في الواقع، منذ أن جمع قيس سعيّد كلّ السلط بقبضته، خاصّة بتعيين حكومة تأتمر بأوامره بالكامل، واجه الرئيس كل الأزمات التي عصفت بسوق المواد الأساسية المحلية بطريقتين، إما بنفي وجود الأزمة، أو باتهام أطراف لم يسمّها بافتعال هذه الأزمة، ووعيد بملاحقتهم، حتى بدا أنه يعيش داخل جمهورية منفصلة عن البلاد التي يحكمها.
تثير خطابات الرئيس قيس سعيد بعد كل أزمة يواجهها التونسيون، مثل فقدان المواد الغذائية وأنواع كثيرة من الأدوية أو عند صعوبة التزود بالوقود أو الترفيع في الأسعار، مزيجاً من السخرية والغضب والاستغراب، ليقترب الرئيس من صورة ربان يقود سفينة غير السفينة التي سطا على كل دواليب قيادتها.
يد تشعل النار ولسان يسأل عن مأتاها
بعد يوم من زيارته للمنيهلة ليلا، تزامنا مع إضراب وسائل النقل العمومي وجزء من أصحاب سيارات الأجرة، وضع الرئيس قيس سعيد رئيسة الحكومة أمامه، وتلا عليها الخطاب المعتاد، مبشرا بأن تكون أجهزة الدولة بالمرصاد لمن يخالف القانون. رئاسة الجمهورية ذكرت في بلاغها بعد ذلك الخطاب، أن لقاء سعيد مع بودن “تطرق إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وغلاء الأسعار واختفاء المواد من الأسواق، مؤكدا على ضرورة استمرارية المرافق العمومية وعلى التصدي لكل من يسعى إلى ضرب السلم الاجتماعي بكل الوسائل”، ملمّحا إلى إضراب عمال شركة نقل تونس بسبب تأخر صرف رواتبهم، متجاهلا سبب الإضراب.
في اليوم ذاته، استقبل قيس سعيّد رئيس منظمة الأعراف سمير ماجول، ليلمح إلى تورّط أطراف معارضة في “تحركات مشبوهة مع المهربين والمحتكرين لسحب السلع من الأسواق أو للترفيع في الأسعار”، رغم أن وزيرة التجارة فضيلة الرابحي كانت قد صرحت قبل شهر لإذاعة “إي أف أم” أن ارتفاع الأسعار في تونس يُعتبَر مقبولاً مقارنة بالدول الأخرى وأن نسبة التضخم في البلاد أقل من بلدان أخرى وذلك بسبب ارتفاع سعر الشحن وأسعار الصرف.
والمعلوم أيضا أن نسبة التضخم في تونس وصلت إلى نسبة 10 %وهي نسبة لم تشهدها البلاد من قبل، فأسعار المواد الغذائية ارتفعت بنسبة 15.1% هذا العام حسب أرقام نشرها المعهد الوطني للإحصاء، أما أسعار البيض فارتفعت بنسبة 43.4% وزاد سعر الزيوت الغذائية بنسبة 20.4% حسب الإحصائيات ذاتها، في ظل نمو اقتصادي بـ2.1 % ونسبة بطالة تناهز 15%.
في المقابل لم تشهد الأجور زياداتها المعتادة، تطبيقا لمنشور رئاسة الحكومة الصادر في ماي 2022 الذي نص على “ترشيد زيادة الأجور” وعدم سد الشغور في الإدارات والهياكل العمومية، وهو أحد شروط صندوق النقد الدولي من أجل تسريح قرض إلى تونس.
إزاء كل ذلك، يشيح الرئيس التونسي قيس سعيد بنظره عن الأزمة، حتى أصبح الأمر شبيها بالحديث عن دولة لا يعرف ملامحها سواه. ففي إحدى لقاءاته المتكررة مع وزيرة التجارة فضيلة الرابحي يوم 30 أوت 2022، وقبل قرابة شهر من أزمة الوقود التي عاشتها تونس بداية أكتوبر الماضي، وجه سعيد اتهاماته لجهات يعلمها هو بتأجيج الأوضاع وافتعال الأزمات قائلا: “إنّ الارتفاع غير المقبول للأسعار مقصود من قبل جهات معلومة تسعى إلى تأجيج الأوضاع بكل الوسائل، منها افتعال الأزمات في كل القطاعات”. مضيفا “لم يسلم أي قطاع من هذه الأزمات المتعاقبة والمفتعلة، فمرة أزمة في الماء وأخرى في الدواء وأخرى في المواد غذائية وفي الأدوات المدرسية”.
حالة الإنكار هذه وصلت حد التفاوض مع صندوق النقد الولي من جهة، واستهجان الاقتراض منه من جهة أخرى، ففي الوقت الذي تتفاوض تونس مع صندوق النقد الدولي بخصوص الحصول على قرض يقل سقفه عن تطلعات الحكومة، قال سعيد في خطاب خلال زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية منتصف ديسمبر الماضي إن : “الأدوية التي تقترحها دوائر النقد والمال العالمية هي ليست بالأدوية، بل هي بمثابة الكيّ بالنار أو عود ثقاب بجانب مواد شديدة الانفجار”. وهي إشارة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي وغيره. وفي الزيارة نفسها، تحدث مع وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن عما وصفه بالادعاءات والأراجيف التي “تنشرها بعض الأطراف المعلومة بغرض الإساءة إلى صورة تونس في الخارج”، وهو الّذي يدرك بأن الولايات المتحدة الأمريكية عليمة بدورها بالوضع الحقيقي في تونس.
أسوار التقارير البوليسية
لم يخرج الرئيس قيس سعيد من دائرة المعلومات الأمنية في كل أزمة تعصف بسوق المواد الغذائية والفلاحية والأدوية، فقد استنكر لدى لقائه وزير الصحة علي مرابط يوم 04 جانفي الجاري ما وصفه بـ “الأخبار الزائفة التي يروجها أجنبي” بخصوص النقص الحاصل في عدد من أصناف الأدوية، “بهدف زعزعة الأمن والاستقرار الاجتماعي” حسب بلاغ رئاسة الجمهورية، رغم أن جمعية الصيادلة كانت قد نشرت قائمة ب690 دواء مفقود في تونس، واحتمال نقص في الأدوية الجنيسة التي تعوض الأدوية الأصلية بعد إغلاق ثلاثة مخابر طبية أبوابها في تونس. سبق لسعيد أن أنكر وجود أزمة في مراكز تصفية الدم، في الوقت الذي يؤكد فيه أطباء في المستشفيات العمومية والقطاع الخاص وجود أزمة حقيقية في تلك المراكز بسبب نقص التجهيزات وفقدان أدوية حياتية لمرضى القصور الكلوي، الذين يحتاجون إلى غسيل كلى مستمر.
وتعامل قيس سعيد بالطريقة ذاتها مع أزمة فقدان الحليب، حتى أنه اقتبس استنتاجا ساخرا طرحه رواد فايسبوك بالقول “هناك بقرة تنتج حليبا كامل الدسامة وصفر دسامة، أما الأبقار التي تنتج الحليب نصف الدسم المدعم فهي مفقودة”، وذلك خلال زيارته إلى مصنع الحليب التابع لرجل الأعمال حمدي المؤدب، والتي توعد فيها المحتكرين رغم أن المؤدب توجه له بنصيحة دعم الفلاحين للخروج من الأزمة.
ومنذ قرابة العامين، تزعزعت منظومة إنتاج الحليب بسبب ارتفاع كلفة العلف، وهو ما اعترفت به وزيرة التجارة فضيلة الرابحي في تصريح إعلامي قالت فيه إن نقص الحليب يعود إلى ارتفاع كلفة الأعلاف إضافة إلى تهريب الأبقار.
وكان اتحاد الفلاحين قد نبه في ماي الماضي إلى أن ارتفاع سعر العلف يهدد الإنتاج الحيواني في تونس إضافة إلى إنتاج الألبان ومشتقاتها. الحرب الروسية الأوكرانية عمقت تلك الأزمة، حيث تستورد تونس قرابة 80% من العلف، لتلقي الحرب في أوكرانيا بظلالها أيضا على قطاع الحبوب وإنتاج الخبز في تونس في مارس الماضي.غير أن الرئيس واجه تلك الأزمة باتهام “جهات” بتأجيج الأوضاع بمختلف القطاعات سعيا لضرب السلم الاجتماعي، وهي الطريقة ذاتها التي واجه بها سعيد أزمة فقدان الوقود في أوت الماضي، حيث اتهم أطرافا بافتعال تلك الأزمة، في الوقت الذي تؤكّد فيه تقارير أنّ تونس عاجزة عن سداد ديونها لدى المزودين وعن رسوّ بواخر الوقود في البحر، في انتظار إفراغ شحنتها بعد خلاصها.
يسعى الرئيس التونسي، في أغلب اجتماعاته مع وزراء حكومة بودن، إلى استحضار أطراف لا يسميها بالتسبب في الترفيع في الأسعار أو في فقدان المواد الأساسية، حتى بدا أن وزير الداخلية توفيق شرف الدين ووزيرة العدل ليلى جفال،الحاضرَيْن في أغلب تلك الاجتماعات، أشبه بالعصا السحرية للرئيس سعيد الّتي يُسلّطها للتّغلب على تلك الأزمات. ففي 30 ديسمبر الماضي، تحدث خلال اجتماعه مع رئيسة الحكومة ووزيري الداخلية والعدل عن غلاء الأسعار وفقدان بعض المواد الأساسية و”افتعال الأزمات والمحاولات التي صارت معلومة من الجميع” حسب بلاغ رئاسة الجمهورية، داعيا إلى تطبيق القانون على الجميع.
يلاحق رئيس الجمهورية “أطرافا” لا يكشف عنها عقب كل أزمة تعيشها تونس باتهامهم بالتسبب في كل تلك الأزمات، فبعد المشاركة الضعيفة في الدور الأول للانتخابات التشريعية، استبق المشاركة الضعيفة المحتملة في الدور الثاني للانتخابات بالحديث عن توزيع أموال من قبل أطراف من أجل تحريض الناخبين على عدم المشاركة في الدور الثاني. ويبدو أنها عادة لم تستثن الهجرة غير النظامية أيضا، فقد سبق له أن وجّه الاتهام خلال زيارة تفقدية له في شارع الحبيب بورقيبة يوم 1 أوت 2021 لأطراف بدفع الأموال لأطفال من أجل الهجرة غير النظامية، أو اتهامه لمناوئين له بالوقوف وراء فاجعة مركب جرجيس وإرسالهم للأموال من الخارج لتأجيج الاحتجاجات.
يسعى مراقبون للشأن العام إلى تفسير تكتيك الرئيس في معالجة الأزمات باتهام أطراف لا يعلمها سواه، بالقول إن سعيد محاط بالتقارير البوليسية التي يبني مقارباته على أساسها والتي أبعدته عن فهم حقيقي لوضع البلاد. ولكنّ تصريحاته التي يقول فيها الشيء ونقيضه تدعو إلى التساؤل عن مدى جديّة التقارير التي تصله، مثل الظرف المسموم الّذي بسببه فقدت مستشارته السابقة نادية عكاشة الوعي إثر فتحه، والمظاهرة “المليونيّة” المساندة لقرارات قيس سعيّد والتي قالت عنها نجلاء بودن بصوت خافت “ما شاء الله”، كدليل انبهار على عدد مساندي الرئيس الّذين لم يراهم غيره، أو اتهام وزير مالية أسبق بسرقة المال العامّ ووصمه بـ”الخزندار”، وغير ذلك من الأنباء التي يذكرها الرئيس، في الوقت الّذي أصدر فيه مرسومًا يُجرّم ترويج الإشاعات والأخبار الزائفة، لتصل عقوبة مرتكبها إلى السجن مدة خمسة أعوام وخطية تصل إلى خمسين ألف دينار، مع مضاعفة العقوبة إذا تعلق الأمر بموظّف عموميّ أو شبهه.
من يحتكر الحكم ويجمع في يديه كلّ خيوط السلطة، لابد له أن يصبح عرضة للمغالطات والتناقضات والأوهام والتصوّرات الخاطئة… والإيهامات. كيف لفرد أوحد، مهما امتد مدى عبقريّته الفذّة، أن يدير وحيداً، دولة بأكملها، معتمداً على رأيه، ضارباً بعرض الحائط المؤسسات الديمقراطيّة والمنظمات الشرعيّة واجتهادات الخبراء، مصرّاً على إدارة الأزمة بأفكاره الفريدة والبلاد تقترب من عين العاصفة.
لم يتحرّر سيادته من شخصيّة الأستاذ (والأستاذ في بلادنا، كما تعلمون، هو الناطق الرسمي باسم الحقيقة المطلقة ومصدر المعرفة، والوسيط بين المعلوم والمجهول)… الاستاذ، أمام تلامذة منصتين صامتين، خاشعين كالأصنام… غير أن عدد التلاميذ الجدد تجاوز ال 12 مليون
وحين لايشير إلى معارضيه بغير الهمز واللمز متعمّداً صيغة الغموض بطمس هُويّة الفاعل النحْوي، فإنه بذلك الأسلوب، يتعمّد تضخيم الرهبة وتأكيد الهيبة : [هؤلاء… أطراف… جهات… رواد الفايسبوك]. إنه اُسلوب الخطاب السلطوي -إن لم نقل : الخطاب العسكري،- الذي يواري هُويّة المذنب لإجبار كلّ من يتلقَّى الخطاب على الشعور بالذنب. فيظنّ نفسه -ولو مؤقتاً- في صفّ المذنب مجهول الهوية، عشيرة «هؤلاء»، التي سيخشى المواطن أن ينتمي خطئاً، إليها،،
وإن أمعنَّا في خطابات الزجر التي سمعناها على مدى الشهور الماضيّة ، نجدها مبنيّة على الشكل، لا على المحتوى، هاجس المخاطِب فيها هو تحقيق معادلة /الكلّ ناقص واحد، أو الجميع ناقص أنا/ واستقطاب الأنا وتوكيدها ؛ بل تحصينها من الشك بأبراج شاهقة من اليقين وأجهزة كاسحة للانتقاد وأشعة تكشف النوايا، بينما تلك (الأنا) في جوهرها تائهة، سائحة، مثل الغيوم. أمّا الآخر (والآخر هنا تعني «الجميع») فإنه عديم الخيار. لأن وليّ الأمر المختار، الآمر الناهي، الأب الرؤوف، العطوف، الصادق، نظيف اليد والقلب واللسان، واثق مما يختار للجميع، حتى إن كان وجبة سريعة من الزقّوم.