البحوث المُعتنية بالظواهر الاجتماعية والاقتصادية الطارئة على المجتمعات المعاصرة عادة ما تُسقِط من خططها الاهتمام الجيد بقضية التأثر النسوي بالتحولات الهيكلية لبنى الاقتصاد والمجتمع، وفي بعض الأحيان يأتي الاهتمام على الهامش.

النساء التونسيات العاملات في الاقتصاد غير المنظم موضوع دراسة أعدها كريم الطرابلسي، الأستاذ الجامعي والخبير المعتمد لدى قسم الدراسات والتوثيق التابع للاتحاد العام التونسي للشغل، كشف من خلالها عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للعاملات في هذا القطاع والسياقات العامة التي ساهمت في تغذية الظاهرة وتطويرها. وقد انطلقت الدراسة من استبيان ميداني لعيّنة ممثلة شملت حوالي  610 امرأة عاملة في الاقتصاد غير المنظم موزعات على 7 جهات تونسية (تونس، بن عروس، منوبة، القصرين، سوسة، المهدية ومدنين). ومن الجدير الإشارة أيضا إلى أن الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات سبق وأن أن خصصت دراسة ميدانية للعاملات الفلاحيات أوضحت من خلالها الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية التي تكابدها هذه الفئة.

الاقتصاد غير المنظم: الشقاء المُؤنث

مازال مفهوم الاقتصاد غير المنظم يطرح إشكالا في الأوساط الاقتصادية والبحثية بشكل عام، وتأتي صعوبة التحديد المفاهيمي من التشعب الاجتماعي للظاهرة واختلاف تجلياتها من بلد إلى آخر، خصوصا بين المراكز العالمية الغنية ومناطق الأطراف الفقيرة. في الدراسة المذكورة ينطلق كريم الطرابلسي من التعريف المُعتمد من قبل منظمة العمل الدولية الذي يصنِّف في خانة الاقتصاد غير المنظم “الذين يعملون خارج النطاق الرسمي للقانون ولا يتم تسجيلهم وتنظيمهم طبقا لتشريعات العمل والحماية الاجتماعية”.

اعتمادا على نتائج التعداد السكاني لسنة 2014 قَدّرت النساء العاملات في الاقتصاد غير المنظم بحوالي 306 ألف، وبنسبة تبلغ 32,5 بالمائة من عدد السكان المشتغلين. وتتوزع العاملات في الاقتصاد المنظم على العديد من المهن من بينها الفلاحة والتجارة والمُعينات المنزليات والخياطة والتعليم ومهن أخرى مختلفة، ويستقطب قطاعي الفلاحة والتجارة أكبر عدد من العاملات، الأول بنسبة 33,3 بالمائة والثاني بنسبة 35,5 بالمائة.

تُعاني العاملات في الاقتصاد غير المنظم من ظروف اقتصادية واجتماعية هشة تتجلى أساسا في انخفاض الأجور، إذ كشفت العينة المعتمدة في الدراسة أن حوالي 60 بالمائة من المُستجوبات يتحصلن على دخل شهري أقل من 300 د (الأجر الأدنى المضمون 338 د)، خصوصا بالنسبة للمعينات المنزليات والعاملات الفلاحيات، وترتفع الأجور لدى فئة قليلة من النساء العاملات في القطاع التجاري المرتبط خصوصا بتهريب السلع والتجارة الموازية.

ينطوي العمل النسوي في الاقتصاد غير المنظم على معضلات اجتماعية أخرى من بينها انعدام التغطية الاجتماعية إذ تشير الدراسة إلى أن حوالي 60 بالمائة من المستجوبات يتكفلن بالعلاج على حسابهن الخاص أو على حساب أزواجهن، ولاتتجاوز نسبة اللاتي يتمتعن ببطاقة العلاجي المجاني (الدفتر الأبيض) 11,7 بالمائة.

بالإضافة إلى هذا يتلازم العمل في الاقتصاد غير المنظم مع ظاهرة “اللااستقرار الشغلي”، التي تؤدي إليها جملة من الأسباب من بينها ظروف العمل وضعف المداخيل وانعدام التشريعات القانونية، إذ تشير الدراسة إلى أن 53 بالمائة من المستجوَبات اضطررن إلى تغيير أعمالهن بسبب مشقة ظروف العمل، في حين تدفع الهرسلة والتحرش 14 بالمائة منهن إلى الانقطاع. هذا وتقف أسباب أخرى وراء تغيير العمل من بينها الطرد وضعف الدخل.

النساء: الأكثر تأثرا بفشل السياسات

تنمو الهشاشة الاجتماعية للنساء العاملات في الاقتصاد غير المنظم ضمن سياقات سياسية واجتماعية تهيمن عليها ظواهر البطالة والتفاوت الجهوي والفئوي والانكماش الاقتصادي. وعادة ما تستهدف هذه الظواهر الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع وفي مقدمتها النساء، إذ يشكّل لجوءهن إلى العمل في الاقتصاد غير المنظم إجابة اجتماعية على فشل الاقتصاد الرسمي في استيعابهن ودليل على تعرضهن للميز الجنسي والاجتماعي أثناء رحلة البحث عن شغل. إذ تستعرض الدراسة جملة من المؤشرات ذات مدلول اجتماعي واقتصادي عميق من بينها ارتفاع نسبة البطالة في صفوف النساء لتصل إلى 22 بالمائة وهي نسبة تفوق بكثير المعدل الوطني للبطالة الذي يصل 14 بالمائة. بالإضافة إلى هذا يبرز عدم تكافؤ كبير بين الرجال والنساء في فرص الشغل إذ “تمثل نسبة النساء 31,3 بالمائة من السكان النشطين مقابل 68,7 بالمائة للرجال. في نفس الوقت لا يتجاوز نصيبهن من مجموع فرص العمل المتاحة نسبة 28,6 بالمائة أي ما يقارب حوالي 942 ألف امرأة عاملة مقابل 2340000 موطن شغل للرجال”.

السياسات التنموية التي راكمت واقع التفاوت الجهوي كان لها دور أيضا في اختلال التوزيع الجغرافي لنسبة البطالة في صفوف النساء، إذ ترتفع هذه النسب في الشريط الغربي مقارنة بالشريط الشرقي وتبلغ أعلى مستوياتها في بعض المدن الداخلية على غرار قفصة التي يصل فيها معدل بطالة النساء 42,7 بالمائة.

رغم ظروف العمل القاسية التي تتكبدها النساء العاملات في الاقتصاد غير المنظم والتي تتلازم مع خطاب اجتماعي يحمل نظرة دونية للمرأة العاملة ويمارس ضدها شتى أشكال الميز والوصم، فإن نمو هذه الظاهرة في صفوف النساء يدل على كفاحية المرأة التونسية وسعيها المتواصل للتكيف العملي مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وفي ذات الوقت يكشف عن الملامح البطريركية (الأبوية) للسلطة القائمة رغم ما تدعيه لنفسها من مرجعيات “حداثية”، إذ أعادت السلطة انتاج الميز الاجتماعي المسلط على النساء في شكل برامج وخطط سياسية مكرسة للتفاوت بين الجهات والفئات والقطاعات.