في سهرة الاثنين 12 مارس، بعد إعلان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن تخليه عن الترشح لعهدة خامسة وتأجيل الانتخابات الرئاسية، نزلت وسائل الإعلام الأجنبية إلى الشوارع لنقل رأي الجزائريين. ففي حين كانت مراسلة القناة الإماراتية سكاي نيوز عربي تغطي حسب قولها “مظاهرات الفرح” بوسط العاصمة والتي أعقبت الإعلان، تدخل شاب مقاطعا بثها المباشر. قرر ذلك الشاب الجزائري التدخل قصد ”تصحيح“ كلام المراسلة وتبليغها بأن الشعب الجزائري ليس سعيدا وأن إعلان الرئيس العزوف عن عهدة خامسة مجرد لعبة سياسية. وكان تدخل الشاب غير المنتظر والعفوي، والذي فاجأ صحفية القناة العربية، بالعامية الجزائرية. ولما طلبت منه الصحفية التكلم “باللغة العربية حتى يتمكن مشاهدو القناة من فهم أقواله، أجابها بعفوية: ”أنا لا أعرف التكلم بالعربية، =هذه هي دارجتنا.
تم تداول الفيديو بكثرة في الشبكات الاجتماعية في الجزائر وكان ذلك أول مرة تقتحم فيه العامية الجزائرية وسيلة إعلامية موجهة لجمهور متعود على سماع اللغة العربية الفصحى. وقد رأى الكاتب والباحث في اللغة العربية الأردني، هشام بستاني، أن هذا الفيديو بمثابة ”تمرد أحد المضطهدين ضد أولئك الذين لا يريدون سماع صرخته وفهم لغته“. ويُفهم من خلال الفيديو، حسب البستاني، أن هذا الشاب الذي تدخل على المباشر في تلك القناة العربية هو جزء من مجموعة كبيرة يستمد منها قوته. وهي قوة يعبر عنها في شكل مواجهة ذات طابع لغوي.
ويرى البستاني أيضا أن الشاب أدلى بتصريحه بثقة وانسجام رافضا النطق بلغة الصحفية أو المشاهدين، مؤكدا على أن ذلك كان ”جوابا ناريا“ في تلك الظروف في وجه صحفية كانت تريد أن تحول الاحتجاج إلى”فرجة“ متلفزة لجمهورها. “هذا الشاب الجزائري الذي ينتمي إلى الشعب هو جزء من المضطهدين المطالِبين بالتغيير. كما هو أيضا جزء من مجموعة اجتماعية تطالب الآخرين (السلطة والإعلام والمسؤولين الرسميين) أن يتفهموها وأن يلموا”بمطالبها“و”آمالها“و”طموحاتها”.
يرى الكاتب أن ذلك الشاب توجه بطريقته إلى نظام أصم ومتظاهر بعدم فهم ما يقوله، مطالبا إياه التحدث بلغة أخرى غير “لغة التسوية” و“أنصاف الحلول” و“التسويف”. قال الشاب: “يتنحاو ڨاع (فليرحلوا جميعاً)، وعلى السلطة والمشاهدين أن يفهموا”. في هذا السياق يُذكِّرُ الكاتب هشام البستاني من جهة أخرى بكلمة “أنا فهمتكم” التي قالها الرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، قبل مغادرته السلطة على خلفية المظاهرات الشعبية. كان ذلك مع اندلاع الانتفاضات العربية في سنة 2011. “يتعلق الأمر”بفهم“مفقود أو متجاهل بين السلطة (التي تمثلها استعارةً الكاميرا والميكروفون) والشعب المطالب بالتغيير. إنها”اللغة الأليفة“، اللغة العامية للجمهور الواسع، للشعب، باختصار إنها لغة مطالبهم المباشرة والواضحة بالتغيير”.
عبارة “يتنحاو ڨاع” تدخل ويكيبيديا
في أوت 2019 أدرجت الموسوعة الافتراضية المرجعية ويكيبيديا ضمن صفحاتها الشعار الشهير للحركة الاحتجاجية الجزائرية “يتنحاو ڨاع”. وتشرح “ويكيبيديا” في تعريفها أن “يتنحاو ڨاع” هي “جملة بالعامية الجزائرية ظهرت خلال المظاهرات التي اجتاحت الجزائر ابتداء من 16 فبراير 2019.”وتحولت إلى شعار في أوساط المتظاهرين ومتصفحي الأنترنت منذ نشر فيديو على الشبكات الاجتماعية يظهر فيها شاب جزائري يقطع بثا مباشرا على قناة سكاي نيوز العربية، مساء 11 مارس 2019، عندما أعلن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة تخليه عن ولاية خامسة”. وتُعرِّف الموسوعة الافتراضية باللغة الفرنسية عبارة “يتنحاو ڨاع” على أنها طلب “رحيل كل أولئك الذين استفادوا وساهموا وشاركوا وعززوا وحموا الرئيس الجزائري السابق خلال العشرين عاما من حكمه. وخلاف ذلك يعني أن كل محاولة للانتقال نحو نموذج ديمقراطي قد تتعرض للنسف من طرف هؤلاء الأفراد. وعندما يتم الحديث عن الثورة المضادة فهؤلاء هم المقصودون”. وبالنسبة ل“ويكيبيديا” فقد كان هذا الشعار الأكثر رواجا خلال كل المظاهرات. وكثيرا ما تشير إليه وسائل الإعلام المحلية والدولية التي تغطي أخبار المظاهرات في الجزائر منذ مارس 2019. وكدليل على تدويل الشعار الجزائري تُذكِّرُ ”ويكيبيديا“ بحدثين دوليين مهمين ظهر بهما الشعار: يتعلق الأمر بالدورة 72 لمهرجان كان السينمائي، حيث قام ممثلون جزائريون برفع لافتات وشارات تحمل شعار “يتنحاو ڨاع” تعبيرا عن دعمهم للمتظاهرين الجزائريين. أما الحدث الثاني فقد كان على هامش كأس إفريقيا للأمم (كان 2019) الذي انتظم بمصر. ولدعم فريقهم الوطني لكرة القدم حمل ثلاثة مشجعين جزائريين لافتة مكتوب عليها الشعار الشهير وتم توقيفهم وطردهم من طرف السلطات المصرية. ولدى وصولهم إلى العاصمة الجزائرية اعتقلوا مرة أخرى وأودعوا الحبس الاحتياطي. وقد قدمت صفحة “ويكيبيديا” باللغة الفرنسية 19 مصدرا مختلفا منها وسائل إعلام فرنسية وجزائرية.
هذه اللغة “الوسيطة” التي يعتز بها الجزائري
إذا كان بعضهم في الجزائر يرى في العامية مشكلة، فهناك آخرون يرون فيها غنى، وهي التي تجعلنا مختلفين عن المجموعات الأخرى. ويعد تدخل السياسة في المجال اللغوي هو أصل المشكلة. رأي يشاركه الأستاذ الجامعي والكاتب والمترجم واللساني لمين بن علو، صاحب عدد من الكتب في اللسانيات. وهو يؤكد أن التعبير بالعامية الجزائرية “كتابة أو شفهيا” في رسائل الحركات الاحتجاجية يعد مطلبا هوياتيا. “أعتقد أن التعبير عن رسائلهم باللغة العربية الجزائرية أو البربرية أو الفرانكوـ جزائرية وأحيانا حتى بالإسبانية، هو شكل من المطالبة بالهوية الجزائرية بتعدديتها وتفاعلاتها الثقافية”. ويرى في ذلك طريقة للتعبير عن رفض النظام ولغته الرسمية: “إنه رفض للنمطية وكل ما هو ناجم عن النظام، بما في ذلك اللغة العربية الفصحى واللغة الخشبية وكل الخطابات الداعمة للسلطة”. ويرفض بن علو فكرة أن تكون العامية الجزائرية لغة تقسم المجتمع الجزائري وكذلك حال كل لغات التعبير في الجزائر (العربية، الفرنسية، البربرية). “أعتقد، على عكس ذلك، أن هذه اللغة الوسيطة التي يعتز بها الجزائري، هي التي توحد الشعب. يجد الجزائريون في جميع أنحاء البلاد أنفسهم في هذه اللغة الثرية، المفعمة بالحيوية والعبارات والكلمات التي تشكل الهوية الجزائرية”. وهو يرى على عكس ذلك أن العامية مهمشة في الجزائر، خاصة في القنوات الرسمية للتعبير كوسائل الإعلام والسياسة والمدرسة…إلخ.. “أنا لا أحب كثيرا مصطلح”اللهجة“الذي يقيم نوعا من التدرج بين اللغات وهو مفهوم غير لغوي… أفضل الحديث عن الجزائرية أو العربية الجزائرية”. ويتمنى لمين بن علو، في إشارة أمل، أن يكون للتغيير الذي ينشده بقوة الشعب الجزائري من خلال الاحتجاجات الشعبية، أثر على اللهجة الجزائرية في المستقبل. وهو يتمنى، لو حصل تغيير، أن يصل أيضا إلى دمقرطة العامية. كما يأمل أن “تسمح ريح الديمقراطية هذه وحرية التعبير والكلام ببروز عربية جزائرية ، وبدون أية عقدة”.
التعريب سياسة تخفي مآرب أخرى
في أول خطاب علني ورسمي له غداة الاستقلال عرَّف أحمد بن بلة، أول رئيس للجمهورية الجزائرية، الهوية الجزائرية قائلا: “نحن عرب، عرب، عشرة ملايين عربي (…) لا مستقبل لهذه البلاد إلا في العروبة”.
انطلاقا من هذا تم اعتبار التعدد والتنوع اللغوي تهديدا للوحدة الوطنية، وكل نداء لاحترام التنوع اللغوي، إرادة لزرع الشقاق في شعب واحد ذي ثقافة واحدة. عرفت هذه السياسة زخما أكبر مع الرئيس الثاني للبلاد، الراحل هواري بومدين، الذي وصل إلى الحكم عن طريق انقلاب، وقد اتخذ إجراءات عملية من أجل التعريب. وكان ذلك منتظرا كون أن هواري بومدين تكون في الزيتونة بتونس وفي الأزهر بالقاهرة. وكانت مسألة التعريب خلال هذه الحقبة من تاريخ الجزائر خطابا سياسيا قبل كل شيء، فاللغة العربية استعملت كوسيلة لإضفاء الشرعية على حزب السلطة القائمة (جبهة التحرير الوطني) وتقديمه على أنه حصن منيع ضد الاستعمار.
وقد اتضح مع مرور الوقت أن تعريب المجتمع كان مجرد أداة للإقصاء الاجتماعي من خلال موازين قوى سياسية. وأصبح جليا بعد نصف قرن من الاستقلال أن الرهان لم يكن أبدا التحكم في اللغة العربية، بل تحقيق أهداف ضيقة لأصحاب السلطة. في الواقع لم يكن واحد من المدافعين عن تعريب المجتمع الجزائري مقتنعا بهذا المشروع. والدليل على ذلك أن أكبر المتحمسين للتعريب كانوا يعملون دوما على إرسال أبنائهم إلى المدارس الخاصة أو إلى الخارج حيث كان التعليم باللغة الفرنسية.
“نحن أحرار في التعبير عن أنفسنا بالجزائرية”
من خلال المطلب الأساسي والذي لا مفر منه للحركة الشعبية، أي “يتنحاو ڨاع”، تتجلى الرسالة بشكل مفهوم من جميع أطياف المجتمع الجزائري، لأن التعبير عنها جاء بالعامية الجزائرية. وفضلا عن معناها الذي يطالب برحيل كل وجوه النظام السياسي القائم والذي صار شعاراً للحراك، هناك خلفية أيضا تتمثل في المطالبة بهوية جزائرية. إنها مواجهة حقيقية بين العربية الدارجة والعربية الفصحى التي برزت من أعماق الاحتجاجات الشعبية. فهو صراع عفوي بين لغة الشعب الممارسة في الحياة اليومية للجزائريين ولغة أخرى، صارت مع مرور الزمن لغة السلطة كونها تستعمل في القنوات الرسمية ومن طرف البيروقراطية. تمكن المجتمع الجزائري خلال أكثر من 130 سنة من الاستعمار الفرنسي من المحافظة على لهجته في وقت كانت الجزائر تعتبر جزءا من التراب الفرنسي. وقد حافظت اللهجة على وجودها أيضا بعد استرجاع اللغة العربية الفصحى غداة الاستقلال من خلال سياسة تعريب كانت تمثل رهانا سياسيا واجتماعياً ـ ثقافياَ آنذاك. أما اليوم، فيمكن قراءة رسائل بالعامية الجزائرية قوية وواضحة جدا، مكتوبة بالأحرف العربية أو اللاتينية خلال المسيرات الاحتجاجية. فإلى جانب “يتنحاو ڨاع” (فليرحلوا كلهم) نجد أيضا “البلاد بلادنا ونديروا راينا” (البلاد بلادنا ونفرض فيها رأينا)، “جيش ـ شعب خاوة خاوة” (الجيش والشعب إخوة إخوة)، أو أيضا الجملة الشهيرة “كليتوا البلاد يا السراقين” (نهبتم البلاد أيها اللصوص).
ويقول حكيم، وهو شاب جزائري يسكن في إحدى ضواحي الجزائر العاصمة، أن التعبير باللهجة الجزائرية يعد بالنسبة له شكلا من الحرية: “أشعر أنني حر وقوي عندما أعبر عن حقوقي ورأيي بالعامية”. مضيفا أن “لا أحد يمكنه أن يجبرني على استعمال لغة غريبة عني”.
وخلال المظاهرات هناك كثير من الذين يعبرون عن نفس الرأي. وتؤكد ليلى، وهي طالبة شابة بجامعة الجزائر، على أن الشباب الجزائري يريد كسر كل الطابوهات (المحرمات) التي فرضها النظام: “نحن جيل مثقف، يعرف جيدا تاريخ هذه البلاد. الجزائر ليست بلدا صغيرا، بل قارة فيها تنوع ثقافي ولغوي. نحن فخورون بانتمائنا إلى هذا التنوع وهذا الثراء الذي نعبر عنه بصوت عال خلال كل مظاهرة”.
ويقول رجل في عقده السادس: “إننا نعبر بالعامية حتى يتسنى الفهم للجميع. حتى الأجانب يتمكنون، رغم كل شيء، من فهمنا لأن صرختنا تخرج بعفوية من أعماقنا، لتصل إلى الذين يريدون الاستماع”. وهو يرى أن الشعارات المرددة بالعامية الجزائرية تشكل أصالة هذه الثورة السلمية مؤكدا: “نحن أحرار في التعبير عن أنفسنا بالجزائرية”. ثم يضيف: “لقد تم خنقنا لمدة طويلة جدا، ولم يُطلب من الشعب يوما ماذا يريد؟ وبأية لغة يريد التعبير؟ وأي نظام تعليمي يناسبه؟ لقد سئمنا اليوم من هذه السلطة، وأقولها بصوت عال وقوي: البلاد بلادنا ونديروا راينا.
iThere are no comments
Add yours