المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
صورة لكالوم فرنسيس هوغ

الأحداث الأخيرة في فرنسا أعادت الموضوع إلى دائرة الضّوء، وتصريحات الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن النزعة المنبتة للإسلام السياسي العنيف، وما تبعها من عمليَّات ارهابيّة، تدفع للتأمّل حول هشاشة البنية الإيمانية لطيف واسع من المُسلمِين. إذن، فالإشكاليّة تتمثّل أساساً في تمثّل مفهوم الحريّة في علاقته بالمحيط المجتمعيّ وبالنصّ الديني. فقد ظلَّ حبيس الاستعمال التقليديّ الذي يؤدّي إلى الانصياع إلى الأهواء الميتافيزيقيّة.[1]

يبدو السُّؤال ملحّا أكثر من أيّ وقت مضى حول مدى امتداد هذه الأهواء الميتافيزيقيّة واستتباعاتها على المستوى الفردي والجماعي. فضمن الزّخم الفكريّ في الموروث العربي الإسلامي، غُيِّبَتْ التيّارات الفكريّة التي اعتمدت قراءات مختلفة عن السائد. فالمعتزلة ومنهجهم في تأويل النصوص الدينيّة ظلّت على مرّ العصور، أقليّة لا يسمَعُ لها صوت. وما يحدث اليوم في جلّ أنحاء العالم من عمليّات إرهابية، بعيدا عن القراءات التي ترجّح الضلوع الاستخباراتي والصراعات الاستراتيجيّة، يجد تفسيرا له في مجموعة من المراجع الدِينيّة[2] التي ترتكز بدورها على السنّة والقرآن. هذا الأخير باعتباره النّص المؤسّس للدّيانة الاسلاميّة، لكن القراءات تخلف باختلاف الأهواء والظّروف. من المذاهب الأربعة إلى الفرق الكلاميّة وصولا إلى المحاولات الفرديّة لتجديد الخطاب الديني، تبدو الفوارق شاسعة والتأويلات متعدّدة حدّ التناقض في أغلب الأحيانِ. وهو ما يشرّع للسّؤال: أيّ التأويلات أقرب للحقيقة؟

والحقيقة أنّ اشكاليّة التأويل هي أمر جوهريّ، ذلك أنّ الخطاب المتطرّف يحاول أنْ يجد أرضيّة تبريريّة للعمليّات الارهابيّة استناداً على محو صيرورة التّاريخ، إذ أنّ آليّات اشتغاله قائمة على عصور غابرة مع قطيعة تامّة مع ما يحصل من متغيّرات في الحاضر. وتتعمّق الأزمة مع الإصرار على إنكار تاريخيّة النّص وغياب القراءة التأويليّة  للآيات  في سياقاتها التاريخيّة.[3]

الهوّة بين عالم متخَيَّل منشود قوامه تعاليم قروسطيّة مستمدّة من الآيات القرآنيّة تقرأ قراءة  حرفيّة، وعالم موجود على أرض الواقع فيه من التعقيدات ما يتعارض مع المثل الاسلاميّة، وهو ما يعيد للأذهان مقوّمات صراع الحضارات[4] الذي يترجم بحالة اغتراب يعيشها الفرد المسلم في مجتمعات غربيّة. وهو نتيجة لمجموعة من التناقضات بين الديني واللاّديني الذي يؤدّي إلى التّعامُل مع الآخرين وفق نظام ثنائي يتمثّل في اعتبار الآخر كعدوّ أو حليف. هذا إضافة إلى تقييم كلّ المسائل التي تعترض طريقه في ميزان الحلال والحرام. وهو ما يخلق نوعاً من الهشاشة الدّينيّة التي تكون عادة سمة شخصيّة مأزومة وفي قطيعة تامّة مع واقعها.

إذن، فحالة الانفصام التي تعيشها المجتمعات العربيّة[5] تصدَّر إلى المسلمين في البلدان الغربيّة لتصبح اشكاليّة جوهريّة تهدّد الأمن القومي لتلك البلدان. وهو ما أثار النقاش، تزامنا مع كلّ عمليّة ارهابيّة، حول الإسلام التنويري الذي يتماشى مع قيم الجمهوريّة في فرنسا[6]. لكن مثل هذا الطرح الطوباوي يتعارض مع الخطاب المتطرّف الذي يمثّل الحاضنة الأساسيّة للأعمال الارهابيّة، إذ يكشف عن أزمة هويّة تدفع بالفرد إلى أقصاه في ظلّ مجموعة من التناقضات التي يعيشها يوميّا تجعله يعتنق أيديولوجيا عدميّة  يتوهّم أنّها تنصر الإسلام ولو رمزيّاً[7]. من الضروريّ تسليط الضّوء على التمشّي التأويلي الذي يتبّعه الخطاب المتطرّف في هذه الحالات والذي يبنى على طريقة تمثّله للعالم حسب منظومة فكريّة تتقاطع فيها ثلاثة عناصر أساسيّة هي: المقدّس (النّص القرآني أساساً)، الحريّة والصّورة.

المقدّس: إنّ ما يميّز ما يسمّى بالإسلام المعتدل عن الإسلام الثائر الذي يتبنّى العنف هو طريقة التعامل مع النّص القرآني. ففي حين يعتبر الأوّل مجموعة الآيات التي تدعو إلى العنف معطّلة وهي للتعبّد فقط بما أنّ الإسلام ارتبط ارتباطا محكما بالاجتهاد[8]، يتبنى الخطاب المتطرّف القراءة الحرفيّة للنّص الديني، وهو بذلك يرفعه كمنهاج للعمل بعيدا عن أيّ إعمال للعقل أو محاولة لتنزيل النص في سياقاته التاريخيّة. وهو ما يسهّل توفّر الحجّة الدينيّة لتبرير الأعمال الإرهابية وفرض نمط عيش معيّن يعود إلى قرون مضت تُرسَمُ من خلاله ضوابط الحريّة.

الحريّة: الحريّة هنا، تأخذ بعدا خاصّا يتماشى مع المنظومة الفكريّة المتطرّفة. أي أنّ حريّة الإبداع مثلا مسموح مع شروط معيّنة. انّه ضرب من القيد الخفيّ وفرض لمجموعة من القوانين التي وضعت بأهواء فرديّة وقراءات تأويليّة خاصّة. لذلك، نلاحظ اضطراباً للفرد الذي يتبنّى هذه الأيديولوجيا. وحالة الاغتراب هذه تجعله يقرأ ممارسة الآخر للحريّة على أنّها جريمة تستوجب عقوبة. ولعل من أهمّ الأمثلة التي يمكن أن توضح استتباعات هذا التضارب، هو ما حصل للطاهر الحدّاد ونصر أبو زيد ونجيب محفوظ وفرج فودة. كلّها أسماء كان لها تمثّل للحريّة يتضارب مع الخطاب المتطرّف وانتهى الأمر بالاغتيال، النّبذ أو محاولة القتل بسبب الاجتهاد في النصوص الدينيّة أو تقديم عمل إبداعي.

الصّورة: مسألة العمل الإبداعي وحدود حريّة التعبير بقيت معضلة في التصورات الإسلامية. فالخطاب المنتج حول الصور الكاريكاتوريّة لمجلّة شارلي هيبدو الفرنسيّة يمثّل مرآة تعكس منظومة فكريّة متناقضة ويعرّي هشاشة البنية الإيمانية التي تحدّثنا عنها سابقاً. مع الحق في السخرية من المعتقدات الدينيّة في بلدان مثل فرنسا، يجد المسلم نفسه أمام مأزق التوفيقيّة مرّة أخرى ويحاول رتق تلك الهوّة التي يحدثها تصوّره للحريّة والإبداع مع مراعاة معتقداته. هذا التمزّق هو الذي يؤدّي إلى انفلات الأفراد من المناهضين لحريّة التعبير ليعبّروا عن رفضهم بأعنف الوسائل. إنها الحالة التاريخيّة التي تبيّن السيرورة التاريخيّة للصورة بين تبنّ وانتفاء، بين مصاحبة ومحاربة، فيعود الصراع المذهبي بين الأيقونوفيليين والأيقونوكلستيين، أي بين محبّي الصورة وعشّاقها ورافضيها[9]. وهو صراع تأتي خطورته حاليّا لا في تمظهراته العنيفة فقط والتي تؤدي لموت الآخر المختلف عن هذه المنظومة الفكريّة، بل إن خطورته تكمن أيضا في استغلال العديد من الأنظمة السياسيّة، كتركيا مثلا، هشاشة البنية الايمانيّة لجزء من المسلمين ومحاولة توظيفها في صراعات جيوستراتيجيّة، وهو ما يزيد من خطورة الموقف ومن حدّة العنف على المستوى الفردي، ولعل أبرز تمظهراته ما يعرف بالذئاب المنفردَة التِي تعتبر نفسها حامية للدّين ومدافعة عنه وهي في الحقيقة مجرّد دمى تحرّكها أياد خفيّة.

إنّ الأعمال الإرهابية الأخيرة في فرنسا، على اختلافها، تجعلنا أمام واقع مأزوم تختلط فيه العدميّة الدينيّة (على المستوى الفردي) بالتكتيكات السياسيّة التي تعصف بكل محاولة لبناء العيش المشترك.

المراجع:

[1] عبد الله العروي، مفهوم الحريّة، الطّبعة الخامسة، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1993)، ص20.

[2] يعتبر الكثيرون أنّ أغلبيّة الأفراد الذين يقومون بأعمال إرهابيّة ضحايا شبكات منظّمة وصراعات جيوستراتيجيّة، وهذا فيه جانب من الصحّة ولكن لا يمكن أن ننكر انّ الجماعات الارهابيّة لها مرجعياتها وأدبياتها (كتاب: وقفات مع ثمرات الجهاد لأبو محمّد عاصم المقدسي، منبر التوحيد والجهاد)

[3] نصر حامد أبوزيد، نقد الخطاب الديني، الطّبعة الرابعة، القاهرة، مدبولي، 2008.

[4] صراع الحضارات هو مفهوم مستمدّ من كتاب يحمل نفس العنوان للكاتب الأميركي صامريل هنتغتون، 1994.

[5] لويس عوض، الحريّة ونقد الحريّة، (القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2014)، ص 21.

[6] اسلام الأنوار هو مصطلح يظهر في كتابات مفكّرين وفلاسفة في فرنسا مثل: عبد النّور بيدار، غالب بن شيخ ومالك بن زين.

[7] ثمّة معركة سميولوجيّة تمّ الاستحواذ بموجبها على أغلب الرموز الدينيّة. عبارة “الله أكبر” مثلا تحوّلت، في القنوات الأجنبيّة وفي بعض الخطابات الرسميّة التي توصّف الأعمال الارهابيّة، إلى رمز أو دليل على الطابع الإرهابي للعمليّة (يمكن مراجعة التصريحات الرسميّة والعناوين الاخباريّة مباشرة بعد العمليّة الارهابيّة الأخيرة في مدينة نيس)

[8] نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف (قراءة في خطاب المرأة)، المركز الثقافي العربي، ص6.

[9] محمّد شوقي الزّين، راسة بعنوان “صنم الحقيقة ورمز المقدّس”، مؤمنون بلا حدود (2015)، ص 4.