سمحت ثورة 17-14، وإزاحة بن علي من السلطة، للمتخصصين في القانون والمدافعين عن حقوق الإنسان بالمطالبة بإعادة صياغة قوانين مثل المجلة الجزائية وإلغاء مناشير ومراسيم ملغومة يمكن أن تنسف بعض الحقوق، خاصة أنها صيغت منذ عقود طويلة تحت حكم بورقيبة وحتى زمن الاستعمار، مثل الأمر المؤرخ في 2 أفريل 1953 المتعلق بزجر الاعتداءات المدبرة ضد الجولان بالطرقات، والذي يهدف إلى ضرب الاحتجاجات ضد الاستعمار، وأو بعض أحكام المجلّة الجزائية مثل منع بيع الخمر للمسلمين. نصوص قانونية تعج ببعض الفصول التي توصف بالمهجورة، غير أن ترك العمل بها لا يلغيها، فمجلة الالتزامات والعقود التي وُضعت في العام 1906، بها أكثر من 50 فصلا مهجورا وأبوابا متروكة بالكامل.

قانون الهمج: التشريع للوصم

في التاسع من شهر جويلية سنة 1923، صدر أمر علي تحت عنوان ”الهمج“ بمقتضى أعمال ”لجنة الإصلاحات العدلية المدنية“، بموجب قرار من المقيم العام الفرنسي.  تضمن هذا الأمر عشرة فصول، ونص الفصل الثاني منه على تعريف الهمج بأنهم ”الأشخاص الذين تجاوز سنهم الخامسة عشرة من العمر ولم يكن لهم مقر ثابت ولا وسائل للتمعش في غير حالة القوة القاهرة عن إثبات تعاطيهم صنعة أو حرفة بوجه مادي“. يعاقَب حاملو هذه الصفة وفق الفصل الثالث من هذا الأمر بالسجن مدة ستة أشهر و ”يُحجَّر عليهم الإقامة بمدن الحاضرة وسوسة وصفاقس وبنزرت وبأحوازها مدة خمسة أعوام ابتداء من تاريخ انتهاء عقابهم“.

سمح هذا القانون للرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بعمليات ترحيل ممنهجة لغير سكان المدن الكبرى، إلى مسقط رأسهم الأصلي، وظل هذا الأمر العلي مطبّقا إلى أواخر عهده. يقول المحامي منذر الشارني في تصريح لنواة إن هذا الأمر العلي هو قانون مهجور، لكن روح قانون الهمج قائمة إلى حد الآن في إجراءات تقوم بها الشرطة حين تستوقف أبناء الأحياء الشعبية داخل الأحياء الراقية، وأن تلك الخلفية الأمنية تستعملها الشرطة أيضا في قمع الاحتجاجات التي تتسبب في قطع الطريق العام.


منذ عقود طويلة، يسلط وصم اجتماعي مقيت على جهات وأبنائها وشرائح واسعة من المجتمع التونسي. وصم كرسته قوانين و غذته السلطة الحاكمة منذ الاستقلال و ما قبله. للتعرف على أنواع هذا الوصم وطرق توظيفه وما ينتجه داخل المجتمع، حاورت نواة إيمان بن دعدوش الأستاذة في علم الاجتماع.


يقول فؤاد الغربالي الأستاذ المتخصص في علم الاجتماع لنواة إن الشرطة تقوم دائما بإيقاف من تحيط بهم الشكوك من قبلها على أنهم منحرفون فتتثبت من هوياتهم، وأن هذه الشكوك تعززها ملامح وجه الطرف الآخر أو طريقة حديثه أو حتى لباسه، إضافة إلى عنوان سكنه الذي يثبّت إمكانية انحرافه إذا كان في حي شعبي. يضيف الغربالي ”حين يوجه الشرطي سؤاله لأحد أبناء الأحياء الشعبية فإنه يعني ضرورة أنه غير مرحب به في المجال الذي يتجاوز حدود الحي الشعبي. لهذا السؤال جذور تاريخية ترجع لسياسة الإجلاء القسري التي اعتمدها بورقيبة تجاه النازحين نحو المدن الكبرى، وهي سياسة اعتمدت على ما يسمى بقانون الهمج الذي صدر بموجب أمر علي، غير أن سياسة الإجلاء القسري فشلت في السبعينات، لذلك لجأت الدولة في تلك الفترة إلى الاعتراف بهم وسط الحاضرة على أن لا يتجاوز حدود الأحياء الهامشية التي نشأت لتحتضنهم. وإذا ما فككنا السلوك البوليسي تجاه سكان الأحياء الشعبية خارج حدود تلك الأحياء، فإننا نخلص إلى عملية إدارة للفضاء الحضري لضمان بقائهم في أحيائهم والحفاظ على واجهة المدن الكبرى والأحياء الراقية“.

منع بيع الخمر للمسلمين: حبر على المجلّة الجزائية

من المعلوم أنه يُمنع على الفضاءات التجارية في تونس بيع المشروبات الكحولية يوم الجمعة لغير الأجانب. لكن قد يغيب عن الكثيرين معرفة وجود سند قانوني لمنع بيع المشروبات الكحولية للتونسيين، والذي يصل حد السجن. فقد نص الفصل 317 من القانون الجنائي التونسي على معاقبة: ”الأشخاص الذين يناولون مشروبات كحولية لمسلمين أو لأناس بحالة سكر“، و ”كل من وجد بحالة سكر واضح بالطريق العام أو بجميع الأماكن العامة الأخرى“. ويعتبر هذا الفصل مهجورا وغير قابل للتنفيذ منطقيا بفعل التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي عاشته تونس منذ إصدار المجلة الجزائية، فحسب دراسة نشرتها شركة ”ألفا كونسيلتينغ“ استخلصت نتائجها من استجواب عينة ب2500 شخص من الجنسين في ولايات تونس، فإن 54.91 بالمائة من العينة المستوجبة يحتسون المشروبات الكحولية مرة في الشهر على الأقل، فيما تقول الغرفة النقابية للمشروبات الكحولية إن عدد مستهلكي تلك المشروبات وصل في العام 2021 إلى 1.7 مليون شخص في تونس.  وتستفيد الدولة من استهلاك التونسيين للمشروبات الكحولية من خلال الإتاوات المفروضة على الحانات وعلى مصنعي الجعة والخمور، حيث أقر مشروع ميزانية تونس لسنة 2024 تطبيق إتاوة على صناعة الجعة والمشروبات الكحولية والحانات تقدر ب3 بالمائة من رقم معاملاتها.

ديسمبر 2023، رئيس الجمهورية يعلم وزيرة العدل ورئيس الحكومة بتنقيح بعض فصول المجلة الجزائية

يقول القاضي عمر الوسلاتي في تصريح لنواة إن ”الواقع الاجتماعي يسبق في أحيان كثيرة القاعدة القانونية، حيث يتجاوز السلوك الاجتماعي والثقافي والاقتصادي القوانين، فتُترك الفصول التي تسمى مهجورة، غير أن فاعليتها القانونية تظل سارية ما لم تُنسخ أو تعدل. أعتقد أن السلطات المتعاقبة في تونس تستفيد من بعض الفصول المهجورة، مثل الفصل 317 الذي يعود إلى العام 1913 سنة صدور المجلة الجزائية، أو الفصل الثامن من المرسوم عدد 50 لسنة 1978، ولا شيء يمنع من استخدامها في أي وقت“.

قوانين جامدة إزاء واقع متغيّر

ينص الفصل 8 من المرسوم 50 المنظم لحالة الطوارئ على أنه ”يمكن للسلطات المشار إليها بالفصل 7 أعلاه أن تأمر بتفتيش المحلات بالنهار وبالليل في المناطق الخاضعة لحالة الطوارئ وأن تتخذ فيها كل الإجراءات لضمان مراقبة الصحافة وكل أنواع المنشورات وكذلك البث الإذاعي والعروض السينمائية والمسرحية“، وهو فصل مهجور لم يتم العمل به في السنوات التي أعقبت الثورة على الأقل، على عكس فصل مهجور من القانون الأساسي لسنة 1967 المنظم للقضاء.

 يتحدّث هذا الفصل عن إعفاء القاضي في حال قصور جسدي يمنعه من القيام بعمله، غير أن هذا الفصل لم يتم العمل به إلا بعد الثورة حسب القاضي عمر الوسلاتي الذي يقول: ”استعمل هذا الفصل عدليا بعد الثورة لملاحقة القضاة وأصبحت فكرة الإعفاء عزلا. كان هذا الفصل متروكا غير أن السلطة السياسية استغلته في فترة وجود نور الدين البحيري على رأس الوزارة لإعفاء قضاة دون عرضهم على مجلس التأديب، وتواصل في فترة حكم قيس سعيد“.

تمثل مجلة الالتزامات والعقود أكثر النصوص القانونية التي تحتوي على فصول مهجورة، فهي تنص على مؤسسات اندثرت حسب القاضي عمر الوسلاتي، فهناك أحكام هُجرت غير أنها لاتزال قائمة وفاعلة قانونيا، مثل الفصل الذي ينص على الكراء المؤبد أو ما يعرف بخلو النصبة وخلو المفتاح، أي  أنه من حق الشخص الذي استأجر مسكنا أو محلا تجاريا أن يبقى فيه إلى الأبد على وجه الكراء ولا يستطيع صاحب المحل اخراجه إلا باتفاق بينه وبين المستأجر. يقول الوسلاتي ”لم يتم الآن اللجوء إلى هذه الفصول بحكم التطور الاجتماعي، غير أن ذلك لا يعني أن النص لا يمكن تطبيقه. هناك أيضا فصل ينص على لزوم إعاشة المؤجر للعامل في محله مدة عشرين يوما وتوفير ما يلزمه من أكل وشرب ودواء لعشرين يوما في فترة مرضه. هذا الفصل موجود لكنه مهجور بما أن أنظمة التأمين على المرض قد حلت محله“.

أما مجلة الأحوال الشخصية، فقد نص الفصل 25 منها المتعلق بالنزاع بين الزوجين على أنه ”إذا شكا أحد الزوجين من الإضرار به ولا بيّنة له وأشكل على الحاكم تعيين الضرر بصاحبه، يعيّن حَكَمان، وعلى الحكمين أن ينظرا، فإن قدرا على الإصلاح أصلحا، ويرفعان الأمر إلى الحاكم في كلّ الأحوال“ ويكون الحكمان من العائلتين، ويعتبر هذا الفصل مهجورا، بوجود قاضي الأسرة الذي يضطلع بمهمة الصلح وفض النزاع بين الزوجين في أول أطوار قضية الطلاق.

يقول القاضي عمر الوسلاتي ”هناك فصول مهجورة وينزع المحامون والقضاة إلى عدم التمسك بتطبيقها بما أنه يمكن اللجوء إلى مخرجات قانونية بديلة غير أنه هناك قوانين وفصول مهجورة لا مهرب من تطبيقها إذا أُثيرت دعاوي قضائية على أساسها، لكن لا يوجد أي قانون يمنع القاضي مثلا من تطبيق الفصل 317 من المجلة الجزائية، وهو فصل يعود إلى العام 1913، سنة إصدار المجلة الجزائية“.

مشاريع إصلاح معطلة

في شهر جوان سنة 2018، قدمت اللجنة الفنية لإصلاح المجلة الجزائية والتي شكلتها وزارة العدل في العام 2014 من قضاة ومحامين وخبراء، مشروع الجزء الأول من المجلة الجزائية بعد عرض المقترحات أواخر 2017 وبداية 2018 على الاستشارات الجهوية في محاكم الجمهورية. تضمن ذلك المشروع إصلاحات في فصول تشمل خاصة العقوبات في الجنايات والجنح لتتماشى مع الدستور والمعايير الدولية للمحاكمة العادلة وضمانات لحماية الحقوق والحريات. أنهت اللجنة النسخة الجديدة كاملة غير أنها لم تعرض على التصويت في البرلمان، رغم أن مقترح إرساء مجلة جزائية جديدة تتلاءم مع الدستور كان مقترح وزارة العدل في ذلك الوقت. وفي أكتوبر الماضي، طرحت الكتلة الوطنية المستقلة تنقيح الفصلين 96 و98 وإلغاء الفصل 97 من المجلة الجزائية، ما يعني أن مسألة طرح مشروع المجلة الجزائية الذي أعدته اللجنة الفنية على مجلس النواب مستبعد تماما في الوقت الحاضر.

12 جانفي 2018 وزير العدل الأسبق غازي الجريبي خلال افتتاح أشغال الاستشارة الوطنية لتنقيح المجلية الجزائية

يقول فريد بن جحا وهو قاض وأستاذ في القانون الدولي الإنساني، إن مشروعي إصلاح المجلة الجزائية ومجلة الإجراءات الجزائية ركنت في الرفوف ولم تر  النور رغم قدم المشروعين، ولا أحد يعلم إن كانت السلطة التنفيذية تعتزم الاعتماد عليهما أم أنها ستعد مشروعين جديدين، ويضيف ”يبدو مبدئيا أنه لا توجد رغبة في تنقيح المجلة الجزائية، رغم أنه يجب تنقيحها عاجلا لسببين الأول هو الفراغ التشريعي في ذكر وتجريم عديد الأفعال التي لم تستوعبها المجلة، والثاني هو إلغاء الفصول التي لا تتماشى  مع التطور الاجتماعي والاقتصادي. كما يجب أن يشمل الأمر إلغاء بعض المراسيم مثل الأمر المنظم لحالة الطوارئ“، ويضيف بن جحا إن مشروع المجلة الجزائية الذي أعدته لجنة متكونة من خبراء ومحامين وقضاة، تحتوي على 500 فصل نصت على إنشاء مؤسسات مثل لجنة العقوبات البديلة ونظام السجن المفتوح والتي تتطلب ترتيبات لوجستية وتخصيص ميزانية، ويرجح بن جحا أن عدم عرض مشروع المجلة على التصويت قد يكون بسبب غياب تمويل لتلك المؤسسات التي نص عليها مشروع المجلة الجزائية.

راسل موقع نواة وزارة العدل بتاريخ 12 ديسمبر للاستفسار عن مآل مشروع المجلة الجزائية الذي تم الانتهاء من إعداده سنة 2018، وأسباب تأخر طرحه لمناقشته في مجلس النواب وعمّا إذا كان هناك توجه لإعداد مشروع جديد، غير أنه لم يتم الرد إلى الآن على الاستفسار.

فشلت المطالب المتكررة لتغيير المجلة الجزائية التي تتضمن فصولا مهجورة أو مطبقة تتناقض مع التزامات تونس الدولية ومع التغير الذي شهدته البلاد في نسيجها الاجتماعي. السلطة من جهتها لم تتجاوب في ظل الهزات السياسية التي عاشتها تونس، مع الحاجة الملحة لتفكيك الألغام القانونية الكامنة في نصوص تشريعية مختلفة، خاصّة وأنّ معظمها يشكّل خطرًا على منظومة الحقوق والحريات ويتعارض مع دستور 2014 والدستور الذي عوضه سنة 2022.