المباشرة (مصلحة استقرار الحكم وتدعيم الشرعية) حتى نعود … وقد حصل ذلك فعلا مع العديد من المهجرين في السنوات الأخيرة (من البحرين والمغرب والجزائر وليبيا). وحتى إن استمر الخصوم على غيهم وعماهم، يكفي أن يتوحد أصحاب القضية ويضغطوا بكل ما أوتوا من جهد وقوة ومن وسائل مدنية إعلامية وحقوقية وسياسية حتى يفرضوا حقهم في عودة كريمة وآمنة ولو كره الكارهون…

سيدي، عودتنا ستكون حتما رافدا صغيرا يصب في نهر عودتكم. لأن عودتنا تعني إعادة اعتبار لكرامة البشر في أوطاننا، ورفعا لقيود القهر والتسلط على مجتمعاتنا، وإعادة توجيه لبوصلات شعوبنا الحائرة نحو قضاياها المصيرية… وكل تلك شروط لانتصار قضيتكم وتحقق عودتكم.

تأكد في الختام، سيدي المطران، أن قلوبنا ستظل معكم، وأن عودتكم كشعب وقضية، وعودة شخصكم الكريم كرمز حي لكرامة هذه الأمة وعزتها ووحدتها، ستظل من أوكد أولوياتنا.. سواء عدنا للوطن المفدى أو مكثنا معكم في المنفى.

*مهندس تونسي وأحد مؤسسي مبادرة “حق العودة للمهجرين التونسيين”.