جزء مقتطف من غلاف الكتاب

كان اسمها ”مارتين“، هي السيدة كليمونتين، التي جاءت من فرنسا إلى تونس باحثة عن الحبّ لتجده بين فكيّ رجل هجرها بعد فترة قصيرة. قرّرت مارتين/كليمونتين الانتحار، بعد أن ”كبر الحبّ كعشبة ضارّة أفسد عقلها“. ذهبت إلى أحد شواطئ الحمامات، وتركت ”العالم كلّه يغرق في عينيها“. لسوء حظّها أو لحسنه جاء من يُنقذها، وبعدها تمّ نقلها إلى مستشفى الرازي ”المزدحم والمأهول بالبقّ“. لم تمنع العقاقير ”عاصفة الهستيريا“ من الاقتراب منها وهي ”امرأة صغيرة يزلزلها الصوت ولا تعرف كيف تبكي“. ”امرأة جافة من الحكايات والشعر لا تعرف كيف تشرح للطبيب كيف، رغم علمه وتجاربه، تعيش امرأة بقلب أزرق“. استقبلت أمل مارتين بعد خروجها من الرازي، كانت حاضرة على هلوساتها، وعلى ثرثرتها، وعلى غضبها المكتوم والمعلن. بدأت أمل بتدوين ما تقوله مارتين منذ سنتين، لم تقدر على التخلّص من شبحها وقرّرت قتلها بنشر الديوان، فكان حفل التوقيع في مصر وفي تونس، رغم الطابع الاحتفالي والحميميّ الظاهر، جنازة حقيقيّة دفنت فيها أمل، بفستانها الملوّن، مارتين/كليمونتين.

كتابة مؤنّثة بصوت مسموع

تكتب أمل خليف بصوت مسموع، تصرخ بقصائدها في وجه العالم الذي يريد إخراسها. رأس أمل ضاجّ بالنساء، ”امرأة بقلب أمّ تعيش وحيدة، امرأة أهشّ من ورقة يعصف بها الغضب، امرأة محترقة يُبعثرها النسيم العابر، امرأة منهمرة كشلاّل تتحدّث بالإشارة وامرأة خضراء تطقطق أغصانها: كسرتني يا أبي“. لا يهمّنا في ”السيدة كليمونتين“ إن كانت المرأة مهزومة أو منتصرة، ما يهمّنا هو أن ”الحياة داوتها بالكيّ“. تجربة الألم في ”السيدة كليمونتين“ تجربة ذاتيّة واعية، ورغم خصوصيّتها المؤنّثة وتحديدا عندما تتحدّث عن فعل الأمومة والحاضر بقوّة في أغلب القصائد، تظلّ هذه التجربة غارقة في كونيّتها. الألم في قصائد أمل خليف، ”ألم ذو أخلاق“ كما يقول الروائي الفرنسي ماركيز دي ساد، ألم متين في علانيّته وشفافيّته وصدقه، ولكنّه ألم مستكين لا يردّ الفعل، ”كصنبور معطوب لا ينتبه له أحد“. في ”السيدة كليمونتين“ لا يتجرّد المؤنّث من شحناته الرمزيّة، وربّما لم تقصد أمل خليف أن يكون المؤنّث خيارا جماليّا لأنّ الذات الكاتبة مؤنّثة لكنّ نصوصها أنتجت جماليّة في الاستعارات والمجازات والتخييل المكثّف. الكتابة مؤنّثة في ديوان أمل ولكنّها تستوعب كلّ الذوات مثلما استوعبت القصيدة النثريّة مزاجها المتقلّب، من الحزن إلى الغضب إلى الفرح المغشوش والحقيقيّ. تبدو القصيدة النثريّة مناسبة لأمل خليف، نظرا إلى تحرّرها من ضوابط الكتابة التقليديّة، فالقصيدة النثريّة لها جماليّاتها الخاصّة، وهي ذات طابع توثيقيّ واعترافيّ، لذلك كانت الصيغة الأمثل لاحتواء هلوسات كليمونتين عن الحياة والوجود والحب والألم. تظهر كليمونتين وتغيب في نصوص أمل التي تحتمي بها كثيرا لتتحدّث عن تجاربها الشخصيّة، عن أمّها ”المهووسة بالخياطة“، عن ”فزّاعة العصافير“ في حديقة بيتهم ”المصنوع من القماش“ وعن انتمائها. وكما تقول ”أنتمي إلى ضحكات النساء الخليعة، إلى ابتسامتهنّ المغمّسة بالدلال، اللؤم والنميمة. أنتمي إلى صراخهنّ المكبوت، إلى فجيعتهنّ… أنتمي إلى الفساتين، إلى قصّات الكاتلوجات، إلى النظرات الميتة بعيون دمى البلاستيك. أنتمي إلى الأقمشة، تحديدا إلى القطن والدانتال (…)“. في حلق أمل خليف ”قبيلة من النساء“، ومثلها مثل الكاتبة الجزائريّة فاطمة المرنيسي التي تلوّنت بألوان كلّ النساء، لكنّها تواصلت مع جانبها الذكوريّ ولو بشكل محدود.

أمل خليف

اخترق المذكّر أمل، فتكلّمت عنه وباسمه في أحد القصائد، عندما تحدّثت عن الرجل الذي أنقذ مارتين/كليمونتين من الغرق حيث تقول ”المرأة التي كانت ترقص في البحر، كانت ترتدي ملابس داخليّة مثيرة“، وهو ما قاله فعلا منقذ مارتين عندما رأى تبّانها الأحمر وهي بصدد الغرق. أمل مسكونة بهاجس الجسد، الجسد الأنثويّ الذي يحمل بين أحشائه طفلا غير مرغوب فيه، والطفل في قصائدها يحمل رمزيّات عديدة وانطلاقا منه قامت بمساءلة مفهوم الأمومة بطرافة أدبيّة خالية من التعقيدات الفلسفيّة عندما قالت ”أحبّ أن أبيض سمكة ولا أحبّ أن أصير أمّا. للأمّهات فظاظة محلاّت الأسماك الشعبية. رائحتها النافذة، صخبها الفج وأرضيتها الزلقة. للأمّهات شيء ما لا أرتاح له. كأن يعلقن ذيل سمكة ميتة بشبكة فوق الباب، لأجل أن يتبجّحن بالسعادة ويحاربن أشبح الحسّاد. كأن يٌجدن اختيار الطعم الأطثر إيذاء لاستعراض المهارة وامتداد سلطة المملكة، مملكة الأمّهات“.

الكتابة النسويّة: هل تحتمل الكتابة التقسيمات الجنسية؟

انطلاقا من ”السيدة كليمونتين“، تفرض النصوص الأدبيّة قوانينها الذاتيّة وحساسيّتها الفرديّة، ولكنّها غير خاضعة للتصنيف، فالكتابة شبيهة بالتبوّل أو التقيّؤ، تخلّص من حمل أو ثقل ما، وهي فعل متجرّد من الهويّة الجنسيّة، لذلك يمكن أن نقول أن الكتابة لا تحتمل التقسيمات الجنسيّة. قد يبدو هذا الحكم مطلقا ولا يراعي خصوصيّة المؤنّث والمذكّر في النصّ المكتوب ولكنّه يحيلنا إلى العديد من التساؤلات التي ربّما لن نكون قطعيّين في الإجابة عنها: هل هذه الرواية أو تلك ناجحة بفضل هويّة كاتبها؟ هل تحرّرت المرأة من مركزيّة القضيب ومن الجسد كمضمون محوريّ للنصّ؟ ما مدى قدرة المرأة الكاتبة على التخلّص من الموروث الذكوريّ في أسلوبها السرديّ؟ أين تكمن خصوصيّة النص الإبداعي النسويّ؟ فعل الكتابة بالنسبة إلى المرأة هو فعل تحرّري بامتياز، تحرّر من سلطة الجسد العورة في المخيال الذكوريّ، لذلك تركزّ العديد من الكاتبات على ربط نصوصهنّ وبطريقة ميكانيكيّة بالجسد، متمرّدات على الأعراف السائدة. تقول الناقدة السوريّة خالدة سعيد في كتابها ”المرأة، التحرّر، الإبداع“: ”فعل الكتابة لدى النساء بشكل أخصّ، هو عمليّة تحرّر من حيث أنّه وعي وكشف لتجارب ومعاينات وتصوّرات وحاجات وأحلام طال عهدها بالصمت والخفاء والكتابة تبلورها، وتسمح بتشكيل خصوصيّاتها تشكّلا مبدعا داخل قوانين العامّ، كمتخيّل جماعي وفضاء جماعي ولغة وتصوّرات ومنظومة إشاريّة قيميّة وموروثات، هذه الموضعة تطمح إلى أن تدخل الكتابة النسائيّة في تشكيل المفهومات وتشكيل المتخيّل والتأثير في منظومة القيم والمصطلحات، فالخصوصيّة هي منطلق الكتابة وبنارها يتوهّج العام“.

وعليه فإن ”الكتابة النسائيّة“ تختلف عن ”الكتابة الرجاليّة“ من حيث منطلقات التجربة المُعاشة، ولكن الرجل بإمكانه التواصل مع جانبه الأنثويّ عند الكتابة فينتصر له ونلمس ذلك جليّا في كتابات نجيب محفوظ  وإحسان عبد القدّوس أو فلوبير الذي قال ”مادام بوفاري هي أنا“. كما يمكن للمرأة أن تنصهر داخل ذكوريّتها التي تنطق بها في نصوصها. وعليه يمكن للمرأة أن ”تتمثّل ذاتها في صيرورة المذكّر“، وهو ما تذكره الكاتبة التونسية زهرة الجلاصي في كتابها ”النصّ المؤنّث“، حيث تقول ”فعلى صعيد تخييل الشخوص الروائيّة مثلا، قد يخطئ القارئ عندما يتجه مباشرة إلى التفتيش عن الكاتبة في شخصياتها النسائيّة“، وهو ما تؤكّده غادة السمّان في حديث لمجلة الكويت سنة 1997: ”لطالما ابتسمت بمتعة ماكرة وأنا أرى الخطأ النقديّ الذي وقع فيه بعض النقّاد وهم يدرسون رواية بيروت 75، مقارنين بيني وبين سميّة، بنت شامية جاءت من دمشق إلى بيروت بحثا عن النجاح، ولم يلتفتوا إلى الشبه الرّوحي بيني وبين الصيّاد مصطفى الذي يمثّلني إلى أبعد مدى في تلك الفترة من حياتي… وفي روايتي ليلة المليار، تجدني مثلا في أحد أبطالها خليل الدّرع أكثر ممّا تجدني في ليلى أو دينا“.

الإبداع لا يعني بالضرورة إمّا التحوّل إلى صيرورة مؤنّثة أو مذكّرة، إذ يمكن الجمع بينهما والتماهي معهما، ورغم أن الكتابة النسويّة، هي تعبير عن ثورة فكريّة تجاه نظام أبويّ سلطويّ إلاّ أن تصنيفا مماثلا يمكن أن يحدّ ويختزل قيمة النص الجماليّة في هويّة صاحبه الجنسيّة. وبينما نحن لم نحسم بعد في هذا المفهوم، ”وبينما الشمس تصنع نهار العالم وتغمسه كبسكوتة في الشاي الأسود. وبينما العالم يذوب، كليمونتين تحرّك السكّر“، وتبشّر بموجة جديدة من الكتابة في تونس مختلفة عمّا سبقها.