قد يبدو الأمر غريبا إلى حدّ ما، لكن الأغرب هو نظرة الرئيس إلى الموضوع والعبارات التي استعملها لتوصيفه. حيث استعمل عبارات أقل ما يمكن القول عنها أنها عنصرية. وبذلك يعلن الرئيس الحرب على الأفارقة من جنوب الصحراء المتواجدين على الأراضي التونسية. فلماذا هذه الحرب؟ ولماذا الأفارقة من جنوب الصحراء؟
الحرب، خبز قيس سعيد اليومي
تقول القاعدة في السياسة ”يجب توسيع قاعدة الحلفاء وتقليص قاعدة الأعداء“، وهو ما قام به قيس سعيد بعيد أحداث 25 جويلية 2021. فبعد الرجة السياسية التي أحدثها في ذلك اليوم، وما تبعها من تغيرات جذرية في المشهد السياسي، سارع الرئيس إلى محاولة كسب حلفاء ونشر نوع من الطمأنينة في المشهد السياسي وفي المجتمع، حتى يكمل مشروعه. فسارع إلى دعوة المنظمات الوطنية الكبرى وبعض من مكونات المجتمع المدني وبعض الأحزاب، تقريبا لم يستثن إلا الأحزاب التي يعتبرها عدوّة له. وبالفعل، حظي الرئيس بدعم طيف كبير من هؤلاء، وإن احتفظ جلهم بمساندة نقدية للمسار حينها، ولم يُستثن من هذا الدعم إلا الأحزاب التي تم إقصاؤها. يمكن القول إنها خطوة ذكية من الرئيس، حيث كسب حلفاء وعزل أعداءه، والمقصود هنا أساسا حركة النهضة.
لكن هذا التوجه لم يدم طويلا، وسرعان ما انقلب عليه الرئيس واختار السير في طريق آخر. تقلصت علاقة الرئيس بالحزام الذي كونه من حوله تدريجيا. وأصبحت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني تخرج من تلك الدائرة وتحول جلها إلى المعارضة. في المقابل توجه الرئيس إلى الثكنات والمقرات الأمنية مثل وزارة الداخلية، واعتمد عليها كحليفه الأساسي الجديد، وأصبح يكرر داخلها خطابًا مشحونًا بعبارات الحرب، مثل ”الصواريخ، الرصاص، الأعداء، الخونة…“.
لم يكن هذا الخطاب في الثكنات فقط، بل في كل مرة يتكلم فيها الرئيس تقريبا. فكثيرا ما يركز في خطابه على نظرية المؤامرة، ودائما ما يعيد فكرة أن هناك من يتربص بالشعب ووجب إيقافه. من خلال نظرية المؤامرة يتنصل الرئيس من مسؤوليته في الأزمات التي تعيشها البلاد والتي لم يحسن إدارتها. فهو ليس مسؤولا عن الفشل والأزمة، بل هناك أشخاصا وأطرافا أخرى خلقت الأزمات وحالت دون حلها. ويقدم الرئيس نفسه دائما أنه يواجه هؤلاء بلا هوادة، بشكل يجعل الناس تتصوّر أن الرئيس يسعى بكل جهده لحل الأزمات التي خلقها أعداؤه ويسعون إلى تعميقها. لكنّ الأعداء، وفق السردية التي يقدّمها، أقوى منه وهو غير قادر على مواجهتهم لوحده، لذلك وجبت نصرته. وبذلك يكون الرئيس قد ضمن عدم مسؤوليته عن الوضع المتأزم الذي تعيشه البلاد، مع حشد أنصار جدد وكسب ثقتهم ودعمهم. في المقابل لا يذكر الرئيس أعداءه في خطاباته. فيصور لأنصاره، الذين دائما ما يكونون في حالة استنفار نتيجة لحشد الرئيس المستمر لهم من خلال خطاباته، أن كل من يعارض قيس سعيد بأي طريقة من الطرق هو من هؤلاء الأعداء.
والتركيز على معجم الحرب، خاصة في الثكنات، مهم للغاية بالنسبة إلى الرئيس. فالحرب تتطلب الاستنفار والاصطفاف. وبخصوص الاستنفار، نجد أن أنصار الرئيس يكونون دائما حاضرين للتفاعل معه بسرعة، مستعينين في ذلك برصيد من العنف اللفظي. أمّا عن الاصطفاف، فلا يوجد حياد في الحرب. إما أن تكون مع هذا الطرف أو أن تُصنَّف آليّا مع الأعداء. ولذلك تكون الناس مدفوعة إلى اختيار موقف من الأحداث، فنحن في حالة حرب ووجب أن نكون جنودا مع أحد الأطراف. ولذلك يحاول الرئيس دائما أن يكون له أعداء، ممّا يزيد في مراكمة رأسماله الرمزي. فكلما زاد أعداؤه زاد أنصاره. وهنا لا نعرف من هم أعداء قيس سعيد، فهو لم يشر لهم بصفة مباشرة ولم يحدد ملامحهم. وبذلك، نظريا على الأقل، أعداء قيس سعيد هو كل من ليس معه.
وفي اعتقادي أن قيس سعيد يعرف جيدا أنه لا يحتاج إلى الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني لتطبيق مشروعه، فهو يقوم أساسا على تدمير هذه المكوّنات سياسيا ومجتمعيا. ويدرك جيّدا أنه محتاج إلى حشد الأنصار والحصول على الدّعم الشعبي لكي يتقدم في تطبيق برنامجه. وهو يراهن على خوض الحروب، باعتبارها استراتيجية حكم. واليوم نجد أن قيس سعيد في حالة حرب مع الجميع دون استثناء تقريبا، فلا أصدقاء له في الساحة السياسية عدا أنصاره. وها هو الرئيس يطل علينا الآن بحرب جديدة، حرب على أفارقة جنوب الصحراء المقيمين في تونس.
أفارقة جنوب الصحراء: ورقة جديدة للحشد
يمكن القول أن قيس سعيد استنفد جميع جبهات الصراع، فهو في حالة حرب مع الجميع تقريبا. لذلك وجب تصدير الحرب إلى دائرة أكبر. بالتوازي مع ذلك، تصاعدت في الآونة الأخيرة أصوات تعادي وجود أفارقة جنوب الصحراء في تونس. هي مجموعات تحمل خطابًا عنصريّا، فاشيًّا وإقصائيًّا، تغذى وجودها أساسا من تصاعد الخطاب الشعبوي الذي كرّسه قيس سعيد في الساحة السياسية، ومن انتشار فكرة المؤامرات التي أصبحت أداة تحليل السياسات في تونس، والتي كرسها أيضا قيس سعيد. استبطنت هذه المجموعات الخطاب الشعبوي والمؤامرة وأصبحت طريقة للممارسات السياسية عندها، تستعملها لتحليل الظواهر والحكم عليها. وبذلك وظّفتها لتحليل وجود أفارقة جنوب الصحراء في تونس، ليصبح وجودهم مؤامرة ضد هذا البلد. وبدا أنّ هناك تقاربًا واضحًا بين هذه المجموعات وقيس سعيّد، حتّى وإن غاب البعد التنظيمي في ذلك، ولكنّ طريقة التعاطي مع هذه الظاهرة تدل على تأثر مناهضي وجود أفارقة جنوب الصحراء بتونس بطريقة تفكير قيس سعيد في ممارسة السياسة.
تمثل هذه الحملات عند الرئيس فرصة ذهبية. فعلاوة على أنّه ينظر إلى المسألة بعقليّة تآمريّة -وهي طريقة محدِّدة في تحليله للواقع وبنائه لمواقفه- فإنه أمام قضية ستجلب له عددا أكبر من الأنصار والدعم. يوجد الكثير ممن يعادون فكرة وجود أفارقة جنوب الصحراء في تونس، وتطور الأمر ليصبحوا مجموعات منظمة. هذه المجموعات تمثّل خزّانًا شعبيًّا جديدًا وجب على الرئيس أن يستقطبه ويراكمه مع رصيده الحاصل، حتى لو كان ذلك على حساب حقوق أفارقة جنوب الصحراء، عبر خطاب عنصري فاشي. ردة فعل الرئيس ستساهم في مزيد ترسيخ فكرة المؤامرة في طريقة التحليل السياسي لدى الناس، وهو ما يسمح له بالترويج أكثر لرؤيته للعمل السياسي، وستصبح قراءته للأحداث الأكثر إقناعًا وإغراءً، ومن ثمّ حشد أتباع وأنصار أكثر. والجديد في هذه الحرب، هو خوضها مع عدوّ خارجي، يقيم داخل البلاد، لكنّه ليس منها. وهو ما يمكن أن يرسخ في الذهنية الجماعية أن أعداءنا ليسوا فقط تونسيين وأننا محاصرون من كل الجهات وأن المؤامرة علينا كبيرة، لذلك وجب مزيد الالتفاف حول قائد الحرب.
لكن لماذا الأفارقة من جنوب الصحراء بالذات؟ ببساطة لأنهم الحلقة الأضعف. فهم في وضعية هشة وغير قادرين على الدفاع عن أنفسهم. ثانيا لا يوجد لدولهم وزن دبلوماسي كبير وعلاقات اقتصادية ذات وزن مع تونس. ولا توجد لدينا جالية كبيرة في هذه الدول لكي تقوم هي بردة فعل مماثلة لما قامت به تونس، على عكس الدول الأوروبية مثلا.
منذ بزوغ نجمه سنة 2011، دافع قيس سعيد بشدة على فكرة نهاية الأحزاب. وتتمحور جل أفكاره على فكرة أن الشعب هو المقوم الأساسي للعمل السياسي، وليس الحزب أو الجبهات. لذلك لم يعرف لقيس سعيد أصدقاء في الساحة السياسية من أحزاب أو تنظيمات. وحتى صعوده في الانتخابات لم يكن من خلال دعم حزبي واضح، عدا بعض الأحزاب والائتلافات التي سبق وأن صرّح بأنها لا تلزمه. وعليه، فإنّ قيس سعيد يعول بصفة أساسية على الدعم الشعبي، وخاصةً على أنصاره الذين لا ملامح تنظيمية واضحة لهم، وهو ما يدفعه دائما وبصفة مستمرة إلى الحشد. والحرب هي من أسهل طرق الحشد والتعصب والتطرف في الانتماء. وهذا بالضبط ما يسعى إليه الرئيس، لذلك فتح واجهات حرب ضدّ كل الأطراف تقريبا، حتى ضدّ أصدقائه القدامى.
iThere are no comments
Add yours