منذ انطلاق العدوان الإسرائيلي الأخير على الأراضي الفلسطينيّة، عاد الجدل داخل البرلمان حول مشروع قانون تجريم التطبيع ومقاطعة كلّ أشكال التّعامل الاقتصادي والتجاري والثقافي مع الكيان الصّهيوني الّذي صنّفته الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة كيانا عنصريّا في قرارها عدد 3379 الصّادر في 10 نوفمبر 1975.
وقد أثيرت المسألة كذلك إثر اغتيال المهندس التونسي وعضو كتائب عزّ الدّين القسّام، محمّد الزّواري، في 15 ديسمبر 2016، وعند إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل في 6 ديسمبر 2017. وفي سنة 2015، خلال المدّة النيابية الأولى، تقدّمت كتلة الجبهة الشعبية بمقترح قانون لمناهضة كلّ أشكال التّطبيع مع الكيان الصهيوني. كما سبق وأن ناقش المجلس الوطني التأسيسي مسألة دسترة تجريم التطبيع ولكن تم التراجع عن الأمر إلى حين سنّ قانون يُفصّل المسألة ولا يكتفي فقط بالمبادئ العامّة.
دسترة تجريم التطبيع
كانت الجلسة العامّة في المجلس الوطني التّأسيسي المنعقدة بتاريخ 3 جانفي 2014 مشحونة، وذلك بعد إسقاط نواب حركة النهضة مقترح تعديل على توطئة الدستور ينصّ على “مناهضة كلّ أشكال الاحتلال والعنصرية وعلى رأسها الصهيونية”. وقد سقط هذا المقترح بـ95 صوتا مقابل 67 محتفظا و20 صوتا ضدّ. وكان أغلبية المحتفظين على هذا المقترح من كتلة حركة النّهضة، بـ57 احتفاظا مقابل 9 مع و11 عضوا ضدّ. ووفق مداولات الدستور (الصفحة 148/700)، فقد تمّ التنصيص على مناهضة التطبيع في باب المبادئ العامّة للدستور، ومن ثمّ تمّ ترحيله إلى التوطئة، وفي كلّ مرّة يتمّ التخلّي عن هذا المقترح. ولدى اجتماعها بتاريخ 27 مارس 2012، تداولت لجنــة التوطـئة والمبادئ الأساسيـة وتعـديـل الدستــور مسألة تضمين مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني بتوطئة الدستور. وقد عبّر النوّاب حينها عن ثلاثة مواقف متباينة وفق ما ورد بمحضر الجلسة:
حيث اعتبر البعض أنّه بالإمكان الاكتفاء بالتعبير عن نصرة القضية الفلسطينية دون التعرّض إلى تجريم التطبيع، إذ من شأن التنصيص الصريح على تجريم التطبيع أن يؤثر على الجانب الاقتصادي وأن يمثل عائقا جدّيا أمام تدفق الاستثمارات الخارجية على السوق التونسية. وذهب رأي آخر إلى أنه من الأفضل ـ إذا كان تنظيم هذه المسألة قانونيا أمرا ضروريا ـ أن يكون ذلك بمقتضى نص تشريعي (المجلة الجنائية) وليس صلب الدستور، وذلك لما تقتضيه معالجة هذا الأمر من دقة وتوضيح وتفصيل لشروطه ومحتواه (تحديد الممارسات أو الآراء أو المعاملات التي تعتبر من قبيل التطبيع) وآثاره (العقوبات المحتملة لمرتكب جريمة التطبيع). بينما اقترح رأي آخر إلى ضرورة التنصيص على تجريم التطبيع بوصفه مبدأ دستوريا، والتعرّض إليه بالتفصيل بمقتضى نص تشريعي (قانون).
مقترح الجبهة الشعبية: محاولة لرفع الحرج
خلال المدّة النيابيّة الأولى (2014-2019)، تقدّم عدد من نوّاب كتلة الجبهة الشعبية بمبادرة تشريعيّة تتعلّق بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني. وترتكز هذه المبادرة على ما ينصّ عليه دستور 2014 من انتصار لحركات التحرّر العادلة ومناهضة أشكال الاحتلال والعنصريّة، وبناء على قرار الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة رقم 3379 الّذي يعتبر الصهيونيّة حركة عنصريّة. وقد ذكر النائب أحمد الصدّيق عن كتلة الجبهة الشعبية خلال جلسة استماع نظّمتها لجنة الحقوق والحريّات والعلاقات الخارجيّة حول مقترح هذا القانون بتاريخ 12 جانفي 2018 أنّ:
الكيان الصهيوني كيان مجرم وعنصري يخرق المواثيق والمعاهدات الدولية استنادا إلى قرار اﻷمم المتحدة القاضي بأن دولة إسرائيل دولة عنصرية، إلى جانب قرار محكمة الجنايات بروما التي تعتبر أنّ التهجير القسري والاعتداء على المدنيين العزل وتحطيم البيوت والإغارة دون الفرز بين مُسلّح وأعزل تعد جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو ما ينطبق على الكيان الصهيوني.
وأضاف: “وفق القانون الدولي، إذا اتفقت مجموعة على ارتكاب مجموعة أخرى ﻷفعال شنيعة وجب تجريم هذه المجموعة التي تمارس العنف، وهو ما يجب السعي إليه بخصوص الكيان الصهيوني”.
وتُجرّم هذه المبادرة كلّ عمليات الاتجار والتعاقد والتعاون والمبادلات والتحويلات بكل أنواعها التجارية والصناعية والحرفية والمهنية والمالية والخدمية والثقافية والعلمية مع أيّ هيكل تربطه علاقة من قريب أو من بعيد بالمؤسسات الحكومية أو غير الحكومية العمومية والخاصة التابعة لدولة إسرائيل. كما يُعدّ مطبّعا على معنى هذه المبادرة كلّ من يشارك في التظاهرات والملتقيات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية والفنية والرياضية الّتي تُقام في الأراضي التي تحتلّها وتتحكّم فيها دولة إسرائيل سواءً داخلها أو خارجها.
ونظّمت لجنة الحقوق والحريّات والعلاقات الخارجيّة ثلاث جلسات لمناقشة هذه المبادرة التشريعية، خًصّصت إحداها للاستماع إلى رئاسة الجمهوريّة. ولكنّ ممثّل رئاسة الجمهورية تغيّب عن الجلسة، ممّا أدخل إرباكا في روزنامة عمل اللّجنة ودفع إلى التساؤل حول تحفّظ رئاسة الجمهورية عن مناقشة هذا المقترح وحول مآل هذه المبادرة التي لم تتجاوز حدّ التّعبير عن النّوايا والتي “تمّ إسقاطها بالتقادم في إطار التوافق المغشوش بين النّهضة والنّداء”، وفق تصريح محمّد عمّار رئيس الكتلة الديمقراطية لـ”نواة”.
مصير مقترح الكتلة الديمقراطية ؟
وفي مرحلة لاحقة أودعت الكتلة الديمقراطيّة بتاريخ 15 ديسمبر 2020 مقترح قانون يتعلّق بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني لا يختلف كثيرا عن مقترح الجبهة الشعبية.، حيث يُجرّم نفس الأفعال التي جرّمتها المبادرة السابقة.
“لا مجال للتطبيع الاقتصادي أو التجاري أو الرياضي أو غيره، وموقف تونس مهمّ إزاء مسألة التطبيع ونحن نخاف ضغوط صندوق النّقد الدولي والجهات المانحة التي ربّما تقايض تونس بهذا القانون”، يتحدّث رئيس الكتلة الديمقراطية لـ”نواة”، الّذي اعتبر أنّ الهدف الأسمى من هذه المبادرة التشريعيّة هو قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس.
أمّا على المدى القصير يقترح النّائب إمكانيّة الدّخول إلى الأراضي الفلسطينيّة عبر مصر دون الحاجة إلى تصريح بالدّخول من السلطات الإسرائيليّة. وقد قدّم أعضاء الكتلة طلبا لاستعجال نظر في هذه المبادرة التشريعيّة الّتي كانت محلّ إجماع عديد الكتل، حيث عبّر رئيس كتلة حركة النهضة السابق نور الدّين البحيري عن “استعداد الكتلة لنقاش أيّ مبادرة بما يستجيب وينسجم مع الموقف المبدئي الرافض للتّطبيع”. كما أكّد مصطفى بن أحمد رئيس كتلة “تحيا تونس” لـ”نواة” أنّ كتلته تساند طلب استعجال النّظر في مبادرة الكتلة الديمقراطية، ويقول: “موقفنا ثابت ومبدئي ضدّ التطبيع ولا مجال لنقاش هذا الأمر”.
يبقى الجدل حول مشروع قانون تجريم التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي داخل مجلس نواب الشعب مفتوحا بين من يرى في اعتماده داخل المنظومة التشريعية خطوة غير واقعية يمكن أن تتسبب بمتاعب كبيرة لبلادنا، وبين من يرى في تمرير هذا القانون مسألة مبدئية غير قابلة للمساومة. وبين هذا وذلك تسكن الحسابات السياسية والمناورات الحزبية في زوايا مواقف مختلف الأطراف من هذه القضية.
iThere are no comments
Add yours