لا يبدو أن الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل قد جانبت الصّواب حين أوردت في بيانها الخميس الماضي، بعد إيقاف الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس يوسف العوادني، أن سبب ما ”سجلته من تواصل فقدان المواد الأساسية ليس فقط الاحتكار، بل بسبب رؤية قائمة على الخطاب المزدوج وجهه الظاهر الترويج للمطالب الشعبية وحقيقته التفريط في المكاسب الاجتماعية والوطنية كالدعم استجابة لتوصيات الدوائر المالية العالمية“.
فليس من المستبعد أو المستغرب أن يفاجئ الرئيس قيس سعيد الجميع بإمضاء اتفاق مع صندوق النقد الدولي يكون تخفيض الدولة لميزانية الدعم أحد أهمّ نقاطه، خاصة بعد ما كشفه رئيس البرلمان ابراهيم بودربالة بشكل علني عن الموقف الحقيقي لرئيس الدولة من مشروع قانون تجريم التطبيع وحديثه عن المخاطر التي ستهدد مصالح تونس الحيوية في حال مصادقة البرلمان عليه. ومنه لن يكون لدى رأس نظام 25 جويلية أي حرج في العودة بالتونسيين إلى واقع الأمر وتغليف العملية بضرورة الحفاظ على توازنات الدولة الماليّة خاصة أن سياسة الرئيس قيس سعيد في جوهرها تتلخص في ”فرض الأمر الواقع“.
فبعيدا عن الخطابات القويّة للرئيس قيس سعيد وفحواها الرافض بشدّة للشروط التي يضعها صندوق النقد الدولي لإمضاء أي اتفاق، يبدو من الواضح وبالأرقام أن تلك الشروط وإن كانت ضروريّة، وعلى رأسها رفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية، تُطبّق تحت عناوين وتسميات وشمّاعات مختلفة من توجيه الدعم لمستحقيه والضغط على ميزانيات الدعم والاحتكار، أو ”الرّفع المُقنّع للدعم“، كما أسماه الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي.
إذ أكّد الطبوبي، خلال كلمة ألقاها في افتتاح أحد المؤتمرات القطاعيّة يوم 18 جوان 2023، أنّ ”الدعم عن المواد الأساسية رُفِع“، وأضاف متسائلا: ”مسؤول حكومي يقول إنّ نفقات الدعم قد تقلّصت، أتساءل كيف ذلك…؟ هل انقطع الشعب عن الأكل والشُّرب…! لا بل تقلّصت بانقطاع المواد الأساسية وندرتها“، داعيا إلى مصارحة الشعب بصعوبة الوضع الاجتماعي الحالي والابتعاد عن ”الطرق الملتوية“ في رفع الدعم حسب توصيفه.
التخفيض في الكميات
الخبير الاقتصادي لدى الاتحاد العام التونسي للشغل كريم الطرابلسي أوضح في حديث مع ”نواة“ أن المقصود من لفظ رفع الدعم ”المقنع“ أو ”بطرق ملتوية“، الذي اعتمده اتحاد الشغل لتوصيف ما أتته السلطة، يتمثل في لجوء الحكومة إلى صيغة التخفيض في كميات المواد المدعمة التي تستوردها عوض التخفيض من نسبة تدخل الدولة ودعمها لتلك المواد والذي ينتج ضرورة الترفيع في الأسعار.
فوفق الخبير الاقتصادي بقسم الدراسات والتوثيق لدى اتحاد للشغل، يؤدي التخفيض في كميات المواد المدعمة الى نفس نتيجة الترفيع في أسعارها عبر التخفيض في القيمة المادية لتدخل الدولة لدعم تلك المواد، أيّ انخفاض في قيمة النفقات الموجهة للدعم وتراجع نسبتها على سلم الناتج القومي الخام ومن القيمة الجُمليّة لنفقات الدولة كما تبرز موازنات الدولة للسنتين الأخيرتين.
كما أكد محدثنا أن مشروع الميزان الاقتصادي لسنة 2024، وإن حافظ تقريبا على نفس المبلغ المالي المرصود للدعم في قانون المالية لسنة 2023 المحين، فإنه لا يعني ضخ نفس كمية المواد المدعمة في الاسواق، سواء كانت مواد أساسية أو محروقات، باعتبار ان الأسعار العالمية غير مستقرة وتتجه غالبا نحو الارتفاع، مما يعني أن نفس المبلغ المرصود للدعم في السنة الماضية لا يمكن من تغطية نفس كمية المواد خلال السنة المقبلة بعد تحيين الميزانيّة. فالمبلغ المرصود لدعم المواد الأساسيّة بميزانية الدولة لسنة 2023 قبل تحيينها، سجّل تراجعا بنسبة تفوق الـ 30 % مقارنة بسنة 2022، قبل التراجع خوفا من تداعيات ذلك التوجّه واندلاع موجة احتجاجات وكذلك لحسابات انتخابية، وفق تقدير الطرابلسي.
تقليص كبير وتراجع
ما يقصده الخبير الاقتصادي، هو ما تضمّنته ميزانية الدولة لسنة 2023، قبل تحيينها، من تخصيص 8832 م.د للدعم مقابل 11999 م.د لسنة 2022 أي تراجع بـ 3167 م.د مرده ”أساسا الانطلاق في برنامج إصلاحي شامل لمنظومة الدعم يهدف إلى الحفاظ على مكسب الدعم كخيار ثابت ويمكن فعليا من تعزيز الدور الاجتماعي للدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال توجيه الدعم إلى مستحقيه ومقاومة الفقر في إطار حماية خاصة للفئات المعوزة ومحدودة الدخل“، كما ورد في التقرير الذي أصدرته الحكومة بخصوص ميزانية الدولة لسنة 2023.
كما تم التقليص في ميزانية دعم المواد الأساسية إلى 2523 م.د مقابل 3771 م.د خلال سنة 2022 أي تراجع بـ 1248 م.د ما يعادل 33.1%، لينخفض حجم الدعم إلى 16.4% من جملة النفقات مقابل 23.6% لسنة 2022، لكن تم التراجع وتحيين الميزانية المرصودة للدعم خلال العام الجاري، أي سنة 2023، لتبلغ 11475 م. د، تم تخصيص 3805 م.د منها لدعم المواد الأساسية، بعد تحيين الحكومة لميزانية الدولة لسنة 2023.
تراجع نفقات الدعم تدريجيّا
منذ 25 جويلية 2021، سجّلت نفقات الدعم تراجعا لتبلغ نسبتها من الناتج القومي الخام 7.2% خلال سنة 2023، بعد تحيين الميزانية، بعد أن كانت في حدود 8.3% سنة 2022، لتواصل نفقات الدعم التراجع على مقياس الناتج القومي الخام لتبلغ 6.5% سنة 2024، وفق ما ورد في مشروع ميزانية الدولة للعام المقبل.
كما ستسجّل النفقات الجمليّة الموجّهة للدعم تراجعا خلال السنة المقبلة، وفق ما ورد في مشروع ميزانية الدولة لسنة 2024 التي يناقشها مجلس نواب الشعب خلال هذه الفترة، بنسبة 1.6% مقارنة بالمبلغ المرصود خلال سنة 2023، بعد تحيين المزانيّة، لتبلغ 11337 م.د بعد أن كانت 11475 م.د سنة 2023.
إلا أن الأهمّ في علاقة برفع الدعم المقنّع عن المواد الأساسيّة، هو تراجع كميّة الحبوب المُباعة من طرف الديوان الوطني للحبوب، من 34.125 ألف قنطار سنة 2021 إلى 24674 ألف قنطار سنة 2022، وهي السنة الأخيرة التي حوصل فيها الديوان الوطني للحبوب إحصائيّاته السنوية.
كما تمثّل أسعار الحبوب، التي تحتكر النسبة الأكبر من النفقات الماليّة الموجّهة لدعم المواد الأساسيّة، دليلا على أن رصد نفس المبلغ للدّعم لا يعني بالضرورة التمكّن من ضخّ نفس الكميّة من الحبوب التي سجّلت أسعارها ارتفاعا في السوق المحليّة، حيث ارتفع سعر القمح الليّن عند الإنتاج مثلا من 50 د للقنطار الواحد خلال سنة 2021 إلى 70 د للقنطار الواحد سنتي 2022 و2023.
التوظيف السياسي
منذ 25 جويلية 2021، ارتكزت خطابات الرئيس قيس سعيد وسرديته لـ”حرب تطهير البلاد“ على توجيه تهم مبنية للمجهول في البداية باحتكار وإخفاء المواد الغذائية الأساسية، والمدعمة بطبيعة الحال، لتأجيج الأوضاع الاجتماعية وتأليب الرأي العام والجماهير ضد السلطة القائمة بعد إلغاء شبه كلي لبقية السلطات.
ذهب رأس نظام 25 جويلية إلى أبعد من توجيه تهمه، التي لا تكاد تغيب عن أي من خطاباته، إلى التجار والمتدخلين في مسار وصول المواد المدعمة إلى المستهلك، بمن فيهم موظفي الدولة والإدارة ”المتغلغلين فيها لحساب أطراف معلومة للجميع“ مثل ما يقول ويعيد الرئيس قيس سعيد.
إذ وضع السياسيين والنواب، ممن كانوا فاعلين قبل 25 جويلية 2021 على رأس قائمة المتهمين بالعمل على إخفاء المواد الأساسية والغذائية المدعمة. مطلقا صوبهم وابلا من الاتهامات لكسب المقبولية الشعبية تمهيدا لاعتقالهم، وهو ما حصل في النهاية بتهم عديدة، علّ التآمر على أمن الدولة أبرزها.
ليكون الرئيس قيس سعيد بذلك قد تخلص من أهم معارضيه وحيدهم خلال فترة بناء النظام الجديد، من جهة أخرى خفض في نفقات الدعم المحمولة على كاهل الدولة وميزانيتها دون أي تحمل مباشر للمسؤولية أو خسارة نقاط في حسابه كرئيس يضع مصلحة الشعب والفئات الهشة على رأس أولياته.
كما لا يمكن الحديث عن التمشي الذي تتبعه السلطة القائمة وسياستها في رفع الدعم، دون ذكر سياسة الانكار التام لندرة المواد الأساسية المدعومة إلى حد بلغ توجيه تهم بنشر الاشاعات الى من ينشر تدوينات بخصوص ندرة أو فقدان بعض المواد الأساسية.
والمقصود هنا، الزيارة ”الفجئية“ التي قام بها رئيس الدولة قيس سعيد في ديسمبر 2022 الى أحد الأكشاك بمنطقة حي التضامن أين وجد الزيت المدعم أو ”زيت الحاكم“ كما هو معروف، متوفرا عكس ما يدعيه ”أعداء الشعب التونسي“، في حين أن الجميع يعلم حد اليقين أن الزيت المدعم لم يعد له وجود تقريبا ولم يره أي كان منذ فترة إلى حين سحب الرئيس قيس سعيد لزجاجة ”زيت سانڨو“ وتوجيهها نحو كاميرا الرئاسة قائلا ”هاو موجود الزيت…“، ومن حينها لم يره أحد مجددا، أي الزيت المدعم.
iThere are no comments
Add yours