تحرّك 76، لم يكن سوى اختصارا لتطوّر الحراك الذّي تخوضه منظّمة الأطباء الشبّان منذ 7 سنوات تعاقب خلالها 6 وزراء على وزارة الصحّة. هذا الماراطون من المفاوضات والضغط المتبادل بين الطرفين وصل إلى مرحلة تصعيديّة غير مسبوقة مع إعلان الأطباء الشبّان عن سلسلة إضرابات ووقفات احتجاجيّة طيلة الشهر الفارط تحت شعار “فيفري الغضب”، في ردّة فعل هي الأكثر توترا على ما اعتبره المحتجون “عدم جديّة” وزارة الصحّة وعلى رأسها عماد الحمامي في التعاطي مع مطالبهم وتعمّد المناورة والمماطلة عند كلّ جلسة تفاوضيّة. مسار تصاعديّ للمواجهة بين الطرفين، سيشهد منعرجا جديدا في بداية الأسبوع الأوّل من شهر مارس الجاري، مع إعلان منظّمة الأطباء الشبّان عن قرارها سحب المتربّصين المقيمين والداخليّين في المستشفيات الجامعيّة ما عدى حصص الاستمرار انطلاقا من يوم الإثنين 05 مارس الجاري، ومواصلة إضراب الطلبة في جميع كليّات الطبّ إلى حين إمضاء محضر اتفاق يوثّق التزامات وزارة الصحّة بتحقيق جميع مطالبهم.
انتكاسة المنعرج الأخير
يرفع المحتجّون منذ سنة 2011 أربع مطالب رئيسيّة تتمحور حول نشر النظام الأساسي الخاصّ بالمتربّصين الداخليّين والمقيمين وفق محضر الاتفاق المُمضى في 11 فيفري 2017، مع الحفاظ على الشهادة الوطنية للدكتوراه في الطب بصفة منفصلة عن شهادة الاختصاص على غرار أغلب كليات الطب في العالم. أمّا المطلب الثالث فيتعلّق بمراجعة شروط الإعفاء من الخدمة الوطنيّة لذوي الظروف الاستثنائيّة على المستوى الصحي أو الاجتماعي بما يضمن المساواة مع باقي المواطنين التونسيّين وأخيرا مراجعة أجور الأطباء الأجانب الدارسين في الكليّات التونسيّة ومساواتهم بنظرائهم التونسيّين من مقيمين وأطباء داخليّين.
الحراك الذّي انطلق عقب إصدار الأمر الرئاسي الخاصّ بإعادة تنظيم الدراسات الطبيّة في نوفمبر 2011، شهد جولات عديدة من المفاوضات التي انتهت إلى امضاء ثلاث محاضر اتفاق سنة 2012 و2014 وأخيرا في فيفري 2017، دون أن تشهد تقدّما يُذكر في اتجاه تحقيق المطالب المدرجة ضمنها. وقد ظهرت بوادر الإنفراج في شهر نوفمبر 2017، بعد أن علّقت منظّمة الأطباء الشبّان إضرابها في 30 نوفمبر من نفس السنة إثر تعهّد وزير الصحّة الجديد عماد الحمامي بالتعامل بشكل جدّي مع المحاضر السابقة والعمل على إنهاء الأزمة.
التزام لم يتجاوز حدود التطمينات الشفويّة ليدخل الملفّ منعرجا جديدا بإعلان المنظّمة في 06 فيفري 2018 عن إضراب دام لثلاثة ايّام ووقفة احتجاجيّة يوم 09 فيفري في ساحة الحكومة بالقصبة ردّا على سياسة المماطلة والتسويف التي اتبعتها الوزارة المعنيّة. تصعيد دفع الحكومة ممثّلة في كاتبها العام ورئيس ديوان الحكومة إلى عقد اجتماع مع ممثّلي الأطباء الشبّان دون أن تسفر الجلسة عن نتائج عمليّة. ليواصل الأطباء تحرّكاتهم بإعلان إضراب ثالث بستّة أيام انطلاقا من يوم 09 فيفري وتنظيم وقفات احتجاجيّة يوميّة في مقرات عملهم وفي كلياّت الطبّ، تُوّجت يوم 19 فيفري 2018، بتجمّع ضخم للأطباء وطلبة كليات الطبّ أمام مقرّ وزارة الصحّة ولقاء مع الوزير إياد الدهماني، الناطق الرسمي باسم الحكومة، والنائب سُهيّل العلويني، رئيس لجنة الصحّة بمجلس نوّاب الشعب. لقاءات جديدة لم تسفر حتى تاريخ عقد الندوة الصحفيّة البارحة 02 مارس 2018 سوى عن تعهّدات شفويّة من رئيس الحكومة بنشر النظام الأساسي الخاصّ بالمتربّصين الداخليّين والمقيمين والتعهّد بالتدخّل لدى وزارة الصحّة التّي تستمر في المماطلة والتهرّب من التعهّد الكتابي أو إمضاء أيّ محضر اتفاق جديد بحسب رئيس منظّمة الأطباء الشبّان جاد الهنشيري.
هذا التعاطي “المشبوه” مع الملفّ كما وصفته منظّمة الأطباء الشبّان البارحة، دفع بالمحتجّين إلى عقد عدد من اللقاءات الموسّعة لطلبة كليّات الطبّ والمتربّصين في جميع الكليّات المختصّة منذ يوم الأربعاء 28 فيفري، ليتمّ الإعلان عن سحب المتربّصين المقيمين والداخليّين في المستشفيات الجامعيّة ما عدى حصص الاستمرار انطلاقا من يوم الإثنين 05 مارس الجاري، ومواصلة إضراب الطلبة في جميع كليّات الطبّ إلى حين إمضاء محضر اتفاق يوثّق التزامات وزارة الصحّة بتحقيق جميع مطالبهم.
جذور الأزمة
علاوة إلى المطالب الخاصّة بمراعاة الظروف الاجتماعية والصحيّة للأطباء في ما يخصّ الخدمة الوطنيّة، وإنهاء سياسة الاستغلال التي تنتهجها وزارة الصحّة تجاه الأطباء الأجانب العاملين أو الدارسين في تونس والذّين يتقاضون ثلث رواتب نظرائهم التونسيّين في القطاع العام بحسب رئيس منظّمة الأطباء الشبّان جاد الهنشيري، فإنّ جذور الأزمة تعود إلى الأمر الرئاسي عـدد 4132 لسنة 2011 مؤرخ في 17 نوفمبر 2011 المتعلق بضبط الإطار العام لنظام الدراسات الطبية المؤهلة لممارسة طب العائلة والتخصص في الطب. هذا الأمر الذّي جاء في إطار مشروع إعادة هيكلة الدراسات الطبيّة انطلق النقاش حوله منذ سنة 2008، ليتمّ تقنينه بعد ثلاث سنوات بأمر رئاسي في عهد الرئيس الأسبق المؤقّت فؤاد المبزّع. وقد اعتبر عضو الأطباء الشبّان، زياد بوقرّة أنّ هذا القانون مظلمة تهدّد مستقبل دارسي الطبّ في تونس ووضعيّة قطاع الصحّة العموميّة ككلّ. فإضافة إلى عدم استشارة أو تشريك الطلبة أو الأطباء الشبّان في النقاشات حول هذا المشروع، فإنّ الأمر الرئاسيّ الذّي دخل حيّز التنفيذ في سنة 2015، حرم دفعتين من خرّيجي كليات الطبّ ضمن اختصاص طبّ العائلة من مواصلة دراستهم بغرض التخصّص، إضافة إلى كون هذه الشهادة غير معترف بها على الصعيد الدوليّ. أمّا دمج الشهادة الوطنيّة لدكتوراه الطبّ مع شهادة الاختصاص، فقد أكّدت منظّمة الأطباء الشبّان أنّها تعدّ تعسّفا على المعايير الدولية في التكوين الأكاديمي للإطارات الطبيّة، حيث لا يتمّ العمل بهذه الآلية في أيّ دولة أخرى عدى تونس. ليمضي المتدخّلون إلى أنّ هذا الإجراء سيدمّر ما تبقى من مقوّمات القطاع الصحّي في تونس الذّي يعيش أزمة حقيقيّة على الصعيد البشري والماديّ.
منظّمة الأطباء الشبّان التّي تعهّدت بمواصلة تحرّكاتها، أكدّت في أكثر من بيان وخلال الندوة الصحفيّة التي عقدتها البارحة أنّ قطاع الصحّة العموميّة يشهد انتكاسة خطيرة في ظلّ غياب إرادة حقيقيّة من السلطة السياسيّة للنهوض به. فإضافة إلى ضعف تطوّر ميزانية وزارة الصحّة خلال السنوات الثلاث الماضية والتي لم تتجاوز 7.6%، ومحدوديّة نفقات التنمية في الوزارة بنسبة 12.2% من إجمالي ميزانيّة وزارة الصحّة لسنة 2018، فإنّ هذا القطاع يعاني من معضلة لا تقلّ خطورة عن ضعف الإمكانيات، وهي عزوف الأطباء عن القطاع العام والهجرة خارج البلاد. نزيف أكّده رئيس المجلس الوطني لعمادة الأطبّاء، منير يوسف مقني، الذّي كشف خلال حوار صحفي سابق أنّ سنة 2018 ستشهد هجرة 630 طبيبا وستصل إلى حدود سنة 2022 إلى 2700 طبيب.
iThere are no comments
Add yours