بعد إحدى عشرة سنة من الأبحاث والجلسات، قضت الدائرة الجنائية المختصة في قضايا الإرهاب بالمحكمة الابتدائية بتونس بأحكام مختلفة وصلت حد الإعدام، في قضية اغتيال شكري بلعيد. وجاءت الأحكام الابتدائية ضمن مسارات سياسية شبيهة بالدوامات التي عصفت ببعض الحقائق وبأدلة كان يمكن أن تجر مسؤولين سياسيين كبار إلى السجون مدة سنوات طويلة. كان المسار المعقد للبحث عن حقيقة اغتيال الشهيد شكري بلعيد، قد قسم المواقف من الأحكام الصادرة في ملف القضية، إلى ثلاث اتجاهات: الأول إعلان رسمي لحركة النهضة ضمن بيان رسمي لها بأن الأحكام القضائية التي صدرت في 26 مارس الماضي قد حسمت براءتها من المسؤولية في اغتيال بلعيد، خاصة أنه لم يدن أي حكم من الأحكام القضائية قيادات أو مسؤولين من الحزب. أما الموقف الثاني، فقد اعتبر أن تلك الأحكام هي انتصار كبير بعد معارك خاضتها هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي من أجل محاسبة كل من نفذوا عملية الاغتيال، في انتظار الحسم في ملفات أخرى، تقول الهيئة إن لها علاقة بالاغتيال مثل قضية الجهاز السري أو ”الغرفة السوداء“ وقضية فتحي دمق. ويذهب الموقف الثالث إلى أن الأحكام الصادرة في ملف اغتيال بلعيد، دفنت الجزء الأكبر من الحقيقية المتعلقة بمن خطط وتستر على عملية الاغتيال، وأن البساط سحب من هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي في الاطوار القضائية المتبقية للملف.
الكرة في ملعب النيابة والمتهمين
في 26 مارس الماضي، أصدرت الدائرة الجنائية المختصة في قضايا الإرهاب بالمحكمة الابتدائية بتونس أحكامها في قضية اغتيال شكري بلعيد، وذلك بعد استكمال الأبحاث من قبل المحكمة واستنطاق المتهمين موفى فيفري الماضي، ثم الاستماع إلى مرافعات هيئة الدفاع عن الشهيد شكري بلعيد يوم 15 مارس الماضي، فالانتهاء من الاستماع لمرافعة النيابة العمومية ومحامي المتهمين يوم 22 مارس. ويأتي الحسم في ملف اغتيال بلعيد بعد أن استنكر الرئيس قيس سعيد طول إجراءات التقاضي ومدة الإيقاف.
وكانت المحكمة الابتدائية بتونس قد قضت بأحكام تتراوح بين الإعدام والسجن المؤبد في حق 6 متهمين بالمشاركة في قتل نفس بشرية عمدا مع سابقية الإضمار، ونال عز الدين عبد اللاوي ومحمد العكاري ومحمد العوادي ومحمد أمين القاسمي حكما بالإعدام، فيما حكم على محمد علي دمق وعبد الرؤوف الطالبي بالسجن المؤبد، وعلى كريم القلاعي وصابر المشرقي وخميس ظاهري مدة 20 عاما. وحكم على رياض الورتاني مدة 10 سنوات بتهمة توفير معلومات لأشخاص لهم علاقة بتنظيم إرهابي، وتمت إدانة محمد العوادي ومحمد العكاري وعلام التيزاوي بتهمة الدعوة لارتكاب جرائم إرهابية. ونال محمد العوادي ومحمد العكاري حكما بالسجن 8 سنوات بتهمة ”إعداد محل واستعماله لاجتماع أعضاء لهم علاقة بالجرائم الإرهابية والمساعدة على إخفائهم وإيوائهم“، ونال المتهمان نفسهما حكما أخر بتهمة جمع الأموال بغرض تمويل تنظيم إرهابي الناتج عنها وفاة. وحكم على ياسر المولهي 12 سنة بتهمة المساعدة على عدم الكشف عن عناصر إرهابية الناتج عنها وفاة. وحكم على محمد علي النعيمي ومعاذ الحمايدي وسيف العرفاوي وحمزة العرفاوي وقيس مشالة بعدم سماع الدعوى.
اعتبرت المحكمة الوثائق والأقراص المدمجة التي قدمتها هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي ورقة من أوراق الملف وهي تهم علاقات جمعت قيادات من حركة النهضة ومسؤولين أمنيين، بالمتهمين باغتيال بلعيد.
من جهة أخرى، قبلت المحكمة الابتدائية الدعاوى المدنية شكلا وحفظ الحق المدني بالنسبة لورثة شكري بلعيد وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد والاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بعد القضاء بتغريم المحكوم عليهم بالدينار الرمزي للهيئة الوطنية للمحامين، ما يعني أن الأطراف الخمسة حفظت حقها في تتبع المسؤولين عن الاغتيال للمطالبة بالتعويض المادي أو المعنوي. ينص الفصل الأول من مجلة الإجراءات الجزائية بأنه ”يترتب على كل جريمة دعوى عمومية تهدف إلى تطبيق العقوبات ويترتب عليها أيضا في صورة وقوع ضرر دعوى مدنية لجبر ذلك الضرر“. يفضي حفظ الحق المدني أي التخلي عن القضية الجزائية والتوجه لرفع قضية مدنية لجبر الضرر إلى فقدان الحق في استئناف الأحكام الابتدائية، وحسب الفصل 210 من مجلة الإجراءات الجزائية فإنه لا يحق للقائم بالحق الشخصي الذي طالب بحفظ حقوقه المدنية الاستئناف في الدعوى الجزائية، إذ ينص الفصل المذكور على أن ”حق الاستئناف مخول لمن يأتي، أولا: المتهم المحكوم عليه من أجل جناية أو جنحة والمسؤول مدنيا. ثانيا: القائم بالحق الشخصي في خصوص حقوقه المدنية فقط“. وبالتالي فإنه لا يحق للقائم بالحق الشخصي الذي طلب حفظ الحق المدني الترافع عند استئناف القضية.
يقول الأستاذ منذر الشارني وهو محام وعضو في المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب إن ”القائم بالحق الشخصي يستأنف في حدود حقوقه المدنية أما في الفرع الجزائي فليس له الحق في الاستئناف، ويكون بذلك غير معني سوى بثبوت عناصر المسؤولية المدنية أي إثبات حصول ضرر بسبب الجريمة، وبالتالي فإن المتضرر ينحصر في مسألة الحق المدني، أما مسار القضية الجزائية فإنه يصبح غير معنيا به بما أنه طلب حفظ حقه المدني من المحكمة أي أنه توجه نحو رفع قضية مدنية مستقلة للمطالبة بتعويض مادي أو معنوي ما يعني خروجه من مسار الدعوى العمومية، وبالتالي لا يحق له استئناف الأحكام الصادرة بخصوص الدعوى الجزائية والذي يقتصر في هذه المرحلة على النيابة العمومية وعلى المتهمين فقط، لأنه ليس هناك أي شيء يمكن للقائم بالحق الشخصي استئنافه بما أنه حفظ حقوقه المدنية، وحتى إذا تقدم القائم بالحق الشخصي والذي حفظ حقه المدني، بطلب استئناف الاحكام الابتدائية في الدعوى المدنية، فإن مطلبه يمكن قبوله شكلا ورفضه أصلا“.
عبد الناصر العويني عضو هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي قال في إجابة على سؤال توجهت به نواة بخصوص عدم وجود إمكانية للاستئناف بعد حفظ الحق المدني، إن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد قد تقدم بطلب استئناف يوم 1 أفريل وبالتالي فإنه يعتبر مستأنفا للحكم.
تبحث هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي عن كشف كل أوجه حقيقة اغتيال بلعيد ضمن رباعية التخطيط والتنفيذ والمساعدة والتستر والتي تحمل ضمن مسار الاغتيال مسؤولية كبيرة لحركة النهضة ومسؤولين موالين لها في ذلك المسار، رغم أن الأحكام القضائية بدا أنها قد قررت الحسم في تلك الرباعية بالحكم على أشخاص بتهم الاغتيال أو المشاركة أو التخطيط والتموين أو التستر عليهم، وهي تعلق آمالا، بمعرفتها عدم إمكانيتها استئناف الأحكام الصادرة يوم 26 مارس الماضي، على قضايا منفصلة لربطها باغتيال بلعيد مثل قضية الجهاز السري وغرفة الوثائق المحجوزة بوزارة الداخلية المعروفة ”بالغرفة السوداء“ وفتحي دمق.
انتصار يحجب جزء من الحقيقة
في جانفي 2022، قرّر القضاء التونسي فتح تحقيق في الجهاز السري لحركة النهضة والذي تقول هيئة الدفاع عن الشهيد شكري بلعيد إنها قدمت أدلة للقضاء تثبت تورطه في اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي في العام 2013، وذلك إثر شكاية تقدم بها أحد أعضاء هيئة الدفاع عن الشهيدين. وجاء التحقيق بعد أيام من الإفراج عن مصطفى خذر المتهم برئاسة الجهاز السري لحركة النهضة، بعد أن قضى ثماني سنوات في السجن بتهمة التستر على الاغتيال وإخفاء معلومات عن تلك القضية.
بعد سنة و4 أشهر تقريبا من إلقاء القبض على مصطفى خضر ومداهمة محلّ اتخّذه في الظاهر مدرسة لتعليم السياقة وجعل منه مقراً لنشاطاته الاستخباراتية، صدر حكم ابتدائي في شأنه في 18 مارس 2015 بالسجن 8 سنوات وشهر بتهمة “اختلاس أوراق وأشياء مودعة بخزينة محفوظات ومسلمة لأحد أعوان السلط العمومية ومسك دون صك صحيح لبضاعة خاضعة لقاعدة اثبات مصدر”. حكم أيّدته محكمة الاستئناف في 1 نوفمبر 2016، دون الوصول إلى إجابة حول حقيقة اغتيال الشهيد محمد البراهمي. إلاّ أنّ كشف وجود ما عُرف بالغرفة السوداء في 2 أكتوبر 2018، وقرار قاضي التحقيق الأول بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب معاينتها وحجز محتوياتها في 9 نوفمبر 2018، غيّر مسار القضيّة ليتمّ توجيه تهمة “المشاركة في القتل العمد” إلى مصطفى خضر في 10 جانفي 2019.
وكانت هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي قد كشفت في أكتوبر سنة 2018، عن وجود وثائق تثبت امتلاك حركة النهضة جهازا أمنيا سريا تورط في اغتيال بلعيد والبراهمي وكان يقوم بالتجسس وباختراق مؤسسات الدولة، وأن القيادي بحركة النهضة مصطفى خذر ترأس ذلك الجهاز السري. وتورطت فيما يعرف بالجهاز السري قيادات أمنية وسبعة عشر قياديا في حركة النهضة من ضمنهم مستشار لرئيس الحكومة الأسبق علي العريض. يواجه المتهمون في هذا الملف تهما تتعلق بمعالجة المعطيات الشخصية دون وجه حق والقيام بدل الهيئات الحاكمة المكونة وفق القانون والتحصيل بأي طريقة كانت على سر من أسرار الدولة.
إيمان قزارة عضوة هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، صرحت في فيفري الماضي بأن الجهاز السري لحركة النهضة هو من خطط للاغتيال وبأن أنصار الشريعة هي الجهة التي نفذت.
تضمنت الوثائق التي كشفت عنها هيئة الدفاع سنة 2018 مكالمات هاتفية ومراسلات بين مصطفى خضر ووزيري العدل والداخلية، نور الدين البحيري وعلي العريض آنذاك. ورغم أن حركة النهضة تنفي علاقتها بخضر إلا أنه كان ضمن القيادات التي نظمت مؤتمرها التاسع سنة 2016. وكان خضر ضمن ما يعرف بالمجموعة الأمنية المتهمة بمحاولة الانقلاب على بورقيبة سنة 1987. وتضمنت الوثائق التي قدمتها هيئة الدفاع ضمن ملف قضية ”الغرفة السوداء“، تسجيلات صوتية كانت بحوزة مصطفى خضر لمخبرين وأمنيين. ولم يرد اسم مصطفى خضر ضمن قائمة المحكومين في اغتيال شكري بلعيد.
ملف: ماذا عن مصطفى خضر، الغرفة السوداء، دم البراهمي وارتباك النهضة ؟
”مصطفى خضر“، ”الغرفة السوداء“، ”التنظيم السري“... هي من أكثر الكلمات تداولا منذ أكتوبر 2018 أي بعد الندوة الصحفية التي عقدتها هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي والتي تحدثت عن وجود تنظيم سري يعمل لفائدة حزب حركة النهضة. من خلال اطلاع هيئة الدفاع على ملف قضية مصطفى خضر، الذي يقضي عقوبة بالسجن لثماني سنوات بتهمة ”حيازة وثائق رسمية وسرية تابعة لوزارة الداخلية“، اكتشفت عديد الثغرات في القضية التي تحولت من قضية ذات صبغة إرهابية إلى قضية سرقة وثائق رسمية. وبدأت في مسار تقصي الحقيقة إلى أن كشفت في 02 أكتوبر 2018 عن علاقة محتملة بين تنظيم سري يعمل لفائدة حركة النهضة والاغتيالات السياسية في تونس.
القاضي المدلس
خلال فترة حكم حركة النهضة، خاضت هيئة الدفاع صراعا مع بشير العكرمي الذي كان يشغل خطة قاضي التحقيق بالمكتب عدد 13، وتتهم هيئة الدفاع العكرمي بالتدليس بخصوص محاضر كانت بحوزته بحكم وظيفته تتعلق بقضية الشهيد البراهمي، كما قدمت هيئة الدفاع مؤيدات للقضاء عن تستر القاضي المذكور على شكري بن عثمان إمام جامع الرحمة بحي الخضراء والذي استدعاه كشاهد في قضية اغتيال بلعيد وأطلق سراحه، ما مكنه من الهروب قبل أن يصبح متهما.
تم توجيه الاتهام للعكرمي في ثلاثة قضايا على علاقة بملف اغتيال بلعيد، تتعلق التهمة الأولى بإخفاء السيارة ”فيات سينا“ التي استعملت في اغتيال شكري بلعيد، وعدم تضمين الاختبارات التي قام بها خلسة على السيارة. أما التهمة الثانية فتتعلق بعملية إخفاء السلاح الذي تم به الاغتيال، وقد اتهمت هيئة الدفاع العكرمي بتعمد إخفاء الحقيقة باستغلال وظيفته وإغفال القبض على متهم في القضية قصد إعانته على الهروب من التتبعات العدلية وتعمد إخفاء أدلة الجريمة قبل أن تقع يد السلطات عليها. أما التهمة الثالثة فتتعلق بإمام جامع الرحمة شكري بن عثمان.
هذه “الغرفة السوداء” احتوت على وثائق تم نقلها من مقر مدرسة تعليم السياقة لصاحبها مصطفى خضر إلى وزارة الداخلية دون محضر حجز ودون علم فرقة الشرطة العدلية ولا قاضي التحقيق المتعهد بالقضية. ولم يتم الاعتراف الرسمي بوجود هذه الغرفة إلا بعد تنقل قاضي التحقيق في قضية الشهيد محمد البراهمي إلى وزارة الداخلية وحجزه للصناديق الكرتونية والاكياس التي تتضمن كما هائلا من الوثائق ونقلها لاحقاً إلى مقر القطب القضائي لمكافحة الإرهاب بتاريخ 13 نوفمبر 2018.
سنة 2021، أوقف مجلس القضاء العدلي القاضي بشير العكرمي عن العمل وأحال ملفه إلى النيابة العمومية بسبب اتهامه بالتستر على ملفات متعلقة بالإرهاب، وتم إيقاف العكرمي بعد اتهامه بالتستر على المتهم في قضية الشهيد شكري بلعيد وهو شكري بن عثمان بعد سماعه والإبقاء عليه في حالة سراح مكنته من الهروب.
منذ صدور الحكم الابتدائي في قضية اغتيال الشهيد شكري بلعيد أواخر مارس الماضي، يدعو قضاة ومحامون إلى ما أسموه بإنصاف القاضي بشير العكرمي معتبرين الأحكام التي نطق بها القضاء في ملف الاغتيال جاءت بعد العمل الذي قام به العكرمي، في المقابل تستنكر هيئة الدفاع عن الشهيدين ذلك القول، حيث وصف عبد الناصر العويني عضو الهيئة ذلك القول بالافتراء قائلا إن الوصول إلى محاكمة عناصر تنفيذ الاغتيال كان بسبب مسار مجهد قامت به الهيئة الذي خاضت جزء كبيرا منه في مواجهة العكرمي الذي أطلق سراح 12 متهما في قضية الاغتيال قبل أن تستأنف دائرة الاتهام قراره وتحكم عليهم ب30 عاما سجنا. في المقابل، يعتبر عضو سابق في هيئة الدفاع أن الأحكام التي صدرت في حق المتهمين بالاغتيال كانت بالفعل قائمة على عمل القاضي بشير العكرمي الذي تلاعب بمؤيدات وأدلة تبعد الشبهة عن أطراف سياسية حسب قوله والذي ساهم عمله حين كان قاضي تحقيق في المكتب عدد 13، في اجتزاء الحقيقة حول اغتيال الشهيد شكري بلعيد وحصرها في الأصابع التي ضغطت على الزناد دون محاسبة فعلية للرؤوس التي دبرت تلك العملية.
iThere are no comments
Add yours