قبل الغوص والخوض في مضمون المبادرة وما تحتويه من اقتراحات وأفكار لمعالجة واقع الحال في المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بما في ذلك إصلاحات قد تطال الدستور نفسه ونظام الحكم والنظام الانتخابي، يتوجب علينا تسليط الضوء على الواقع الراهن الذي تمر به بلادنا والبحث في ما إذا هو في حاجة إلى حوار وطني شبيه بما حصل في سنة 2013 لإنقاذ البلاد من زلزال قد يعصف بما تبقى من معالم الثورة، أم هي مجرد شطحة دونكيشوتية غير محسوبة العواقب لن يغنم منها سوى الفاسدون وأعداء الثورة من بقايا النهضة وأحلافهم.
السلطة وتناقضاتها
يشق السلطة في راهن الحال تناقض رئيسي بين رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان حول بسط النفوذ الكامل على مفاصل الدولة وتوظيف سلطات الحكومة وبقية المؤسسات لتحقيق ذلك من خلال تحالفات الترويكا الجديدة (النهضة، قلب تونس، ائتلاف الكرامة) وجماعة حكومة الرئيس (سعيد، التيار والشعب). تدور حول هذا القطب أو ذاك كتل برلمانية، وأحزاب سياسية، وشخصيات ولوبيات مالية وإعلامية تعمل جاهدة لحماية مصالحها وضمان استمراريتها في المشهد السياسي.
مقابل انسجام الترويكا الجديدة كتركيبة سياسية تعبر عنها كتل برلمانية استطاعت إلى حد الآن ضمان تربع راشد الغنوشي على رئاسة البرلمان، والاحتماء بظل النهضة رغم فشلها السابق في تشكيل حكومة الحزب الأول الفائز في الانتخابات، فإن القطب الرئاسي حول “سعيد” خسر على التوالي معركتين: الأولى سقوط حكومة الفخفاخ بفضيحة سياسية والثانية التفريط في حكومة المشيشي بسذاجة لفائدة الترويكا.
إضافة إلى كل ذلك لا يمكن إخفاء التناقض السياسي الاستراتيجي الذي يضع من ناحية رئيس الجمهورية في جهة ترفض قطعيا النظام السياسي القائم على التمثيلية الحزبية ضمن النظام البرلماني والإصرار على استبدالها بنظام مجالسي مما يجعل علاقته بالطيف السياسي الذي يتحالف معه الآن كالتيار والشعب هشة قابلة للانفجار في كل لحظة.
فمن مصلحة سعيد تعميق الأزمة السياسية إلى أبعد حد ممكن، وإظهار فشل المنظومة برمتها وتغذية النقمة الشعبية على مكوناتها وتحريضها، وذلك بهدف تحقيق أهدافه الاستراتيجية. وهو ما يعبر عنه في كل خطاباته، بالتأكيد على رفض هذه المنظومة وإدانتها والمطالبة بتغييرها، تحت شعار “الشعب يريد”. منظومة الحكم التي أفرزتها انتخابات 2019 لم تصمد أكثر من سنة لتنفجر تناقضاتها وينكشف فشلها على جميع الأصعدة، وذلك لافتقار مكوناتها السياسية لمشاريع تبعث على الأمل لدى الفئات الشعبية الفقيرة التي زاد وباء كورونا في تعميق أزمتها على جميع الأصعدة، وجعل منها كتلة مقهورة مستهدفة تعبر عن ذاتها وتطلعاتها عبر تحركات واحتجاجات كثيرا ما تقابل بالقمع والترهيب. ورغم ذلك هي بصدد التشكل في كتلة تاريخية مختزلة أبعادها الطبقية والجهوية في تعبيراتها السياسية الشبابية رغم ما يشقها من خلافات وصراعات.
اليوم ليس الأمس
إن المشهد اليوم لا يشبه بأي حال الوضع الذي استوجب حوارا وطنيا سنة 2013 لا من حيث الشرعية الانتخابية ومدى مشروعيتها ولا من حيث التعبئة والتجييش الشعبي على إثر الاغتيالات السياسية ولا فيما يخص الحسم في فصول الدستور وفي النظام السياسي والنظام الانتخابي. كما أن ما يحدث اليوم ليس مجرد خلافات سياسية تقديرية يمكن تجاوزها بالحوار والتفاوض على الطريقة النقابية. فالمسألة تتجاوز ذلك بكثير إلى درجة النفي والاجتثاث، كما أن التناقض بين المكونات السياسية يستهدف أدوات الحوار نفسه من كتل برلمانية وأحزاب سياسية وقوانين دستورية.
ولو سلمنا بصحة ما ينسب لماركس من “أن التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة ومرة على شكل مهزلة”. فأي تصنيف نمنحه للحوار في مثل هذه الأوضاع؟ هل هو المأساة أم المهزلة؟
خلفيات مبادرة اتحاد الشغل
مهما كان الموقف من مبادرة الأمين العام للاتحاد ومنزلتها في تاريخ تونس الحديث وما سيكون لها من أثر على الواقع السياسي الراهن، فهي حمالة مآرب عدة لهذا الطرف أو ذاك خاصة بعد أن صرح قيس سعيد بتبنيها مع تبديل معالمها.
الأمين العام صاحب المبادرة لم يخف منذ 2019 ميلا صريحا للرئيس سعيد، فتقرَب منه واتخذه ظلا يستقوي به على خصومه السياسيين ويستجير به كلما غمس أصابعه في جمرة السياسة، وقد بادله سعيد نفس الاستجارة وجعل منه ومن الاتحاد كتلته البرلمانية وورقة الضغط التي يلجأ إليها كلما ضيقوا عليه السبل، يستشيره في الكبيرة قبل الصغيرة في السرَ والعلن.
ولا غرابة أن تكون المبادرة طبخت على نار هادئة لتستوعب المبادرات التي سبق وتقدمت بها بعض الشخصيات والمنظمات والكتل البرلمانية (محسن مرزوق، التيار، عمادة المحامين إلخ…) فقد التقى الطبوبي قبل تلخيص مبادرته مع العديد من الشخصيات والمنظمات والأحزاب قبل تقديمها. وما إصراره وتمسكه بها إلا لأنها تضمن صمت الأطراف القابلة بها والمشاركة فيها على ما يجري الآن من تجريد وتصفية للخصوم النقابيين والإعداد لعقد المؤتمر الاستثنائي غير الانتخابي لاتحاد الشغل لمراجعة النظام الداخلي والقانون الأساسي بما يضمن بقاء القيادة الحالية على رأس الاتحاد، كل ذلك تحت مسوغات استهداف المنظمة وحماية الوطن.
أما وقد أعلن سعيد عن تبني المبادرة مع تعديلها، فهل سيتخلى الاتحاد وأساسا أمينه العام على التعبئة للإضرابات الجهوية المقررة لشهر جانفي ( صفاقس، قفصة، توزر، القصرين) والتي كانت الغاية منها افتكاك المبادرة من التنسيقيات الجهوية والمحلية والضغط على حكومة المشيشي وإجبارها على التفاوض مع الاتحاد دون غيره؟ وهل ستتنازل هياكل الاتحاد الجهوية وجامعاته المهنية لفائدة تمثيلية شباب سعيد في إدارة الحوار الوطني؟
البدائل خارج إطار السلطة
في ظل كل هذه التعقيدات وما يرافقها من قفزات دونكيشوتيه، تتشكل الكتلة التاريخية في هدوء، بعيدا عن أطراف السلطة الحالية، في المؤسسات والساحات والشوارع والكليات والمعاهد وتتمرس على تلقي الضربات لتعود كل مرة ومن جديد منتصرة لقضايا الفقراء والعمال والشباب في الجهات، في المدن والأرياف. وسواء فشلت أو نجحت مبادرة الأمين العام ورئيس الجمهورية فهي لا تعدو أن تكون جرعة إضافية تستفيد منها لوبيات الفساد المالي والسياسي، غير أنها لن تكون البديل لإنقاذ البلاد من أزمتها الخانقة وفتح نافذة الأمل لأبنائها وشبابها لاعتناق الحرية.
مهما ضيعت الحركة النقابية الخطى، فإن تموقعها الطبيعي ضمن الخط المقاوم لمشاريع رأسمال الجشع وتعبيراته الليبرالية والدينية القديمة والمتجددة ثابت لا جدال فيه، وجانفي المجيد من أبلغ الشواهد على ذلك. بل إن دورها الطلائعي في تصدر النضال الطبقي والوطني ودورها الحاسم في تشكل القوة التاريخية المنحازة إلى الطبقات الشعبية والتحرر الوطني محدد في إعادة قطار الثورة إلى سكته ونحت معالم مستقبل مشرق لهذا الوطن.
iThere are no comments
Add yours