أواخر شهر فيفري 2023، أطلق بلاغ رسمي لرئاسة الجمهورية موسم ”صيد رؤوس المهاجرين غير النظاميين“ من دول أفريقيا جنوب الصحراء، وما زال المهاجرون يحصدون تبعات ذلك البلاغ من خلال حملات التهجير القسري وسوء المعاملة، رغم الجهود التي بذلتها المنظّمات والأفراد من أجل مساعدة المهاجرين واستنكار الخطاب العنصري الرسمي. في محاولة منه لتخفيف وطأة خطابه، اتّهم سعيّد خلال لقائه رئيس غينيا بيساو في قصر قرطاج يوم 08 مارس 2023 بأنّ هناك ”سوء نيّة“ أو ”سوء فهم“ في الحملات المناهضة للعنصرية ولنظرية ”الاستبدال العظيم“، مرجع الفاشيين الجدد في أوروبا، التي تبناها سعيّد بلا حرج في خطابه.
استهداف مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء
منذ الخطاب الأول للرئيس الأسبق زين العابدين بن علي يوم 28 ديسمبر 2010، والذي أجج الشارع بعد أن وصف المتظاهرين بالمخربين والمأجورين، لم يكن هناك وقع لأي خطاب من خطابات الرؤساء الأربعة الذين تعاقبوا على الحكم بعد الثورة، مثل الكلمة التي ألقاها الرئيس قيس سعيد خلال اجتماع مجلس الأمن القومي يوم 21 فيفري الماضي، والتي لخصها بلاغ نشر على صفحة رئاسة الجمهورية، جاء فيه أنّ هناك ”ترتيبا إجراميّا تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس وأن هناك جهات تلقت أموالا طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس“، مشيرا إلى أن هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظامية الهدف غير المعلن منها هو اعتبار تونس دولة إفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية.
دعا سعيد في البلاغ ذاته وضع حد لتدفق المهاجرين غير النظاميين، رابطا وجودهم بالعنف والجرائم و”الممارسات غير المقبولة“ المجرمة قانونا، آمرا بتطبيق صارم للقانون المتعلق بوضعية الأجانب في تونس ولاجتياز الحدود.
كانت تبعات البلاغ الرئاسي موجة عنف شديد وطردا جماعيّا للمهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء في مدينة صفاقس بداية جويلية الماضي. وحسب تقرير بعنوان ”الاتصال السياسي: مقاربة كمية وكيفية: ماي جوان جويلية 2023“ الذي أنجزه ”مرصد الإعلام في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا“، حلّل محتوى الفيديوهات والبلاغات التي تحدث فيها الرئيس قيس سعيد في مناسبات مختلفة، فإنّ تلك المضامين تميزت بالأسلوب العدائي مثل الشتم والوصم وخطاب الكراهية ومعاداة النخب، بالإضافة إلى الأسلوب التآمري، ضمن عينة من المنشورات بلغت 212 منشورا مرئيا ومكتوبا على امتداد ثلاثة أشهر، كما أن الأسلوب العدائي لم يشمل ملف الهجرة فحسب بل معارضي الرئيس ومجهولون إضافة إلى وسائل الإعلام.
استعمال الرئيس قيس سعيد أسلوبا تآمريا وسط الأزمة التي عصفت بالمهاجرين غير النظاميين التي عاشتها مدينة صفاقس أدانتها المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، حيث تساءل باستنكار، في فيديو لاجتماع مجلس الأمن القومي، ”من أين لهم (أي المهاجرين غير النظاميين) بالهواتف الجوالة وهم بين كثبان الرمال“، رغم أن الشهادات التي تضمنتها تقارير إعلامية على لسان مهاجرين غير نظاميين نجوا من الصحراء، تحدثت بالتفصيل عن محاولاتهم الناجحة في إخفاء هواتف جوالة في حفاظات الأطفال حتى يتمكنوا من التواصل لطلب النجدة. سعيد اتهم المهاجرين من دول جنوب الصحراء بتلقي أموال طائلة من الخارج، خطاب استمده حرفيا من خطاب الحزب القومي التونسي الذي كان السباق في التحريض على المهاجرين. وحسب تقرير ”تحليل الاتصال السياسي: مقاربة كمية وكيفية: ماي جوان جويلية 2023“، الّذي أعدّه مرصد الإعلام في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن هذا الفيديو لقي أكبر تفاعل ضمن العينة التي تحتوي على 212 فيديو وبلاغا منشورا تم رصدها في الفترة الممتدة بين ماي وجويلية الماضيين.
إدارة الأزمات عبر التخوين
في فيديو لزيارة الرئيس قيس سعيد إلى مكتبة الكتاب بتونس يوم 2 ماي الماضي، عقب أزمة سحب كتب من معرض تونس الدولي للكتاب، سخر سعيد من الاتهامات الموجهة للسلطة بممارسة الرقابة، وقال وهو يحمل كتاب فرانكشتاين للكاتب كمال الرياحي، والذي كان ضمن الكتب التي سحبت من معرض الكتاب ”هذا الكتاب الذي يقال إنه تم منعه، موجود في المكتبة. كذب وافتراء. افتراء وكذب ومحاولة التشكيك أن الحريات مهددة في تونس“. في تلك الفترة، أجمعت شهادات لدور نشر تحدثت لهم نواة في مقال سابق، أنه تم سحب كتابين آخرين بعد كتاب فرانكشتاين بتعلة التثبت من محتواهما، قبل إرجاعها.
تبرز أغلب الفيديوهات التي تحدث فيها الرئيس قيس سعيد في ظل كل أزمة تعصف بمجال من المجالات، أنه يعتمد أسلوبا عدائيا يتراوح بين التهديد والسخرية والتخوين.
فخلال زيارته لدار الصباح يوم 16 جوان الماضي، بعد رسالة توجه فيها العاملون بالصحيفتَين الورقية والالكترونية للرئيس، يناشدونه فيها بالتدخل لإنقاذ المؤسسة من الأزمة المالية الخانقة، قال سعيد مطمئنا مدير الجريدة وبعض صحفيّيها: ”لن نفرط في تاريخنا للصوص الذين يتخفون وراء النصوص“، وواصل ساخرا ”يتحدثون عن تراجع حرية التعبير يصنعون الأصنام ثم يعبدونها ثم يسقط صنم ويصنعون آخر هذه عاداتهم للأسف“، دون أن يحدد الأطراف التي توجه لها بالكلام.
وفي اجتماعه مع رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن ووزيرة المالية سهام بوغديري نمصية يوم 27 جويلية، استهدف الرئيس قيس سعيد إحدى الإذاعات التي تمتلك الدولة حصة فيها، ويقصد إذاعة شمس أف أم المصادرة، وذلك في إطار الحديث عن ارتفاع الأسعار. إذ وصف سعيد الإذاعة بأنها ”بوق فضلا عن الخيانات وعن المنظمات التي هي امتداد لقوى أجنبية تنتهك السيادة التونسية“ وبأنها ”منابر لتشويه الدولة التونسية وضرب للوطن، ويسمون ذلك حرية تعبير وهم مسلوبو التفكير أصلا“.
وصف التقرير ذلك الخطاب بـ”المُعادي للنخب الإعلامية، والتآمري“ بعد أن وجه كلامه للأطراف التي سماها بأنها ”تتلاعب بقوت المواطنين وتقوم بالترفيع في الأسعار من أجل تأجيج الوضع“، وفي الفيديو ذاته سخر سعيد من المجتمع المدني قائلا ”هم لا يعرفون كيف تطور المجتمع المدني ولو كانوا يعرفون لسكتوا، ولكن من الجهل ما قتل“. وجاء اجتماع يوم 27 جويلية في ظل أزمة خانقة لفقدان الخبز، سببها أزمة أخرى وهي أزمة الحبوب التي تعود بدورها إلى انخفاض المعدل العادي لمحصول الحبوب بسبب قلة التساقطات خلال السنوات الخمس الأخيرة، وإلى الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تمثل أوكرانيا السوق الرئيسة التي تتزود منها تونس لتلبية نسبة كبيرة من حاجتها من القمح اللين المستخدم في صناعة مادة الخبز.
سياسة اتصالية قاصرة
يعتمد الرئيس التونسي في عينة من الفيديوهات المرصودة التي اعتمدها ”مرصد الإعلام في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا“ أسلوب التخوين الموجه في الغالب إلى أطراف لا يعلن عنها، حيث قال في فيديو خلال زيارته لولاية صفاقس يوم 10 جوان الماضي ”إن هناك من يعتقد أنه يمكن أن يسيطر على أجهزة الدولة وأن يفجرها من الداخل“، وهو الأسلوب ذاته الذي اعتمده خلال لقائه وزيرة العدل ليلى جفال يوم 08 ماي 2023، تحدث فيه عن ملفات فساد. حيث اتهم سعيّد ما سمّاهم بـ ”الشبكات” باختراق أجهزة الدولة حيث قال: ”لا يمكن أن تستقيم الدولة إلا إذا وضع حد لهذه الشبكات في أجهزة الدولة وكل القطاعات، بالرغم من محاولة البعض الإبقاء على شبكات تحاول يائسة تخريب البلاد وتخريب المجتمع. على القضاة أن يضعوا حدا لهذه الشبكات التي أفسدت في كل مكان كالجراد “.
حسب تقرير ”مرصد الإعلام في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا“، اعتمدت السياسة الاتصالية لرئاسة الجمهورية على الفيديوهات التي لا تتضمن خطابا أو كلمة للرئيس قيس سعيد، وبعضها كلاما مجتزأ من خطابه، وذلك بنسبة 67% من جملة الفيديوهات التي رصدها التقرير، والذي يقول إن ”الهدف من ذلك هو التكتم على مضامين اللقاءات أو إخفائها على جمهور الصفحة وعموم المواطنين التونسيين سواء كانوا من الأنصار والمساندين أو من المعارضة أو الصحافة.“
والملاحظ وفق التقرير ذاته أن المعلومات التي يتستر عليها الاتصال الرئاسي يمكن أن تفصح عنها الأطراف التي يلتقيها الرئيس سواء كان دبلوماسيّين أو مسؤولين أجانب مثلما حصل في 16 جويلية 2023 خلال النقطة الإعلامية التي نظمتها الرئاسة التونسية بقصر قرطاج للإعلان عن مذكرة تفاهم حول الهجرة غير النظامية والشراكة الاستراتيجية بين تونس ودول الاتحاد الأوروبي. إذ أسهب الرئيس قيس سعيد في كلمته عن الحديث عن الأبعاد الإنسانية والقيم الكونية التي يجب أن تكون أساس العلاقات الدولية والدبلوماسية وخصص حيزا صغيرا للحديث عن مذّكرة التفاهم بشكل عام دون أن ينسى التهجم على المختلفين معه في ملف الهجرة غير النظامية من منظمات وجمعيات محلية ودولية.
تجنّب سعيّد في ذلك اللقاء الحديث عن تفاصيل مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي في مجال الهجرة غير النظامية، واكتفى بالسخرية من منظمات المجتمع المدني التي قال إنها ”من المفترض أن تقوم بدورها الإنساني، لكنها لم تتحرك إلا عن طريق البيانات فهل ستقي هذه البيانات هؤلاء الضحايا من الجوع والعطش أو سيفترشونها للنوم عليها في الأرض أو يلتحفونها لتحميهم من الشمس الحارقة“.
يخلص تقرير ”الاتصال السياسي الرئاسي: مقاربة كمية ونوعية: ماي وجوان وجويلية 2023“ إلى أن الأساليب العدائية والتآمرية تشهد حضورا طاغيا في الاستراتيجية السياسية والاتصالية والتي تكون في غالبها موجهة للنخب السياسية والمنظمات الحقوقية والإعلام، والذين يشير إليهم بالمتخفين وراء الستار والموظفين الفاسدين وشبكات التحيل والمتآمرين على أمن تونس بالخارج. هذا الخطاب يكشف عدم اعتراف الرئيس بالفضاء العام كمجال لممارسة النقاش العام وحرية التعبير، وهي سياسة تعتمدها الدكتاتوريات التي تنتهج خطابا شعبويا.
خطاب التخوين وتبنّي نظرية المؤامرة ليس وليد 25 جويلية، بل كان حاضرًا قبل ذلك الوقت، حين توجّه قيس سعيّد إلى سيدي بوزيد في ذكرى إحياء ثورة 17/14، خاطب فيها الجموع بالقول إنّ هناك مؤامرات تحاك في الغرف المظلمة، مؤكّدًا أنّ من يقوم بذلك ”أطراف معروفة“، دون أن يشير إليها. كما أنّ إثارة التتبّعات إزاء المعارضين السياسيّين وتوجيه تهمة التآمر على أمن الدّولة يُفهم منها جنوح السلطة إلى تخوين الخصوم وإدانتهم عوضًا عن فتح المجال لممارسة العمل السياسي وتكريس علويّة القانون عوضًا عن علوية الإرادة الفرديّة.
iThere are no comments
Add yours