كاتبني الد.منصف المرزوقي الكاتب والطبيب التونسي ورئيس المؤتمر من أجل الجمهورية منذ يوم فقط في سياق التأكيد على رأي له معلوم بخصوص حديث أثرناه حول ضرورات المصالحة الوطنية الجادة بساحتنا التونسية,ولعله يكون ضمن نفس السياق قد أبدى شيئا من الانزعاج والقلق تجاه نغمة الخطاب الهادئة التي استعملناها في اطار مخاطبتنا للقائمين رسميا على شأن البلاد.
لم تزعجني اراء الد.المرزوقي قط فلقد خاطبني في رسالته قطعا في كنف الأدب والاحترام ,ولكن ثمة مسافات في تنزيل الرأي وتحقيق مناطه تبقى مساحة حرة ومقدرة بحسب اجتهادات الأشخاص ورؤيتهم للأمور,وهو مايتيح لنا مسافة في التمايز والاختلاف لكن في كنف التعايش والتعاون وربما حتى الائتلاف.

لم تكن المرة الأولى التي دعوت فيها الى المصالحة الوطنية الجادة والشاملة من خلال ماكتبت في بحر أسبوع خلى,بل انني سبق وأن أثرت هذا الموضوع على الشبكة العنكبوتية وفي حوارات حزبية داخلية قبل أن أتخذ قرارا بتجميد عضويتي في المنتظم الحزبي الذي ناضلت فيه على مدار حوالي عقدين كاملين.
اليوم قررت العودة الى هذا الموضوع بعد أن جمعت من المعطيات السياسية الداخلية والخارجية ماجعلني أقتنع بأن المطروح ليس تغييرا كليا للنظام بقدر ماهو اصلاحات سياسية تخرج تونس من حالة الجمود السياسي والانغلاق في الفضاء العام وتجنب البلاد هزات للاستقرار والأمن العام.

كتبت عن الموضوع بلهجة سياسية فاجأت الكثيرين بقدرتها الفائقة على البراغماتية والمرونة السياسية,وساندني في ذلك أستاذنا الفاضل والمحترم السياسي المخضرم الد.أحمد القديدي الذي تشرف على عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بعضوية البرلمان والنطق رسميا باسم البرلمانيين العرب في المحافل الأوربية وكذلكم تمثيل تونس رسميا في المحافل الدولية برفقة رئيس وزراء تونس الأسبق السيد محمد مزالي الى حدود سنة 1986.
وقف الى جانبي أيضا في هذا الخطاب السياسي المرن والمحافظ على الثوابت الأستاذ والصديق العزيز الحبيب أبو الوليد المكني ,الذي تشرفت بمعرفته وصداقته عن قرب منذ سنوات طويلة ,فكان أن اكتشفت فيه رجلا راسخ المراس وعميق النظر في استشرافه للامور وتقديره لافاق الحاضر والمستقبل.
ومنذ يومين فقط تشرفنا على صحيفة الوسط التونسية الغراء والمثابرة على متابعة الحدث التونسي والعربي والدولي في تألق,تشرفنا بنشر حوار جميل وعميق وهادئ مع القيادي الاسلامي البارز زياد الدولاتي والذي نقلنا فيه نص حوار اجراه معه الزميل الاعلامي المناضل محمد الفوراتي لفائدة جريدة الموقف التونسية.
لقد كان الأستاذ الدولاتي واضحا في حديثه عن المصالحة الوطنية التي لاتقصي احدا ,وقد كان كلامه محملا بهموم النخبة والمجتمع ولكن في اطار من التوازن والاعتدال المسؤول في الطرح بما يحفظ لجميع مكونات الطيف السياسي حقه في مناخ سياسي تنافسي حر ومسؤول ومراع لمصالح الدولة والمجتمع.
لم يكن مطلب المصالحة في خطاب من ذكرت مبتورا أو مشلولا بل كان في جوهره حيا ومحملا بمطالب أساسية تناضل من أجلها النخبة والطبقة السياسية.
وربما كان وجه الاختلاف مع البعض في أن البعض يتحرج من ذكر الهيئات والأشخاص بمسمياتهم الحقيقية ,ولقد كنت في هذا الاتجاه بصحبة الأساتذة والأصدقاء الأعزاء الد.القديدي والأستاذ المكني رافعين لاوجه الحرج عندما خاطبنا رئيس الجمهورية التونسية بلفظ السيادة محترمين في ذلك تقاليد معروفة في المخاطبة السياسية والديبلوماسية المعتدلة والمسؤولة.

ندرك جيدا مواقف البعض من مثل هذه القضايا وحرص البعض الاخر على اثارة قضايا الشرعية من منطلق تقويمات حزبية او سياسية لانملك تجاهها الا الاحترام والاختلاف المسؤول,غير اننا نرفض المزايدة علينا من قبل البعض في قضايا الوطنية او القدرة على الفهم والتحليل الناضج والاستنتاج مثلما حصل هذا اليوم في مقال نشرناه على صحيفة الوسط التونسية ايمانا منا بحق الاخرين في التعبير والاختلاف ولقد حمل هذا المقال المذكور عنوان “ومن المصالحة ماقتل!”…

وعودة الى سياق الحديث عن المصالحة الوطنية,فان الخيار المذكور طرحناه وسنظل نطرحه من باب الحرص على اخماد نار الفتنة المشتعلة بين أطراف المجتمع السياسي وليس من باب الضعف او السذاجة أو قلة الفهم او سوء التقدير,وأؤكد في هذا الاطار أن رؤيتنا للموضوع تأتي متساوقة مع مايطرح من حلول سياسية في اطار دولي للمنطقة العربية والمغاربية حيث انه ليس من المقبول احداث الثورات او الاتاحة بأنظمة الحكم القائمة,هذا علاوة على أن الوضع الاقليمي في دول الجوار بات متحفزا الى هذا المسار التاريخي عبر طي صفحات الصراع الأليم في المغرب الاقصى على حقبة سنوات الرصاص أو عبر الجنوح للوئام والمصالحة الوطنية في القطر الجزائري منذ اعتلاء الرئيس المناضل عبد العزيز بوتفليقة لسدة الحكم,يضاف الى كل هذا ماتحن له السياسة الليبية من محاولات متكررة للمصالحة مع الذات بايعاز واشراف من سيف الاسلام القذافي وشرائح شبابية واسعة وكثير من التكنوقراط الذين سئموا نهج اللجان الثورية.
أما في موريتانيا فان الوضع الانتقالي الذي تعيشه البلاد في ظل عهد الرئيس اعلى ولد الفال,قد يحمل معه هو الاخر مبشرات التصالح مع الذات برغم الكثير من العقبات الداخلية والخارجية.
فلست أدري حينئذ مالمقصود من لغة السخرية عندما يعنون البعض مقاله ب “ومن المصالحة ماقتل !” في اطار لايخرج في تقديري عن الكلاملوجيا السياسية التي لن تساعد قطعا على اندمال الجرح او ايقاف نزيف السنوات العجاف في اطار الحديث عن محصلاتها السياسية.

لا أكون حييا وخجولا عندما أعترف للدولة التونسية بمنجزاتها فهذا النهج هو عين مايأمرنا به الوحي والقران الكريم في معرض قوله تعالى “ولايجرمنكم شنان قوم على ألا تعدلوا,اعدلوا هو أقرب للتقوى”, بل اني سأحمل كل الأرقام التي تقدمها المنظمات العالمية المتخصصة في قطاع المال والأعمال والشؤون المصرفية والاقتصادية على محمل الجد والتصديق والاعتقاد حتى يأتي مايخالف ذلك من نفس هذه المؤسسات أو من رجال متخصصين يشهد لهم العالم والأكاديميون بالخبرة في هذه المجالات.
لقد كنت فيما كتبت أمينا الى أقصى حد ولقد طرحت مشاكل المجتمع والنخبة والفاعلين السياسيين في مئات المقالات المنشورة لي على الصحف والدوريات العربية والفضاء العنكبوتي,ولم أمارس في ماصرحت به أو كتبت دورا تجميليا بقدر ماأنني سعيت الى التوازن في الطرح كما الأخذ بسنن التدرج في المطلبية والهدوء في الطرح.

ان التدرج في التغيير والاعتراف بشرعية الدولة والجهات الرسمية في مقابل ما ستحققه من اصلاحات منتظرة لابد أن نناضل من أجلها بكثير من الاكراهات السلمية والمدنية,جاء على اثر تجربة مريرة من النضال السياسي والحقوقي قادتني في سن مبكر الى عالم المنفى لأعيش حالة من التأمل المستمر فيما الت اليه تجارب نهج المغالبة بمنطقتنا العربية عموما وتونس خصوصا,ولذلك استقر لدي الرأي بأن الخطاب الثوري يتحول في أحيان كثيرة الى لون من الديماغوجيا والكلاملوجيا السياسية التي لا تقدم حلولا فعلية للبلاد والعباد وانما تظهر اصحابها بمظهر البطولة ورباطة الجيش دون ان تحقق لمجتمعاتنا وشعوبنا ماتطمح له من مأسسة وتشذيب لتغول الدولة على حساب سلطان المجتمع

المصدر: صحيفة الوسط التونسية

http://www.tunisalwasat.com