هل يمكن المقارنة بين إضراب شيوخ قرية العمران عن الطّعام و إضراب صحافيي دار الصّباح؟

نعم المقارنة تجوز و المفارقة أجوز. شيوخ قرية العمران لهم من العمر ضعف عمر صحافيي دار الصّباح. الصحافيون يضربون من أجل حقّهم في ظروف أفضل للعمل و الشّيوخ يضربون من أجل حق أبنائهم في الحريّة و الحياة. المقارنة تكون ذات دلالة أكبر حين نحاول رصد طريقة التّعامل الإعلامي و السّياسي مع الإضرابين.

صحافيو دار الصّباح خاضوا إضراب جوع تمّ تعليقه يوم 6 أكتوبر بناء على طلب تقدّم به وفد من الاتّحاد العام التّونسي للشّغل و استئنافه يوم 11 أكتوبر إثر فشل المفاوضات مع الحكومة. العديد من الشّخصيات السّياسية و الوطنيّة على غرار حمة الهمامي بوجمعة الدنداني ومحمد الحبيب الكراي وسلوى الشابي وحسام حمايدي و محمد الهادي الوسلاتي قد قاموا بزيارة المضربين و مساندتهم فضلا عن دخول عضو المكتب التّنفيذي لاتّحاد الشّغل سامي الطاهري في إضراب جوع تضامني معهم. هذه المساندة الفعليّة ساهمت بدرجة كبيرة في التّعريف بالتّحرك و ضمان نجاحه.

إضراب شيوخ قرية العمران لم ينجح في أن يكون محورا إعلاميّا أساسيّا و موضوع متابعة سياسيّة. نعم، ساند بعض أعضاء المجلس التأسيسي إضرابهم و قامت بعض الشّخصيات السّياسية بزيارتهم لكن دون أيّة آفاق أخرى ممّا يبعث على الرّيبة أنّ هذه المساندة كانت لغاية في نفس يعقوب. خلافا لإضراب الصحفيّين، لم يلق إضراب شيوخ العمران إلا إعلانات المساندة الفضفاضة دون أيّ تبنٍ أو انخراط في القضيّة.

طريقة التّعامل الإعلامي و السّياسي مع إضراب الصّحفيين كان على أرضيّة المساهمة في الضّغط من أجل انتصار قضيّة الصّحفيين، أمّا التّعامل السّياسي و الإعلامي مع إضراب شيوخ العمران فقد كان من قبيل تسجيل الموقف و تبرئة الذّمة. لم يكن هناك أيّ انخراط فعلي “للمجتمع المدني” من أحزاب و اتّحاد شغل و منظّمات حقوقية و شخصيّات وطنيّة في مطالب قرية العمران. الأدهى من ذلك هو عدم وجود أيّة محاولة لإطلاق مبادرة بديلة لإضراب الشّيوخ عن الطّعام. بكامل القبول و الرّضى يواكب المجتمع السّياسي التّونسي مسيرة الشّيوخ المتقدمة نحو الموت دون أن يحرّك ساكنا.

أمِن المبدئيّة أن يُوضع الشّيوخ في الخطوط الأماميّة للمواجهة؟ أيحقّ استعمالهم حَطبا للنّار و دروعا ثوريّة؟

بدأ إضراب شيوخ قرية العمران عن الطّعام يوم 30 سبتمبر و نفّذه كل من عبد العزيز حيدوري 75 سنة و محمد بن عبد السلام حيدوري 74 سنة و عبد الملك حيدوري 55 سنة و أبو جمعة حيدوري 70 سنة و شهيدة حيدوري 84 سنة و لخضر الحيدوري 90 سنة وربّما آخرون. الوضعيّة الصحيّة للخضر الحيدوري الذّي يواصل إضرابه من المستشفى لا تبشّر بأي خير.

أمام هكذا وضعيّة أعتقد أنّه من العبث إدانة السّلطات، فنفس هذه السّلطات تواصل إيقاف المنتفضين من شباب القرية و وفق مصادر حقوقيّة تريد محاكمتهم على خلفيّة الفصل 73 من المجلّة الجنائية الذّي يعاقب بالسّجن مدى الحياة “من يقبل بمناسبة ثورة أن يقيم نفسه بدل الهيئات الحاكمة المكوّنة بمقتضى القوانين” و نفس هذه السّلطات قد تسبّبت في فقدان أحد الموقوفين حاسّة السمع بإحدى أذنيه نتيجة

التّعذيب و نفس هذه السّلطات لم تجد إلا القمع و السّجن و التّعذيب كإجابة لمطالب المُفقّرين و المُعدمين، فمن العبث إذن أن تُلام هذه السّلطات في تجاهلها مطالب الشّيوخ المضربين و إن أودى الإضراب بحياتهم.

هذه السّلطات متماهية مع جوهرها و طبيعتها و لا يمكن انتظار منها غير ذلك. من يستوجب الإدانة هو عقليّة النّخبة السّياسيّة. هذه العقليّة تتجلّى كذلك في التّعامل الإعلامي مع الموضوع. ففي اليوم الذّي نقلت فيه الصّحفيّة بدار الصّباح لمياء الشّريف إلى المستشفى نظرا لتدهور حالتها نتيجة الإضراب عن الطّعام الذّي تخوضه، أطلق مواطنو قرية العمران صيحة فزع عن حالة لخضر الحيدوري الذّي يواصل إضرابه من قسم الإنعاش بالمستشفى. الصّحف و الرّاديوهات و نشرات الأنباء تداولت جميعها صور الصّحفيّة و أخبارها الصّحيّة أمّا ذلك الشّيخ العظيم فليس له إلاّ البعض من ذويه من قرية العمران يساندون إضرابه.

لست أدين تغطية الإعلام لإضراب الصّحفيّة و لكنّي أتساءل عن الميكانيزمات العالقة بأذهان المجتمع السّياسي و الإعلامي التّونسيين التّي تجعلهما يهتمّان بإضراب مشروع و يديران ظهرهما لإضراب آخر مشروع؟ ماهي وسائلهما في الكيل و كيف يحدّدان القضايا التّي تدخل في جداول الاهتمام؟ تُرى، لو تعاطت المنظّمات العالميّة و الشّخصيات الأجنبيّة مع إضراب شيوخ العمران بنفس قدر الاهتمام الذّي تعاطت به مع إضراب الصّحافيّين فهل كان سيكون مصيره كلّ هذا الفراغ؟ قطعا لا. الأكيد أنّ العديد من التّنظيمات السّياسيّة و الشّخصيات الوطنيّة و الأدبيّة و النّقابيّة كانت ستعلن لا فقط عن مساندتها الإضراب بل كذلك عن تبنّيها له و انخراطها فيه و لتسابق الجميع للبحث عن مكان بين المعتصمين.

ليست هذه مجرّد فرضيّة فالوقائع تاريخيّا تثبت ما تكرّس من هذه العقليّة.

هذه المقارنة لا تهدف إلى إدانة إضراب الصّحفيين. بالعكس. الهدف منها هو محاولة فهم و نقد طريقة انتقاء المجتمع السّياسي و الإعلامي لقضاياه النّضاليّة. إنّها مثال تطبيقي عن وجود مستويين: المستوى الشّعبي و المستوى النّخبوي. المستوى النّخبوي هو “نادي مغلق” لا يحقّ لمن هم في المستوى الشّعبي دخوله أمّا أعضاء هذا النّادي فقد يمكن لهم أحيانا النّزول من برجهم لأخذ بعض الصّور التذكاريّة مع عامّة الشّعب. المجتمع السّياسي التّونسي تعامل مع قضيّة الإعلام كقضيّته الخّاصة و تبنّاها و نزل بثقله في مواجهة الحكومة مساندة للصّحفيّين. أمّا في قضيّة معتصمي العمران فنفس هذا المجتمع السّياسي قد تعامل مع القضيّة تماما كما لو كانت في بلد شقيق: ما قلّ من الزّيارات و ما دلّ من البيانات. أهكذا تشارك النّخبة السّياسيّة في الحراك الثّوريّ؟؟؟

بعد ما يزيد عن 18 يوما من إضراب شيوخ العمران عن الطّعام قد لا يلتحق ركب السّياسيين و الإعلاميّين بقطار الحراك الثّوري إلا بعد حدوث كارثة. في أثناء ذلك يبقى عبد العزيز و محمد و شهيدة و لخضر صامدين أمام الموت متشبّثين بمطالب القرية. لن تكون هذه سابقة فمنذ أيّام قضى نصر بن عمر نحبه على إثر الإضراب عن الطّعام الذّي خاضه في مقرّ الإتّحاد الجهوي للشّغل بقفصة. هل يمكن أنّ نرى تدافعا لمكوّنات المجتمع المدني من أحزاب و رابطة و اتحاد و ديمقراطيّين و ديمقراطيّات كالذّي رأينه على معتصمي “دار الصّباح” لإنقاذ حياة لخضر الحيدوري و زوجته و من معهما من الشّيوخ؟ هل ستتدافع مكوّنات “المجتمع السّياسي” المغلق و “المجتمع الإعلامي” الانتقائي على الانتصار لمعطّلين ثائرين تريد لهم أجهزة الحكومة الشرعية تمضية بقيّة حياتهم في السّجن؟ نعم، يمكن ذلك إذا ما

استطعنا تحويل قضية معتصمي العمران إلى قضيّة رأي عام. ساعتها سيبحث الجميع عن مكان تحت الأضواء.

فالمساندات الفرديّة و المشاركات الفّعالة للإعلام “المواطني” لن تقوى على تغليب كفّة المحتجّين و لن يمكنها ذلك إلاّ إذا حوّلت نفسها إلى قوّة ضغط. لذلك فمن الضّروري تنظيم هذه المبادرات من أجل إنقاذ حياة الشّيوخ باقتراح بديل جدّي لتحركّهم و تبنّي مطالب قرية العمران و على رأسها إطلاق سراح الموقوفين و التّخلّي عن التّتبعات ضدّهم.

هذا أقلّ ما يمكن فعله حتّى لا يبقى هؤلاء الشّيوخ كما الأيتام على موائد اللّئام.