تم فرش سجاد أحمر طويل أدى إلى مدخل خيمة واسعة تشبه خيمة الأعراس، كان كل شيء مبهجا في ذلك الجناح، إلا أن أحد المسؤولين في السجن قد أبى إلا أن ينغص تلك البهجة بمنع الصحفيين من الحديث مع جمع من العائلات الواقفة في الشق الآخر والمستاءة من إضراب القضاة. إحداهن تحدثت خلسة عن إضراب القضاة الذي تسبب في تأجيل محاكمة ابنها الموقوف شهرا كاملا مما اضطر مركز الإيقاف إلى إرساله لسجن برج العامري بعد أن طالت مدة إيقافه وتأجلت جلسته أكثر من مرة. لم تبال تلك العائلات بالعرض داخل السجن، فالأهم بالنسبة إليها إما إيصال القفة، أو شطب يوم جديد من أيام السجن.

قبل أيام، كتب صحفي تونسي معروف، يشتغل في إحدى القنوات العربية الكبيرة، تدوينة على حائطه “المساجين يروعون الناس ويسلبون الأشخاص ثم يدخلون السجن لترفه عنهم الدولة وتعرض لهم أفلاما”، كان يقصد الأفلام التي تعرض في السجون خلال أيام قرطاج السينمائية، وهي عادة بدأت في 2015. كان من الجلي أن الصحفي المعني لم يطلع على الفصل 30 من الدستور الذي ينص على أن الدولة تعمل “على إعادة تأهيل السجين وإدماجه في المجتمع”، أو ربما هو غير مقتنع بهذا النص الدستوري كليا. حذف الصحفي تدوينته، لكن على فداحتها، كانت زلة لسان صادقة باحت بما خفي من مواقف رجعية تسكن صدور بعض المثقفين والمسؤولين.

غير بعيد عن مدخل السجن الرئيسي، نُصبت خيمة عملاقة خصصت مقاعد لتسعين سجينا في آخر الخيمة، هم الأكثر حظا من قرابة ألفي سجين المودعين في سجن برج العامري، بعد أن مكنتهم إدارة السجن من حضور عرض فيلم فتوى للمخرج التونسي محمود بن محمود، بشرط توفر حسن السيرة والسلوك. قبل العرض أشارت مسؤولة بالسجن بصرامة إلى المسجونين بالصمت وعدم إصدار تعاليق خلال عرض الفيلم. دام الفيلم ساعة وأربعين دقيقة مرت الدقائق ببطء شديد، كان الفيلم ثقيلا مليئا بالكليشيهات التي يلوكها الجميع أينما وليت وجهك، الفيلم حائز على التانيت الذهبي لدورة العام الماضي لأيام قرطاج السنيمائية، وحصد جوائز في سويسرا وبوروندي وزنجبار، لكنه فيلم ممل إلى حد الإزعاج، محشو  بالمحاضرات السطحية عن الالتزام والحرية والتطرف والمشاهد المليئة بالبرود. لا يمكنه أن يبهر المساجين الذين يعيشون التفاصيل أكثر منا. هو ليس حكما مسبقا، لكن السجين صاحب الجاكيت الأحمر قال لـ”نواة” بكل عفوية “السجين يختلف عن المدني، فهو يقضي يومه مدققا في التفاصيل، أقضي عقوبة مدتها أحد عشر عاما وتعلّمت أن أقضي يومي مركزا على التفاصيل وذلك قادني إلى اكتشاف السينما والوقوع في حب الأفلام”.

لا توجد تفاصيل في فيلم “فتوى” تضحك جمهور المساجين مثل كلمة “ميحاض” المكتوبة على جدار حانة، أو عبارة  “صحيت يا بصاص” أو “ما تبداش تتق… عليا”. في قاعات السينما خارج السجن أيضا يمكن أن تسمع قهقهات الجمهور ردا  على كلمات “فاحشة”. جمهور المساجين هو جمهور عادي، فلماذا يصر المسؤولون والممثلون الضيوف والمختصون إذا على إلقاء خطب لا يملك ذلك الجمهور سوى أن يشيح دونها بوجهه إلى سقف الخيمة. ألقى الممثل جمال المداني، وهو أحد شخصيات فيلم فتوى، والذي يبدو أن له شعبية لا بأس بها لدى المودعين في سجن برج العامري بسبب نوع من خفة الدم التي يتسم بها، خطبة كارثية، أراد تفسير موقف المخرج من الإسلام وأنه لا يهاجم الدين. قال المداني حرفيا “تطبيق الشريعة ليس سهلا,, يمكن أن يكون تطبيق الشريعة صحيحا لكن ليس الآن. كيف ولماذا ومتى نصل إلى تطبيق الشريعة هي كلها أسئلة تطرح… نحن نعلم أن الإرهاب هو صناعة استخباراتية، والأكيد أنكم تعرفون أن تنظيم القاعدة هو صناعة أمريكية ليحاربوا السوفييت”. تلك الجملة هي استخفاف كبير بجمهوره، آراء تعاليق بعض المساجين كانت مفاجئة له وربما محرجة. فصاحب الجاكيت الأحمر قال “الفيلم بطيء جدا في أحداثه. كان يمكن للمخرج أن يبرز صورة ناصعة كأن يقدم بالتوازي مع قصة مروان قصة أخرى معكوسة لشخص متطرف تمكن من الرجوع إلى حياته الطبيعية”. السجناء يحتاجون إلى جرعة من الأمل، هذا ما كشفته التعاليق خلال النقاش. صاحب الجاكيت الأصفر علق بشيء من الاستغراب “رغم أن الفيلم أعجبني من ناحية الصورة والسيناريو إلا أنني استغربت نهاية البطل الذي انتصر عليه الإرهابي. مالذي أراد المخرج أن يقوله؟ ما فهمته هو أن نهاية الفيلم هي رسالة تخويف بأن الإرهاب سينتصر وبأنه يجب الاستكانة إلى ما يطلبونه”. أيده جزء من الجمهور وقال أحدهم “نحتاج إلى صورة إيجابية ونهاية تحمل رسالة جيدة وهي أننا سننتصر على الإرهاب وليس العكس”.

لا يمكن أن يكون جمهور السجناء مختلفا، ولا يستحق تلك المعاملة السطحية. كيف يمكن الحكم على سجين سأل ممثلا مارس هامشا من الوصاية وقال إن الإرهاب صنيعة الاستخبارات، بالقول “لماذا لم يقدم المخرج، كي تكون قصته متكاملة، فاعلا رئيسا في انتشار التطرف وهو الدولة التي تسببت بغيابها في ترعرع الإرهاب، نحن عشنا كل تفاصيل الإرهاب في واقعنا ونعلم أن الدولة كانت غائبة وبالتالي مسؤولة عن انتشار الإرهاب”، هو بالطبع سؤال ذكي لكن لم يجب عليه لا جمال المداني ولا زميلته ولا الأخصائية النفسية.

الإيماءات المنبهرة من الشق “المدني” بتعاليق المساجين خلال أقل من عشرين دقيقة من النقاش، كانت أكثر التعابير المثيرة للحنق، ونظرات إعجاب من مسؤولي السجن الحريصين على انتقاء من سيقدم إجابات للصحفيين، بدورها إشارة عكسية إلى أن إنجازا كبيرا قد حدث داخل القاعة. جميعنا، بما في ذلك الممثل جمال المداني ومسؤولي السجن وممثلي أيام قرطاج السينمائية، شاهدنا نظرات اللامبالاة تجاه التفسير الثقيل للأخصائية النفسية ضيفة العرض، وهي تتحدث عن كيفية الاستقطاب الذي يقوم به الإرهابيون.

الجميع أدرك أن المساجين أيضا لهم ملكة التمييز بين العفوي والمتصنع، وأن حماسهم سيكون كبيرا أمام شاشة العرض، وأنهم سيتذوقون ما تجود به عليهم الشاشة الفضية من إبداع  ورسائل، حتى وإن عرضت عليهم أفلام للمخرجين “جوسيبي تورناتوري” أو “فيديريكو فليني”.