لا تقتصر المسألة البيئيّة على مقاومة التلوّث الصّناعي والانبعاثات الغازيّة فقط، بل تشمل كذلك إعادة النّظر في المنظومة الاقتصاديّة من خلال تطوير الإنتاج دون استنزاف الموارد الطبيعيّة والإفراط في استغلال المياه وتقليص مساحات الغابات والأراضي الرّطبة. ومن خلال قراءة تقرير مؤسّسة هاينريش بول الألمانيّة المختصّة في السياسات المناخيّة نجد أن المسألة البيئيّة حاضرة بشكل محتشم جدًّا في البرامج والحملات الانتخابيّة للأحزاب السياسيّة الّتي تحصّلت على مقاعد داخل البرلمان. إذ لا يكاد يتجاوز حضورها بعض الأسطر فقط في غياب واضح لتصوّرات، على المدى المتوسّط، والبعيد للمناخ والتحكّم في الطاقة وتكريس برنامج سياسي أخضر .ويتمثّل هذا البرنامج في إدماج بُعد التنمية المُستدامة في التنسيق بين مختلف القطاعات، حتى تكون قضيّة البيئة قضيّة أفقيّة تنصهر مع مختلف البرامج القطاعيّة.
“السياسة الخضراء”: سرديّات انتخابيّة
يقوم البرنامج السياسي الأخضر على سبع نقاط هي على التوالي: العدالة الاجتماعية، العدالة البيئيّة، الاقتصاد المستدام، الموروث الثقافي، الأمن الشامل والحوكمة الرشيدة للموارد الطبيعيّة. وبناءً على التقرير الّذي أعدّته المؤسسّة الألمانيّة هاينريش بول فإنّ مختلف القائمات الحزبيّة والمستقلّة الّتي تحصّلت على مقاعد في الانتخابات التشريعيّة قد تطرّقت ضمن برامجها الانتخابيّة إلى المسألة البيئيّة. فنجد على سبيل المثال 3 قائمات حزبيّة فقط من أصل 14 عبّرت عن موقفها صراحة إزاء استخراج الغاز الصّخري، وهي على التوالي التيار الديمقراطي والبديل التونسي وحركة النهضة. فيما لم تتطرّق بقيّة القائمات إلى هذا الموضوع. وبخصوص اعتماد تحلية مياه البحر كطريقة بديلة لتوفير المياه الصالحة للشّرب تطرّقت 5 قائمات فقط إلى هذا الموضوع في برنامجها الانتخابي. وتطرّقت 9 قائمات إلى التغيّرات المناخيّة و12 قائمة عن التحكّم في النفايات. والمُلاحظ من خلال ما رصده التقرير أنّ هناك تقاطعات بين مختلف الأحزاب والقائمات المستقلّة في كل ما له علاقة بالبيئة والمناخ. إذ نجد على سبيل المثال أنّ التيار الديمقراطي وقلب تونس يتبنّيان نفس المواقف بخصوص طرق معالجة التلوّث البيئي، حيث تطرّق التيار في برنامجه الانتخابي إلى حماية الشريط الساحلي من التلوّث واحترام فترة الراحة البيولوجية فيما يخصّ الصيد البحري، إلى جانب الحديث عن مقاومة التصحّر والانجراف. فيما تحدّث قلب تونس في برنامجه الانتخابي عن حماية الشريط الساحلي وعن ضرورة إيقاف الإنتاج بالوحدات الإنتاجيّة المتسبّبة في التلوّث، إلى جانب الحديث عن ضرورة التصرّف في النفايات.
كما تتقاطع مواقف مختلف القائمات وفق ما ذكره التقرير بخصوص الانتقال الطاقي والصيد البحري والفلاحة والتلوّث الصناعي والتصرّف في النفايات. المسألة البيئيّة قد لا تكون خلافيّة بين الفاعلين السياسيّين، فقد تمّ إدراجها بطريقة روتينيّة ضمن برامجهم الانتخابيّة. ولكنّ المعضلة البيئيّة في الجهات الأكثر عرضة للتلوّث مثل قابس وصفاقس وقفصة تضع الفاعلين السياسيّين أمام مسؤولياتهم في علاقة بالتحديّات البيئيّة الراهنة.
ماذا عن الجهات الأكثر عرضة للتلوّث الصناعي؟
يتحدّث المعهد الوطني للرّصد الجوّي في تقريره عن مظاهر تراجع نسبة انبعاث الغازات الملوّثة خلال بداية سنة 2020 بالمقارنة مع نفس الفترة من سنة 2019. فعلى سبيل المثال، تراجعت نسبة انبعاثات غاز أوّل أكسيد الكربون المتأتّي من محرّكات السيّارات والمواقد والمولّدات الّتي تعمل بالغاز من 210 ميكروغرام في المتر المكعّب في مارس 2019 إلى أقلّ من 150 ميكروغرام في مارس 2020. كما تراجعت نسبة ثاني أكسيد الكبريت الّذي ينتج عن حرق المشتقّات النفطيّة بشكل ملحوظ بين 2019 و2020، حيث بلغ في شهر مارس 2019 أكثر من 8 ميكروغرام في المتر المكعّب، في حين لم يتجاوز 2 ميكروغرام في المتر المكعّب خلال مارس 2020. ولكنّ نسبة الانبعاثات تختلف من منطقة إلى أخرى.
فعلى سبيل المثال، تضاعفت نسبة انبعاث الكبريت المتأتّي من حرق المشتقّات النفطيّة في جهة البرمة من ولاية تطاوين الّتي يوجد بها حقل إنتاج نفط من 2.3 ميكروغرام في الكيلومتر المكعب في أفريل 2019 إلى 4 ميكروغرام في الكيلومتر المكعب في أفريل 2020، وهو ما يعني مواصلة الإنتاج حتى في فترة الحجر الصحّي الإجباري. أمّا بالنسبة إلى منطقة قابس الّتي يوجد بها المجمع الكيميائي فقد بقيت نسبة الانبعاثات مرتفعة، بل وزادت عن معدّلات نفس الفترة من سنة 2019، حيث يذكر تقرير المعهد الوطني للرصد الجوّي أنّ نسبة النيتروجين المتأتّي من صناعة الفولاذ ارتفعت بشكل طفيف من 4.5 ميكروغرام إلى أكثر من 5 ميكروغرام في المتر المكعب بين أفريل 2019 وأفريل 2020.
أمّا بالنسبة إلى قفصة، فقد تراجعت الانبعاثات بشكل ملحوظ، حيث انخفضت نسبة النيتروجين من 7.8 ميكروغرام إلى مادون 4 ميكروغرام ما بين 2019 و2020، كما تراجعت نسبة الكبريت ما دون 6 ميكروغرام في شهر أفريل 2020، في حين كانت تفوق 15 ميكروغرام خلال نفس الفترة من سنة 2019.
وأمام حجم التلوّث البيئي اللاّفت والرهانات الاقتصاديّة المطروحة أمام الحكومة، فإن الطبقة السياسيّة في تونس مطالبة بأن تكون في حجم التحدّيات الإيكولوجية المطروحة عليها. وأن تأخذ بعين الاعتبار أن المسألة البيئية ليست مجرد نشاط هامشي مكمّل للعمل الحزبي وإنما تتنزّل في صلب العمل السياسي كأحد روافد التنمية.
iThere are no comments
Add yours