تحت عنوان “التنظيم الخاص لحركة النهضة بعد الثورة وعلاقته بالاغتيالات السياسية”، نظّمت هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي ندوة صحفيّة يوم 02 أكتوبر 2018، لتكشف لأوّل مرّة عن عدد من الحقائق التّي أماطت اللثام عن جزء من العوائق التّي واجهت المسار القضائيّ لقضيّة اغتيال الشهيد محمد البراهمي. ثلاث محاور أساسيّة؛ هي “الغرفة السوداء” في وزارة الداخليّة، مصطفى خضر المحكوم منذ غرّة نوفمبر 2016 بثمان سنوات سجنا لحيازة وثائق تابعة لوزراة الداخليّة وتنظيم سريّ صلب حركة النهضة، كانت في نفس اليوم وعلى مدى الأسابيع اللاحقة أحد المحاور الرئيسيّة للجدل السياسي. معطيات، كان لها أثر مباشر وفوري على مختلف الأطراف المعنيّة بالملّف، لتنخرط في الساعات والأيّام اللاحقة في حرب البيانات والتصريحات. من جهة أخرى، تطوّرت الأحداث بشكل ملفت في ملّف الشهيد محمد البراهمي، طيلة الشهور الثلاث التي تلت الندوة الصحفيّة ليوجّه قاضي التحقيق أخيرا ولأوّل مرة تهمة “المشاركة في القتل العمد” لمصطفى خضر الذّي ظلّ حتّى تاريخ الندوة الصحفيّة لهيئة الدفاع عن الشهيدين مجرّد تفصيل في قضيّة تشعّبت خيوطها وكادت تفلت إلى غياهب النسيان.
النهضة والاغتيالات: تشنّج وارتباك أمام مفاجأة غير محسوبة
لم تنتظر حركة النهضة طويلا لتردّ على الندوة الصحفيّة لهيئة الدفاع عن الشهيدين في 02 أكتوبر 2018 قبل انتهاء ذلك اليوم. الاتهام الواضح والصريح للحركة بضلوعها في عمليتيّ الاغتيال والسعي لبناء هيكل أمني سريّ والتواطؤ لحجب القرائن عن القضاء، كان كفيلا بخروج بيان هجوميّ ضدّ الهيئة والجبهة الشعبية بالخصوص، التّي اتّهمتها بصريح العبارة “بالاستثمار في دماء الشهيدين للتغطية على فشلها المتواصل في المحطات الانتخابية السابقة وعجزها عن تقديم برامج جدية للشعب التونسي”. بل وحاول البيان جرّ مؤسّسات الدولة إلى هذه المعركة عبر تبنّي دور المدافع “عن القضاء والأمن ورئاسة الجمهورية” واستنكار “الإساءة للعلاقات الخارجية لبلادنا بدول شقيقة وصديقة”. هذا البيان، بدا غير كاف لتشتيت موجة الاتهامات التّي اتّجهت نحو حركة النهضة ليتّجه عدد من قيادات الحركة نحو المنابر الإعلاميّة في محاولة لعكس الهجوم واستعراض أدلّة البراءة. بدءا بعبد الكريم الهاروني، رئيس مجلس شورى النهضة، الذّي نفى قطعيا انتماء مصطفى خضر إلى حزبه واتهم هيئة الدفاع عن الشهيدين بالعمل لصالح الجبهة الشعبيّة، مرورا بسمير ديلو، النائب عن حركة النهضة في مجلس نوّاب الشعب، الذّي شكّك في صحّة الوثائق التّي تحدّث عنها محامو الهيئة، انتهاء بزميله ورئيس الحكومة السابق، علي العريّض الذّي شنّ حملة ضدّ الجبهة الشعبيّة متّهما إيّاها بتشويه النهضة و”التوظيف الإعلامي والسياسي للقضية” والعمل على جرّ “المحاكمات في الشارع وخارج بهو المحكمة“. لم تخرج ردود فعل النهضة على محاولة توجيه جوهر الندوة إلى صراع إيديولوجي بحت، والتهرّب من الإجابة عن الأسئلة والمعطيات الواردة في ندوة هيئة الدفاع عن الشهيدين. إلاّ أنّ راشد الغنّوشي فاجأ الجميع، حتّى أنصاره، بتصريحه في معرض محاضرة ألقاها في مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية في 12 جانفي 2019، بوجود “علاقات انسانيّة تربط مصطفى خضر” بعدد من قيادات النهضة.
تشنّج حركة النهضة تضاعف مع دخول رئاسة الجمهوريّة على الخطّ، ولقاء الرئيس الباجي قائد السبسي بهيئة الدفاع عن الشهدين في 26 نوفمبر 2018، ونشر تصريحات وفد المحامين عقب اللقاء على الصفحة الرسميّة لرئاسة الجمهوريّة. ارتباك عكسه بيان النهضة في نفس اليوم، الذّي استنكر ما اعتبرته الحركة “سابقة خطيرة تتعارض مع حياديّة المرفق الرسمي ودور الرئاسة الدستوري الذّي يمثّل رمز الوحدة الوطنية وهيبة الدولة”، مشيرة بوضوح إلى تقاطع هذا اللقاء مع الصراع السياسيّ بين حزب رئيس الجمهوريّة نداء تونس ورئيس الحكومة يوسف الشاهد وموقف الحركة الذّي انحاز إلى هذا الأخير، داعية إلى “عدم العمل على تسميم الأجواء من جديد خدمة لأجندات سياسويّة ضيّقة”.
وزارة الداخليّة: تعلم ولا تعلم
انتظرت وزارة الداخليّة مرور 6 أيّام لتردّ على الندوة الصحفيّة لهيئة الدفاع عن الشهيدين وإعلانها وجود “غرفة سوداء” في أحد طوابق وزارة الداخليّة منذ 19 ديسمبر 2013، ليكون التعليق الأوّل للوزارة بالنفي المطلق لوجود مثل هذه الغرفة أو محتوياتها على لسان الناطق الرسمي سفيان الزعق. وقد أكّد يومها “أن الأرشيف وجميع الوثائق الإدارية يتم تأمينها حسب التراتيب والقوانين الجاري بها العمل لدى إدارة مركزية مختصة في المجال”، مضيفا أنه “تم تأمين المحجوز محل القضية التحقيقية المتهم فيها المدعو مصطفي خضر بالتنسيق مع النيابة العمومية لدي المحكمة الابتدائية بتونس 1”. نفي لم يصمد طويلا أمام تسارع الأحداث، إلى حدود تاريخ 09 نوفمبر 2018، حين تنقّل قاضي التحقيق في القطب القضائي إلى وزارة الداخليّة لمعاينة “الغرفة السوداء” وحجز محتوياتها. لكنّ وزارة الداخليّة واصلت إنكارها في بيان صادر عنها في 12 نوفمبر 2018، مصرّة على أنّ “المحجوز المتعلق بهذه القضية مؤمّن بأحد الفضاءات المخصصة لحفظ الأرشيف، وهو محل حماية بالعنصر البشري وبكاميرا المراقبة على مدار الساعة” ليتمّ نقل تلك المحتويات لاحقا في 13 نوفمبر 2018 إلى مقرّ القطب القضائي لمكافحة الإرهاب.
هذا المنعرج الجديد الذّي كشف أنّ مئات الوثائق في علاقة باغتيال الشهيد البراهمي ومعلومات عن نشاطات مخابراتية وارتباطات سياسيّة لمصطفى خضر مغيّبة عن أعين القضاء طيلة 6 سنوات، دفع وزارة الداخليّة إلى التراجع عن إنكارها على لسان وزير الداخليّة هشام الفوراتي خلال جلسة استماع بمجلس نواب الشعب في 19 نوفمبر 2018، الذّي أشار إلى أن الوزارة لم تنف وجود محجوز لديها فيما يعرف بقضية “الغرفة السوداء” وإنما تنفي صحة توصيف المكان المؤمن به المحجوز إعتبارا لما قد يوحي به أن مكان الحجز غير تابع لوزارة الداخلية وغير معلوم.
بعد طلاق الشيخين، الرئاسة على الخطّ
جاء الإعلان عن وجود “غرفة سوداء” في وزارة الداخليّة ترتبط مباشرة بمصطفى خضر المقرّب من حركة النهضة بعد أسبوع تقريبا من إعلان رئيس الجمهوريّة إنهاء التوافق بينه وبين حركة النهضة في 24 سبتمبر 2018. حدث لاح للرئاسة كفرصة مواتية لهزّ حليفه السابق وخصمه الذّي وقف ضدّ رغبة الرئيس وحزب ابنه في إنتزاع رئاسة الحكومة من يوسف الشاهد. الباجي قائد السبسي انتظر إلى حين إتمام جميع الإجراءات الخاصة بمعاينة “الغرفة السوداء” وانتقال عهدتها إلى القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، ليقوم بخطوته التّي تمثّلت في استقبال وفد من هيئة الدفاع عن الشهيدين في 26 نوفمبر 2018. زيارة فتحت خلالها رئاسة الجمهورية المصدح أمام المحامين لتوجيه اتهاماتهم لحركة النهضة. خطوة لم يتأخّر بعدها قائد السبسي لبعث رسائل واضحة خلال اجتماع مجلس الأمن القومي في 29 نوفمبر 2018، أوّلها كان الردّ على بيان النهضة حول الاجتماع بوفد المحامين الذّي اعتبره تهديدا لشخصه لا يقبله، ليسترسل معتبرا دخول الرئاسة على الخطّ في ملفي الغرفة “السوداء” والجهاز السرّي ليست انتهاكا للدستور بل هي في صميم صلاحيات الرئيس ومجلس الأمن القومي.
الباجي قائد السبسي، الذّي لم يجد بدّا من حلّ التوافق مع رئيس حركة النهضة بعد أن تحدّته وضربت برغبته في إقالة يوسف الشاهد عرض الحائط، حاول عبر هذا الملّف الذّي عاد إلى صدارة الجدل الإعلامي والسياسيّ حينها، أن يُفهم شريك الأمس أنّ معركة تغيير رئيس الحكومة ليست سوى جولة وأنّه مازال يمتلك العديد من الأوراق وأهمّها قضيّة الاغتيالات التّي شرّعت لحزبه الفوز بالانتخابات سنة 2014 والتّي لوّح بها سابقا خلال السباق الانتخابيّ. رسالة فهمتها جيّدا حركة النهضة التّي لم تكرّر صنيعتها، وتجنّبت منذ ذلك التاريخ إثارة سخط غريم جديد ما يزال قادرا على التأثير في مجريات الأحداث قبل الإنتخابات المرتقبة أواخر 2019.
الجبهة الشعبيّة والسير على الحبال
مثّلت المعطيات التّي كشفت عنها هيئة الدفاع عن الشهيدين خطوة هائلة في مسار قضايا الاغتيالات السياسيّة. حيث أكّد المحامون ما دأبت عليه الجبهة الشعبيّة منذ إغتيال قياديّيْها من توجيه الاتهام مباشرة إلى حركة النهضة. من هذا المنطلق، جاء بيان المجلس المركزي للجبهة في 10 أكتوبر 2018 ليثمّن مجهود هيئة الدفاع ويؤكّد على خطورة “وجود جهاز سرّي تابع لحركة النهضة” و”العلاقة بين هذا الجهاز والاغتيالات السياسية بما فيها خاصة اغتيال الشهيدين الرمزين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي”. ليدعو البيان إلى “فتح بحث تحقيقي جدي في كل ما كشفت عنه الهيئة وقدمته من وثائق ومعلومات ومعطيات وإحالة جميع الملفات على أنظار القضاء” إضافة إلى مطالبة “وزارة الداخلية بالإفراج عن الوثائق المخفية “بالغرفة السوداء” والكشف عن كل المتورطين في عملية سرقة الملفات والوثائق الخاصة بالاغتيالات وإتلافها”.
الجبهة الشعبيّة انتهجت الحذر البالغ في مواجهة مساعي حركة النهضة لجرّها إلى خانة التناحر الإيديولوجيّ وظلّت تركّز على الجوانب القانونيّة والوثائق عبر تنظيم النقاط الإعلاميّة المتتالية بالتزامن مع تطوّرات الملّف. من جهة أخرى، انتقلت الحرب الكلاميّة بين نوّاب الجبهة وحركة النهضة إلى قبّة البرلمان، خصوصا في جلسة الاستماع إلى وزير الداخليّة ووزير العدل في 19 نوفمبر 2018 والتّي وجّه خلالها نوّاب الجبهة اللوم والاتهام لوزارة الداخليّة لكونها تستّرت على وجود “الغرفة السوداء” وأنكرت في بادئ الأمر ما أعلنت عنه هيئة الدفاع. في المقابل، تمسّك نوّاب النهضة بالخطوط العريضة لبيانهم الأوّل محاولين لعب دور المدافع عن استقلالية الأمن والقضاء وداعين لعدم توظيف القضيّة في صراع سياسيّ أو إيديولوجيّ.
تلك “الغرفة السوداء” التّي تقرّر أن تبقى مغلقة لستّ سنوات، بعد أن أصبحت قضيّة الإغتيالات السياسيّة عبئا ثقيلا على المنظومة الحاكمة بشقيّها، بعثر فتحها بالتزامن مع انتهاء “عهد التوافق” حسابات العديد من الأطراف السياسيّة. لكنّ أهميّة محتوياتها على الصعيد القانوني لا تقلّ عن تأثيرها السياسيّ خصوصا في سباق الأمتار الأخيرة نحو الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة نهاية 2019. إذا ما تمّ المضيّ قدما في كشف الحقائق كاملة، هذا التأثير قد يصل إلى نسف التوازنات السياسيّة الراهنة وتغيير المشهد السياسيّ بأسره.
iThere are no comments
Add yours