يشتغل لسعد بن عبد الله عَلى المنسيّ والمتروك ويحاول دائما أن ينبش في ذاكرتنا الشعبيّة ليحكي قصصا من صميم واقعنا ويخلق جماليّات تستقي فرادتها من عوالم لا نعرف عنها شيئا تقريبا، لتكون بذلك أعماله رحلة اكتشاف متجدّدة لتراث موسيقيّ مهجور أو لشخوص وأحداث ابتلعها التاريخ الانتقائيّ، ولتجسّد بعمق فعل الانحدار إلى القاع، إلى الأصل. في مسرحية “المغروم يجدّد” يلج بنا لسعد بن عبد الله عالم الكافيشانطا المطمور والمغمور بالانفعالات والحكايات، ساعده في ذلك نصّ محبوك بطريقة ذكيّة كتبه الحبيب بلهادي، وأدّاه مجموعة من الممثلين والممثلات بإتقان متفاوت وهم فتحي مسلماني وجمال مدّاني ومريم السايح وفرحات الجديدي وحاتم اللجمي وقيسالة النفطي ووجدي البرجي.
الفن يسقط الرموز
يُحيلنا عنوان المسرحية “المغروم يجدّد” على فترة من تاريخنا، كانت فيه الكافيشانطا ملجأً لمحبّي الحياة وحتى كارهيها، وعبارة “المغروم يجدّد” كان يردّدها بائع التذاكر على مسمع الساهرين بعد انتهاء كلّ حفلة ليجدّدوا عهدهم مع المتع والملذّات باقتناء تذاكر أخرى. ويُحيلنا زمن الحكاية على مرحلة مهمّة اتّسمت بتقلّب الأوضاع السياسيّة مع انتهاء الاحتلال وبداية حكم الحبيب بورقيبة وصولا إلى مشروع التعاضديّات. ينتمي أبطال المسرحيّة إلى فرقة فنيّة تجمع بين الغناء والرقص، يحاولون جاهدين إعادة إحياء سهرات الكافيشانطا بمنطقة باب سويقة رغم الأوضاع الاقتصاديّة الصعبة واختلاف مشاربهم وتضارب مواقفهم السياسيّة، فمامية الراقصة (قيسالة النفطي) لا همّ لها سوى استرجاع مجدها الضائع والحفاظ على حبيب العمر محرز (فتحي مسلماني)، أحد مناضلي الحزب الدستوريّ والذّي حوّل مقرّا من مقرّات اجتماع الحزب إلى كافيشانطا يرتادها العاشقون. أمّا الزمني (جمال مدّاني) الرافض لسياسة بورقيبة والمُدافع بشدّة عن أفكاره اليساريّة يدخل في صراع مشحون مع فرحات (فرحات الجديدي) الذي يتكلّم باسم أولئك المتملّقين والواقفين عند أعتاب السلطة يستجدون عطفا ومنصبا.
لم تمرّ المرحلة الانتقالية الحسّاسة بعد الاستقلال دون صراعات قلبت موازين القوى داخل الحزب الدستوري الاشتراكيّ وغيّرت مجرى الأحداث على امتدادا سنوات متلاحقة وهذا ما حاولت مسرحية “المغروم يجدّد” إيصاله إلى الجمهور العريض، وإلى المدافعين بتعصّب مطلق عن الحبيب بورقيبة خصوصا. تعود امتدادات الخلافات بين أعضاء الحزب الدستوريّ، وأساسا بين الهادي نويرة وصالح بن يوسف، إلى فترة ما قبل الاستقلال، لخّصها الطيب سالم في رسالته إلى الباهي الأدغم سنة 1954 عند حديثه عن ضرورة تشريك الشباب في الديوان السياسيّ للحزب والوقوف على حساباته لتفادي الاتهامات الموجهة إلى زعمائه بالعبث بأمواله، وقد تحدّثت المسرحية عن سوء التصرّف في أموال الحزب والمشاكل المتفاقمة داخله. أعطت “المغروم يجدّد” صوتا إلى المقموعين زمن بورقيبة وجعلت تلك الفترة، أي منذ الاستقلال إلى ما بعد تجربة التعاضد التي أنهِيت بقرار سياسي سنة 1968، موضع مساءلة تاريخيّة قوامها القطع مع منطق التمجيد والتقديس.
الكافيشانطا ملاذ التائقين إلى الحريّة
هذا البعد السياسيّ الحاضر بقوّة في مسرحيّة “المغروم يجدّد” لا ينفي أبعادها الفكريّة النقديّة والمتعلّقة بوضع الفنّانين الشعبيّين زمن حكم بورقيبة، وهو ما يدفعنا للقول أن هذه المسرحيّة هي ردّ اعتبار إلى هؤلاء الفنّانين وعلى رأسهم صالح الخميسي الذي سُجن بسبب غنائه النقديّ والساخر، فقد غنّت له “فرقة محرز” مجموعة من أغانيه مثل “جميع الحروبات وفات” و”يا خبيثة يا دبوزة” و”بابا هتر” و”تدوير الدمّ ولا الهمّ”. صالح الخميسي هو ذلك الفنّان الرافض للسياسة البورقيبيّة وكانت الكافيشانطا المكان الوحيد الذي يسمح له بالغناء دون قيود وموانع، فهي ملاذ الساهرين وملاذ التائقين إلى الحريّة. من هنا نفهم كيف كانت الحالة الثقافية في تلك الفترة، فالحبيب بورقيبة كان معاديا للفنّ الشعبيّ، وبمنعه بث أغاني المزود في الإذاعات وبتكميمه أفواه الفناّنين الهزليّين طمس أحد أهمّ مكوّنات الثقافة التونسيّة. ولكن ذلك لم يمنع الفنّ الشعبيّ (الأغاني الهزليّة، الزندالي، المزود) من الانتشار في الأحياء المتاخمة للعاصمة فوق السطوح وداخل الكافيشانطات بعيدا عن المسرح البلديّ، وعلى نحو مغاير للفنّ الذي يرتدي ربطة عنق كما أراده بورقيبة.
كانت منطقة باب سويقة مقرّ الكافيشانطات التي تفتح أبوابها في شهر رمضان وتقدّم حفلات لعلي الرياحي وشافية رشدي وفتحية خيري وصالح الخميسي واسماعيل الحطّاب ووصلات رقص شعبيّ مع نعيمة بكير وزهرة لمبوبة وماميّة عاملة الجنس بزنقة بن نعيم والتي تعدّ العمود الفقريّ لـ”المغروم يجدّد”. لم تأت المسرحية على ذكر الراقصين الرجال مثل “قنفيدة” و”ولد جلابة”، الذّين كانوا يرتدون لباسا نسائيّا ويقدّمون عروضا فنيّة في المخازن ومحلاّت الجزارة والمقاهي، لكنّها مجدّت الراقصات الشعبيّات في شخصيّة مامية القادمة من البادية والمحبّة للفنّ. إلى جانب الكافيشانطا كانت هناك محلاّت للغناء والرقص تقدمّ ما يُسمّى بـ”الفصلاّت”، فبعض المقاهي كانت تستخدم فرقا رجالية لتقديم حفلات خالية من النساء ولعلّ آخر “فصل” نذكره، هو الذي كان يُعرض بمقهى المرابط بسوق الترك كل يوم جمعة مع الفنّان خميس الترنان. وبذلك تكون الكافيشانطا مكانا يجتمع فيه الرجال والنساء معا دون كوابح وتعقيدات.
استثمرت مسرحيّة “المغروم يجدّد” ما نملكه من مخزون موسيقيّ لعرضه أمام جمهور لم يعرف أجواء الكافيشانطات ولن يعرفه، وحاولت من خلال الأغاني الفكاهية الساخرة لصالح الخميسي الحديث عن الوضع السياسي المشحون في فترة ما بعد الاستقلال. عاش الملك أو مات، “المغروم يجدّد” هي فرصة لإعادة النظر في أحداث الماضي وفي امتداداتها الثقافية والسياسية الحاضرة بقوة في وجداننا وفي ذاكرتنا الجماعيّة.
iThere are no comments
Add yours