يجوز القول أن الرعاة هم السور الأول لتونس على تخوم الإرهاب، فقد أثبتت المواجهات اختلاطا واضحا لدماء الضحايا المدنيين من الرعاة ودماء العسكريين في الجبال، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل حول وظيفة الرعي في تونس ومناطق تركزها، وكيف أثبتت الأحداث استقالة الدولة من حماية مواطنيها في المناطق الوعرة، خاصة وأن بعض الرعاة كانوا في خط المواجهة المباشرة مع الإرهاب وقدموا الكثير لتونس.
ليست هي نفسها الصورة المروجة عن الرعاة في تونس أو في باقي دول العالم تعبر عن الحقيقة، فالراعي ليس بالضرورة ذلك الشخص شبه الأمي، بسيط التفكير، وعلاقته محدودة بالمناطق الحضرية والمدينة. صحيح أن عمله اليومي مرتبط بالريف والجبل والغابة، لكن الراعي في بعض المناطق التونسية يمكن أن يكون شخصا معطّلا عن العمل وخريج جامعي أو منقطع عن الدراسة في المرحلة الثانوية. ويعمل الراعي في تربية ماشيته من خلال إخراجها للكلأ في الطبيعة ويبقى لحراستها يوما بحاله في انتظار قرب غروب الشمس ليعود بشياهه إلى زريبتها، معدا نفسه ليوم رعي آخر…
ليس الرعاة تلك الفئة من الناس اللاّمبالين بما يقع في المدن من سياسة واقتصاد وعلوم، بل إن مهنتهم تضعهم أحيانا في قلب تفكير بعض مؤسسات الدولة مثل المؤسسة العسكرية والأمنية والتي أظهرت في السنوات الماضية نوعا من التوظيف لهذه المهنة.
الراعي وتأمين الجبال
صحيح أن مهنة الرعي تعد السبيل الوحيد تقريبا لسكان الجبال الوعرة للعيش، خاصة في الحدود التونسية الجزائرية، سواء في الكاف (جبال ورغة، حمام، ملاك) أو القصرين (سمامة، السلوم، الشعانبي) أو قرب سيدي بوزيد (جبل المغيلة)، لكن يتكفل الرعاة أيضا بمهمة تأمين بعض المجالات الريفية التي يعيشون فيها من خلال الانخراط في مقاومة الإرهاب، وذلك عبر المساهمة مع الجيش في استطلاع الأماكن التي يمكن أن يمر منها الإرهابيون أو يتدربون أو يتحصنون خلف تلالها وأحراشها. هذه الوظيفة التي تكون في بعض الأحيان بطلب من الجيش تحولت شيئا فشيئا إلى إشكال لما لها من خطورة على حياة هؤلاء المدنيين.
يقول علي القاسمي عم الراعي نجيب القاسمي الذي ذبحه الإرهابيون في جبل سمامة إنه “إلى الآن تستقبل أرملة الشهيد رسائل جاء فيها أنها ستلقى نفس مصير زوجها”. لكنه يستدرك قائلا “تلك الرسائل لا ترهبنا”.
إضافة إلى هذا يتعرض أهالي القرى المحاذية للجبال في ولايات القصرين والكاف وقفصة إلى غارات مستمرة من قبل المسلحين الذين يجبرهم الجوع في بعض الأحيان وقلة الدعم اللوجستي الذي توفره لهم أطراف مجهولة إلى مداهمة المساكن للظفر بكل ما يمكن أن يسد جوعهم.
يقوم الرعاة في المناطق الوعرة من الجبال الحدودية بدور أمني، وبذلك يمثلون خط المواجهة الأول مع الإرهاب. وتوضح شهادات حية لبعض الناجين من عمليات خطف من قبل الإرهابيين أن أول شيء يقوم به الإرهابيون هو تفقد الهواتف الجوالة للضحايا للتأكد من تعامل الرعاة مع القوات العسكرية المرابطة قرب تلك التخوم، و قد أفاد صالح القاسمي ابن عم الراعي نجيب القاسمي ومرافقه في شهادته:
قام عنصرين بالسطو على ثلاثة خرفان بينما تكفل البقية بتفحص هواتفهما الجوالة وبإلقاء بعض الأسئلة المختلفة.
وقد حدث هذا أيضا مع الراعي مبروك السلطاني الذي ذبحته عناصر إرهابية نزلت من جبل المغيلة إلى أحد سفوحه أين اختفطت الضحية وقامت بما يشبه التحقيق معه قبل قتله وذلك بسبب قيام مبروك في أحيان كثيرة بمحاولة اقتفاء أثر الإرهابيين في الجبل وإخبار القوات العسكرية بذلك.
أين الدولة لتأمين مواطنيها؟
أقحمت الدولة التونسية المواطنين في المقاربة الأمنية الشاملة لمكافحة الإرهاب، وقد يكون ذلك أمرا محمودا لو ضبطت الدولة طرق تأمين مواطنيها من ردود الفعل أو الاختراق من قبل الإرهابيين. وانسجاما مع هذه السياسة سبق أن أشارت فاطمة الورتاني الكاتبة العامة لنقابة أعوان وإطارات إقليم تونس إلى ضرورة “إعادة العمل بمنظومة الاستعلامات في السابق ودفع المواطن للتعاون مع أجهزة الأمن لمزيد الفعالية ضد الإرهاب”.
لكن الأحداث المتتالية والمتسمة بالفضاعة في أحيان كثيرة تناقض وجهة نظر الدولة والأجهزة الأمنية والعسكرية في الحرب على الإرهاب، فالعديد من التجارب المقارنة (خاصة الجزائرية) قد حسمت الموضوع منذ البداية بتحييد المواطنين من المواجهة مع الجماعات المسلحة وانتهاج خيار المواجهة الرسمية مع الإرهاب وذلك نظرا لما يناط بعهدة الدولة من مسؤوليات في حماية المدنيين واعتبار حياة المواطن خطا أحمر تنشأ من أجله الجيوش والقوات المسلحة لحمايته في أقصى الظروف.
قصة الأخوين مبروك وخليفة السلطاني ومن قبلهما نجيب القاسمي وعدد آخر من الشهداء تدخل في سياق إقحام الأجهزة التونسية للمواطنين في الحرب على الإرهاب، خاصة وأن تمركزهم الجغرافي ودرايتهم بالجبل تخول لهم التواجد في خطوط التماس الأولى مع الجماعات المتطرفة.
وفي الأثناء تُسجل استقالة الأجهزة الأمنية والعسكرية من حماية المواطنين، وقد يقع التجنيد المزدوج للرعاة فينخرط بذلك الراعي في دعم الإرهاب، وهناك حالات اختطاف ومحاولات في هذا الاتجاه، مثلما حدث مع أحد رعاة دوار السوالمية بجهة الطويرف من الكاف (لم تكشف الأجهزة الأمنية عن اسمه لحمايته) الذي خطف يوم 26 أكتوبر الماضي وتم العثور عليه بعد يوم واحد حيا قبل أن تستلمه وحدات الحرس الوطني للتحري معه. وإن لم يكن مصير الرعاة المخطوفين التجنيد أو الإفراج لتبليغ رسالة ما فإن مصيرهم إما الذبج أو الرمي بالرصاص.
iThere are no comments
Add yours