لم يكن اللقاء الأوّل بأعضاء القائمة المستقلّة الأنوار في مدينة باجة بتاريخ 02 ماي الجاري، يعكس ثقل هذه المجموعة وينبئ بقدرتها على مزاحمة الأحزاب الكبرى في المدينة التّي استعدّت جيّدا منذ أشهر لاستعراض عضلاتها الانتخابيّة، لكنّ اليوم الذّي قضيناه برفقتهم وشهادات الأهالي ونتيجة الانتخابات، اثبتت صدق ما باحت به لنا هذه المدينة التي عادة ما تظهر خجلها أمام عدسات الكاميرا.
“اكتفينا من لعب دور زينة المناسبات”
منذ الدقائق الأولى للّقاء مع شباب قائمة الأنوار، كان السؤال المُلحّ والبديهيّ عن سبب اختيارهم خوض هذه الانتخابات بقائمة مستقلّة بما يعنيه هذا الخيار من إمكانيات محدودة ومنافسة شرسة محتملة أمام الأحزاب التّي تراهن بثقلها على هذا الاستحقاق الانتخابيّ. هم بدورهم لم يستغرقوا وقتا للتفكير أو تنميق إجاباتهم، يجيب صابر الغربي رئيس القائمة موضّحا “كيف لنا أن نثق في أحزاب أثبتت إفلاسها وكذبها خلال السنوات السبع الفارطة” مضيفا أن قرار خوض هذه الانتخابات بدأ كفكرة مشتركة مع نائبته رهام الجبري التّي أكدت أنّ “الأحزاب حاولت بشتى الطرق تعطيل عملهم ووأد هذه التجربة إما بوضع العراقيل أثناء حملتهم الدعائيّة أو تسريب الإشاعات حول انتمائهم لتيّارات فكريّة أو أطياف سياسيّة بعينها قصد ضرب مصداقيّتهم وإقناع الناخبين بأنّه لا مجال لخوض الانتخابات خارج مواقع الاصطفاف الحزبيّة التقليديّة”. في نفس السياق، أكّد أكثر من عضو في قائمة الأنوار، أنّ ردّة الفعل الأولى للأحزاب السياسيّة المتنافسة في مدينة باجة كانت اللامبالاة والاستهزاء بتجربة بدت، وسط ضجيج الحملات الدعائيّة ومكبّرات الصوت العملاقة التّي نصبتها الأحزاب وسط المدينة وأمام مقرّاتها، همسة لن تطال آذان الناخبين.
لم يطل بنا المكوث في القاعة الصغيرة التّي اتّخذها شباب قائمة الأنوار مقرّا لهم بعد أن تبرّع بها أحد أصدقائهم لتسهيل عملهم، لنسترق لحظات الصحو القصيرة من أجل جولة سريعة في حيّ المنار شمال مدينة باجة. هناك في أحد الأحياء الشعبيّة التّي تتشابه في معاناتها مع مئات المربّعات السكّانية المهمّشة في جميع أنحاء البلاد، شرَع الشباب في طرق الأبواب ليوزّعوا على الأهالي قصاصات برنامجهم الانتخابيّ، أو يستوقفون المارة الذّين كانوا يحثّون الخطى نحو بيوتهم هربًا من رياح باردة يعرف قسوتها تمام المعرفة قاطنو المدينة وزوّارها. أثناء تلك الجولة، إخترنا أن نواصل دردشتنا مع أحمد العوّادي، الذّي تحمّس منذ البداية للعمل مع صابر ورهام وباقي المجموعة والوصول بالتجربة إلى أقصى مدى ممكن. يوضّح مرافقنا سبب اختياره خوض هذه التجربة ضمن قائمة مستقلّة قائلا “لقد تعلّمنا من التجارب السابقة في 2011 و2014 أنّ الأحزاب السياسيّة لا تنظر إلى الشباب إلاّ أداة دعائيّة وسواعد للمهام الشاقة أثناء الحملات الانتخابيّة”، ليسترسل شارحا وجهة نظره “بعد الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة الأخيرة وما تلاها من فضائح وخيبات اتخّذت قراري النهائي بعدم المراهنة أو الوثوق بأي حزب. بل وترسّخت قناعتي بأنّ الشباب ليس سوى زينة للمناسبات الحزبيّة، ينتهي دورهم ما أن تُسدل الستائر خلال المؤتمرات أو الاجتماعات الشعبيّة العامّة”. موقف يتطابق مع ما صرّح به خليل السالمي، مترشح بقائمة الأنوار، الذّي التحق بنا أثناء جولتنا ليبادر بالسؤال قائلا “ما الذّي قدّمته الأحزاب السياسيّة لمدينة باجة وأهاليها؟ وما الذّي جنيناه من الهرولة وراء السياسيّين غير اجترار الخيبات المتتالية؟”. يستدرك خليل بمرارة “هذه المدينة المنسيّة لا تخطر على بال أحد إلا عند المواعيد الانتخابيّة ولا يلتفت أحد إلى مواطنيها إلاّ في الحملات الدعائيّة عندما يصبح لأصواتهم قيمة حسابيّة”. انتهت الجولة سريعا لنعود أدراجنا إلى مقرّ قائمة الأنوار أين سيستكمل الشباب تحضيراتهم لاختتام حملتهم الانتخابيّة يوم الجمعة 04 ماي وانتظار قرار الناخبين.
شارع بين الخيارات الحزبية المتاحة والبحث عن بدائل
لم تكن قائمة “الأنوار” استثناء في المشهد الانتخابيّ. بل طرحت القائمات المستقلّة نفسها خلال الانتخابات البلديّة كمنافس قوّي كمّا وكيفا للقائمات الحزبيّة، إذ خاضت 897 قائمة مستقلّة من إجمالي 2074 قائمة المنافسة ضدّ الأحزاب الكبرى لتحوز على نسبة 33 بالمائة من مقاعد المجالس البلديّة، تليها حركة النهضة بنسبة 29 بالمائة وحركة نداء تونس ب21 بالمائة. هذا المزاج الانتخابيّ الذّي راهن بقوّة على المستقلّين، كان الدافع وراء التوجّه مباشرة إلى المواطنين لمحاولة فهم هذا التوجّه الجديد في ظلّ تجارب سابقة طالما وضعت هذه الفئة من المرشّحين خارج دائرة التأثير سواء في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011 بنسبة لم تتجاوز 7 بالمائة والتّي تراجعت بدورها خلال الانتخابات التشريعيّة سنة 2014 إلى 1.2 بالمائة.
من وسط مدينة باجة، مرورا بمقاهيها وسوقها وأحيائها، تطابقت أجوبة المواطنين لتُجمع على حالة عامّة من انعدام الثقة في مكوّنات المشهد السياسيّ الراهن. موقف عبّر عنه رامي، أحد شباب المدينة ممن تعوّدوا-“اتقان إهدار الوقت وتربية الأمل”-حسب تعبيره الذّي اقتبسه عن الشاعر الفلسطيني محمود درويش. ليوضّح قائلا “تجنّدنا سنة 2011 للمشاركة بكثافة في انتخابات أقنعونا حينها أنّها واجب وطنّي مقدّس ومفتاح التغيير الحقيقيّ في مدينتنا التّي تغرق في النسيان والتهميش والبطالة، ورغم الخيبة التي اعترتنا خلال السنتين اللاحقتين أقنعنا أنفسنا بأنّ التغيير على يد الأحزاب ممكن مرّة أخرى وتوجّهنا نحو صناديق الإقتراع أملا في طيّ تلك النكبة”. يواصل محدّثنا ليختم قائلا “اليوم، وفي ضوء المهازل اليوميّة التي نتابعها في وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي، اقتنعنا أنّ أصواتنا ليست سوى وسيلة لإضفاء شرعيّة على حرب التكالب على السلطة، وأنّ آخر ما يهمّ الأحزاب هو مصلحة المواطن واحتياجاته”. رأي لم يختلف في جوهره عن موقف العمّ حمّه الزرارعي، هذا البائع المتجوّل الذّي يعرفه الجميع في باجة، والذّي يختزن في ذاكرته عقودا من تاريخ المدينة وحكايات أهلها ومشاكلها. محتميا من الأمطار، وجدناه عند مدخل السوق والمدينة العتيقة في باجة، فتوجّهنا إليه ببعض الأسئلة حول الانتخابات البلدية ورأيه في القائمات المترشّحة. يجيبنا العمّ حمّه بوضوح “هذه الثورة وما تلاها من تغيير سياسيّ كان بفضل الشباب، ولا يمكن أن تُصلح البلاد ويتحقّق التغيير المأمول دون عودتهم لمواقع أخذ القرار”. يضيف محدّثنا “لقد شجّعت ابني ليكون ضمن قائمة مستقلّة لأنّ الحلّ في إزاحة هذه الطبقة السياسيّة الهرمة وفسح المجال للشبيبة، الزمن تغيّر والعالم أصبح أعقد من أن تضبطه القواعد والسياسات والوجوه القديمة”.
غادرنا المدينة قبل أربعة أيّام من انطلاق عملية الانتخاب، لنعود يوم الاقتراع الذّي كانت سمته الأبرز حالة عامة من الإحباط في مراكز التصويت، إلاّ انّ الأجواء تغيّرت تماما مساء ذلك اليوم مع تتالي الكشف عن النتائج الأوليّة التي كانت تعكس ضيق الكتلة الانتخابيّة من الخيارات الحزبيّة المتاحة ولتبرهن النتائج التي حقّقتها القائمات المستقلّة على الصعيد الوطنيّ أنّ جزءا من الشارع بدأ يبحث عن بدائل للاستقطاب ويبحث عن المعنى الحقيقيّ لحرّية الاختيار خارج الأطر التقليديّة وقواعد المحاصصة. أمّا هناك، في تلك الغرفة التي تحوّلت خلال الأيّام الفارطة إلى غرفة عمليات لشباب قائمة الأنوار، فلم نجد كلمات تستطيع أن تترجم ثقل اللحظة وكثافة المشاعر التي انتابت الجميع ونحن نتلقى الأخبار المتتالية التّي تؤكّد أنّ قصر البلديّة في باجة لم يعد حكرا هذه المرّة على “اللاعبين الكبار”.
الذي يقصي المرأۃ و يقصي الشباب يخسر التاريخ و المجتمع معا .. ثم يبقی تفعيل العقد الإجتماعي هو طريق القوۃ لكل مجتمع يريد أن يقلع من واقع الفقر و التهميش .. تجربۃ المستقلين في نسبۃ كبيرۃ منها , ليست فقط فرضت نفسها بالمعنی السلبي لنشوء الضواهر , بمعنی الضد, ضد الأحزاب . ضاهرۃ المستقلين هي إفراز من إفرازات وعي سياسي و ثقافۃ سياسيۃ , إكتسبها كثير من الشباب الغير متحزب .. و هذا نتيجۃ عمل جبار قام به المجتمع المدني في التثقيف السياسي .. ثم منذ الثورۃ عديد مراكز دوليۃ غير حكوميۃ مولت عديد برامج جمعياتيۃ لنشر ثقافۃ الديمقراطيۃ و المواطنۃ .. فالقاءمات المستقلۃ هي نوع و جزء من البديل .. كيف سيستمر هذا الإفراز الجديد ؟ هذا ما سيدلي لنا به مشوار التجربۃ المحليۃ . كل التشجيع .