ومع الانتخابات التشريعية 17 ديسمبر، ها أنا تخلفت بإرادتي وعن عمد. ولم أتقدم لتأشيرة دخول أو لتصريح من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. ولا أعرف إذا ماكان هذا العزوف المستجد بالنسبة لصحفي من مصر مازال يكتب وينشر عن تونس وأحوالها يتجاوز تجنب المقامرة مجددا بإهدار رسوم تأشيرة لا ترد (ما يعادل نحو 120 دولارا في جوان الماضي) إلى ما أصبح يتملكه وغيره من شعور بعبثية التطورات الجارية، فيما كان وجهة وموطنا للأمل في بناء دولة ديمقراطية حداثية في عالمنا العربي. نتعلم في مدرسته ومن تقدمه وعثراته.
والحقيقة لم تكن مهمتي سهلة مع النشر في “الأهرام” عن تونس منذ أن أقنعت أول رئيس مجلس إدارة لها بعد ثورة يناير المصرية مع طلبي تغطية انتخابات التأسيسي 2011 بأن بلدا يسعى لبناء الديمقراطية لا ينفق على استضافة صحفي من الخارج، وكما كان الحال زمن وكالة الاتصال الخارجي وإشهارات السفارة التونسية بالقاهرة، وبأن جريدة تأمل في صفحة جديدة مع القراء والمهنية لاتسمح لمصدر بأن يدفع لمحررها نفقات تنقله وإقامته. لم تكن أمور النشر سهلة دائما على النحو الذي وثقت جانبا منها بكتاب نشرته جمعية ” يقظة” بعنوان: “الإعلام في تونس بعد الثورة:رؤية مراسل من مصر حول مصادر العمل الصحفي”. ولذا اعتذرت شاكرا ممتنا لرئيس تحرير “الأهرام” الحالي عن تلبية عرضه استئناف الكتابة عن تونس بعد نحو العام من مغادرة الجريدة ببلوغ الستين في سبتمبر 2018، ومن موقعي كمراسل مقيم بها.
وكصحفي من الخارج يهتم بأن يرى الأمور من جوانب متعددة ويحرص على علاقات عمل مهنية مع مختلف الفرقاء أطراف الصراع، تحفظت لفترة لا بأس بها عندما كتبت ونشرت بقدر ما أتيح في القاهرة إزاء وصف إجراءات 25 جويلية 2021 بـ “الانقلاب”. وهذا مع ما لاحظت منذ البداية من مبالغات وافتراءات وأحكام غير موضوعية، ولا تمت للواقع بصلة ولاتستند إلى أدلة، وأيضا صعود ما أعتبره الموجة الأكثر عنفوانا وتوحشا للثورة المضادة داخل تونس والمدعومة من قوى إقليمية ودولية.
ولكن لاحقا توالت العناوين سيئة السمعة عندنا في المشرق العربي منذ خمسينيات القرن العشرين مثل: وصم الديمقراطية بالفاسدة ومعها الأحزاب وبالمطلق والجملة تبريرا للانقلابات و لصعود حكم الفرد والشعبوية، و “الاستفتاء الشعبي” خاصة بـ “نعم” تفوق التسعين في المائة، و “البرلمان منزوع الصلاحيات” والقائم في الأغلب على تمثيل فردي، يغذي الانتماءات ما دون السياسية والفكرية والحديثة، وحيث يرجح فرص”الرجال الجوف” أصحاب المال والعصبيات الموالين والمنافقين لكل سلطة ورئيس، والتعبير بين بين ظفرين من قصيدة للشاعر “ت إس إليوت”.
وحتى لاأكون آثم القلب، أشهد بأنني وغيري من زملاء صحفيين أجانب وجدنا في الاستحقاقات الانتخابية بعد ثورة تونس وقبل 25 جويلية تعددية ونزاهة وحرية ومؤسسية وحداثة يفتقدها العالم العربي في المجمل. تحركت وغيري في كل هذه الاستحقاقات بحرية، ورأيت بعيني، وتحدثت مع مختلف المستويات والأطياف من كبار المسؤولين إلى المواطنين، وسألت دون حرج الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. ودونت في صحف وكتب الإيجابيات والسلبيات والعثرات. ولكل هذا لا يمكنني الاقتناع بأن هذه الانتخابات التي كانت يمكن وصمها بالتزوير أو الفساد، أو بأن الرشاوي الانتخابية شكلت ظاهرة متفشية أو مؤثرة على النتائج.
وأشهد بتميز هيئة الإنتخابات، وهي مؤسسة نادرة المثال عربيا، واعتبرها محل فخر وإعتزاز ليس بين التونسيين فقط، بل عند المواطنين في مختلف أنحاء العالم العربي، والذين كانوا يأملون في مثيل لها ببلادهم. وبتواضع أضيف تقديري لعمل هيئة الإنتخابات من أجل الديمقراطية وإعتزازي بما لمسته من اجتهاد وجهود رؤسائها الذين اقتربت منهم (كمال الجندوبي ود. شفيق صرصار ونبيل بفون) من أجل انتخابات حرة نزيهة، وبحرصهم على استقلال الهيئة. ويضاف إلى كل هذا إيجابية تقارير الملاحظة المحلية والدولية مع كل استحقاق جرى تحت بصرها ومئات الصحفيين الأجانب (838 في انتخابات التأسيسي 2011 و504 في الانتخابات التشريعية والرئاسية 2014 وفق ما تحضرني المعطيات الإحصائية اليوم). ولذا استحقت هيئة الإنتخابات ورؤساؤها ومجالسها بالانتخاب تكريمات دولية في غير مناسبة، بما في ذلك تتويج “المؤسسة الدولية لنظم الانتخابات” في نوفمبر 2016 لها كأفضل هيئة انتخابات على مستوى العالم، ووضعها أولا وعلى رأس مثيلاتها في 146 دولة.
وأتمنى على كل من أخذ فجأة يطعن بعد 25 جويلية في نزاهة مجالس الهيئة المنتخبة أن يراجع تقارير منظمات الملاحظة المحلية والدوليةكافة، وألا ينسى أن قراراتها وأعمالها كانت تحت رقابة القضاء الإداري ومحكمة المحاسبات ومجتمع مدني يقظ وصحافة حرة. بل وأن يراجع ما نشرته هي في تقاريرها عن هذه الاستحقاقات، وما تحلى به رؤساؤها ومجالسها من صدق ومصداقية حين دونوا ووثقوا السلبيات والمشكلات، واقترحوا سبل إصلاحها. ومن جانبي، يجب اليوم أن أشهد بسعة صدر رؤساء الهيئة وأعضاء مجلسها وصراحتهم حين واجهتهم بانتقادات وبتساؤلات عن السلبيات وبعضها يعود إلى القوانين والنخب السياسية سواء في مؤتمرات صحفية أو حوارات خاصة.
قبل انتخابات 17 ديسمبر 2022 بيوم، اتصلت بزميلين من الصحفيين الأوروبيين المهتمين بالشأن التونسي والمشهود لهما بالمهنية والاستقلالية، ولم يدهشني أنهما لن يذهبا بدورهما لتغطية هذه الانتخابات. وهذا على الرغم من أنهما بغير حاجة لإنتظار السماح بتأشيرات دخول مسبقة. وأخجل أن أنقل ماذا قالا نصا في وصف الحدث، أو ما أصبح بالنسبة للعديد من وسائل الإعلام العالمية “اللاحدث”. ويأسف اليوم من تابع عن كثب وباهتمام متمنيا النجاح محاولة شعب تونس الفريدة للفكاك من الاستبداد والفساد وحكم الفرد والتخلف وفي محيط إقليمي معاكس ومناهض للانتكاسة التي لحقت بسمعة انتخاباتها العامة وبمكانة هيئتها. والأسف مضاعف لأنه كانت هناك فرص لإصلاح مسار الانتقال للديمقراطية، وتدارك التنكر للأهداف الاجتماعية للثورة، بدلا من هدم البناء كله وتقويض مكتسباته ومؤسساته.
وأصارح الأصدقاء والزملاء الأعزاء في تونس بأنه من غير المستبعد لو استمرت الأمور على هذا الحال وفي هذا المسار حتى موعد استحقاق الرئاسة 2024 فلن تبقى ثقة في انتخابات تونس، والتي كانت قد قدمت شهادة إضافية على النزاهة والجدية بفوز المعارض المرحوم السبسي 2014، و”قيس سعيد” الذي وصف بأنه قادم من خارج “السيستام” 2019.
iThere are no comments
Add yours