metayers-tozeur4
عند وصولنا إلى الواحة القديمة بأرض الجريد، كان من المفترض أن نُجري مقابلات مع بعض العمال الفلاحيين، تزامنا مع انطلاق موسم جني التمور. ولكن أهل الجريد يطلقون على عمال النّخيل صفة “الخمّاسة”. هذه التسمية تنحدر اشتقاقا من نسبة “الخْمُس” التي يقتطعها العامل من المحصول مقابل اشتغاله في الواحة طيلة السنة، وتنتظم علاقة “الخماس” بالملاّك بموجب عقد شفوي، خارج أي طار قانوني .

اقترنت هذه المهنة في الذاكرة الجماعية بصفات الخضوع والإذلال، وتشير إلى بقايا أزمنة الإقطاع والاسترقاق. ولكن التاريخ التونسي المعاصر سجّل إحدى أكبر الحركات الاجتماعية، التي كان أبطالها الخمّاسة. باتت تعرف فيما بعد بـ”ثورة خماسة الجريد”، اندلعت في أفريل 1983.

الخمّاس ورحلة الصراع مع الموت

بين الأمس واليوم ما الذي تغيّر؟ للإجابة عن هذا السؤال، يتأمل محمود قليلا، ثم يستنهض أيام الصّبا وذكرى والده الذي ورث عنه الخْمَاسة، قائلا “تقريبا لم تتغير أشياء كثيرة، مازلنا نعيش تحت رحمة “الخمس”، الذي لم يعد كافيا لسد قوتنا اليومي”. ثم يشير بيده إلى الغابة التي يشتغل فيها “أتحمل أعباء تلقيح النخيل وسقايته ومداواته لأظفر في نهاية المطاف بأجرة سنوية لا تتجاوز الـ1300د”. وحتى يعيل أبناءه قام محمود -43 سنة- بزراعة الخضروات تحت أشجار النخيل، مشيرا إلى أنه يرفض مزاولة أعمال أخرى.

حدثنا محمود عن قصص الكثير من زملاءه “الخمّاسة”، الذين سقطوا من قمم النخيل، فلقيَ البعض حتفهم، وانتهت الأمور ببعضهم الآخر إلى التسوّل في شوارع مدينة توزر. أما من نجا بنفسه فقد هاجر الواحة إلى العمل في الحضائر. ولكن هناك أيضا من جُبِل على حب الواحة رغم أذيّتها. هذا العناد تلخّصه حكاية محمد الناصر، 56 سنة، الذي مازال يحمل آثار الكسور في جسده. يسترسل محمد الناصر في سرد رحلته مع النخيل “بدأت العمل مبكرا في سن الـ13 لأني كنت الولد الوحيد لعائلتي مع إخوتي البنات. وجدت نفسي مضطرا للعمل لأساعد والدي، لم أزر المدارس مثل الأطفال، لم أقضي أوقاتا في اللعب مثلهم”. ثم يشير إلى آثار جراح على كتفه ويده اليسرى “سقطت من قمة النخيل ثلاث مرات، ومنذ 8 سنوات لم يعد بإمكاني التسلق، ولكني لم أهجر الواحات، أفضل أن أشتغل في الفرز وتجميع الصابة على العمل في الحضائر”.

محمد الناصر يعد واحدا من بين مئات الخمّاسة الذين سقطوا من قمم النخيل ولم يلتفت إليهم أحد. وأثناء جولتنا علمنا أن شابا يبلغ من العمر 25 سنة سقط منذ شهر أثناء تسلق النخيل، ولم يتم إسعافه إلى أن مات متأثرا بكسوره، وروى لنا أحد أقاربه أن مشغّله لم يحرك ساكنا.

الخماس: صانع دون اعتراف

رغم أن الخماس يشكل العماد البشري الذي يعود له فضل نماء الواحات، فإنه مازال خارج دوائر الاعتراف الرسمي والاجتماعي، بسبب هيمنة رواسب الإقطاع وتملص الدولة من أي واجب تجاه القطاعات الشغلية الهشة. وقد أدى تهميش هذا العنصر البشري إلى إهمال واحات الجريد وفناء البعض منها، فقد هجرها الخماسة الطاعنين في السن بسبب الحيف، وتركها الشباب إلى مهن أخرى مثل السياحة، لأنها دون ضمانات واقترنت في الذاكرة الجماعية بـ”الحقرة” والتسلط.

في هذا السياق أكد محمد علي الهادفي، الكاتب العام الجهوي لاتحاد الشغل بتوزر، أن “عدد الخماسة في تراجع كبير بسبب غياب التشريعات التي تضمن الحقوق وتنظم القطاع، في حين أنه في سنة 1982 كان هناك ما يقارب الـ2000 خماس”. وأضاف الهادفي بأنه لا يمكن الخروج من هذا المأزق الذي يهدد حياة الواحات -خصوصا القديمة منها- إلا بمحاربة تشتت الملكية والعمل على خلق استقرار في اليد العاملة عبر توفير الحقوق الاجتماعية للخماسة.

أفريل 1983: ثورة على الملاّكة والسلطة

مازال أهل الجريد يحتفظون في ذاكرتهم بثورة الخمّاسة التي اندلعت في 11 أفريل 1983. قادت إليها آنذاك العديد من العوامل أهمّها تراكم الاحتقان في صفوف الخمّاسة بسبب النظرة الدونية التي يمارسها عليهم ملاك النخيل.إضافة  إلى أن شتاء تلك السنة عرف فيضانات قاسية أتلفت المحاصيل وجرفت معها بيوت الطّوب التي يقطنها الخمّاسة. وعندما صرفت السلطات تعويضات الفيضانات حرمت منها الخماسة، وبالمقابل تمتع بها ملاك النخيل.

ثورة أفريل 1983 التي دامت حوالي 9 أيام، قادتها نقابة الخماسة التي تأسست في 21 جانفي 1982 بمقر الاتحاد الجهوي للشغل بتوزر بحضور الأمين العام السابق للاتحاد، الحبيب عاشور. وقد أفلحت النقابة الفتية في استقطاب العديد من عمال النخيل، منادية أساسا بتمتيع هذه الفئة بالضمان الاجتماعي وتحسين الأجور. هذه المطالب أغضبت ملاكة النخيل وعطلها اتحاد الفلاحين والسلط الجهوية، رغم أن مطلب الضمان الاجتماعي يكفله قانون 12 فيفري 1981 الذي يتعلق بالنظام الاجتماعي في القطاع الفلاحي.

إصرار ملاكة النخيل على عدم الاستجابة لمطلب الضمان الاجتماعي، دفع عدد كبير من الخماسة إلى الإضراب عن العمل بإغلاق المسالك المؤدية للواحات وقطع قنوات الري. وقد تواصل الإضراب إلى أن عمدت السلطة إلى إيقاف عدد من النقابيين، وصدرت في شأنهم أحكام بشهرين سجن بتهمة تعطيل العمل. وأمام تواصل الاحتقان في صفوف الخماسة اضطر ملاكة النخيل والسلط الجهوية إلى الرضوخ لمطالبهم وتمتيعهم بالحق في الضمان الاجتماعي.

مازالت أحداث أفريل المشحونة بالغضب والتمرد ترتسم في مخيال كل من ورث مهنة الخْماسة عن أبيه وجدّه، ولم ينس الملاّكة أيضا أيام التطاول على سلطتهم، فلجؤوا إلى الضغط على نقابة الخمّاسة بمساعدة من السلط الجهوية، إلى أن اندثرت في أوائل التسعينيات. وهكذا جُرّد الخماسة من أداتهم التنظيمية، ولم تتطور تجربتهم النقابية. فباستثناء جيل الثمانينات الذي تمتع بالضمان الاجتماعي، حُرم كل الذين زاولوا الخْمَاسة بعد تلك الفترة من هذا الحق.

عندما اندلعت أحداث أفريل 1983، كان محمد الناصر في سن الـ23، في مرحلة التدرب على مهنة الخْماسة. بعد مرور حوالي 33 سنة مازال يحتفظ بصور باهتة عن الأحداث والفاعلين، ولكنه يذكر بإطراء شديد اسم “سالم عبد المجيد”، الكاتب العام الجهوي السابق لاتحاد الشغل بتوزر، الذي اعتبره مهندس ثورة 1983.