Chaambi-adnend-helali-danse

تحت سفح جبل “تيوشـّة” في قرية هنشير العسل بمعتمدية سبيبة، ينثر عدنان الهلالي فصول روايته الأخيرة “يوميات آخر ضبع في الشعانبي”. يَكسِر الكاتب الجبلي ضوابط الاحتفاء القديمة، مُلقيًا برٍوايته في قلب مسالك الرّعاة المزروعة بالحلفاء والألغام، ويجعل من القراءة حفل رقص بدوي يُشارك فيه كل سكان الجبل.

التقيناه منذ أيّام في مساء خاطِفٍ بأحد المقاهي المطلّة على شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة. كان يهيِّئ نفسه للعودة إلى الديار للمشاركة في حفل تقديم روايته. تحدث بكل شغف عن ثقافة الجبل المنسية وعن “عيد الرعاة” و”المركز الثقافي الجبلي”. وعندما سألناه عن شيء من سيرة عدنان قال «ابحثوا عني داخل مفاصل الرواية»…

عشق الجبل

عدنان الراوي يحفظ الجبل عن ظهر قلب، فقد قضّى صِباه في ريف “الوساعية” الواقع على سفح جبل سمّامة، هناك رَعَى الأغنام مع أترابه واختفى بين أشجار الصّنوبر والضرّو والبلوط.

تحوّل الانتماء العميق لهذا المكان إلى حالة فنية صاخبة لوّنت مسيرة أستاذ الفرنسية. بدأت بتأسيس عيد الرعاة سنة 2011، أين أراد الاحتفاء بأصدقائه القدامى البعيدين والمنسيين، وأفلح إلى حد ما في جعل جبال الشعانبي وسمامة والمغيلة والسّلوم مزارًا للإعلاميين والمبدعين، الذين يأتون من أماكن عدة لمشاركة أهل الجبل “متروسة الزقوقو” التي تُسقِط حبات الزقوقو من أشجارها، وموسيقى “الطّرق” نشيد النايات الجبلية، ومآدب جز الأغنام.

ويبدو أن الرجل كان مَهُوسًا بفكرة تحويل الجبال المحاصرة والمنسيّة إلى قطب للثقافة فأطلق فكرة المركز الثقافي الجبلي الذي يقيم أنشطته على سفوح الجبال رغم أصوات المدافع والرصاص. ويؤكد عدنان الهلالي أن «المركز الثقافي الجبلي تأسس متحررا من زنازين الإسمنت لكنه ينتج وينظم تظاهرات على مدار السنة، من بينها مسرحيات للأطفال على غرار “جنية سمّامة” و”سندريلا تيوشة” و”حطّاب مغيلة».

تأسّس المركز الثقافي الجبلي خارج مخططات الدعم الثقافي الرسمي، ولم يخف الكاتب نقده لهذه السياسة الثقافية بأسلوب تهكمي في روايته، إذ يقول على لسان البطل “خطر ببالي أن أقترح عَرضا على وكيل الثقافة. فليدعم ضبعا طموحا مثلي لي أغنية مطلعها : «أفتخر بلوني وإن كان قبيحا».

القنابل تخترق هدوء الجبل

Chaambi-adnend-helali-lecture

بعد قرون عديدة خِلنا أن الجبل سيصبح مسرحا للحياة فصار مسرحا للألغام فسيحا

. هكذا تلخّص رواية “يوميات آخر ضبع في الشعانبي” الحالة التي أصابت جبل الشعانبي والجبال المحيطة به منذ أن وطأتها أقدام الغزاة الجدد.

صارت النسائم المُعَطَّرَة بالإكليل مداخن تبعث على الاختناق. وبدأت مواسم الهجرة من الشّعاب تحت أزيز الرصاص وأصوات القنابل. وإزاء هذا القلق القاتل يعيد الكاتب ترتيب أوضاع الجبل المُستباح، مُتخلّيا عن صوته داخل الرواية لصالح الحيوانات. ويختار الكتابة بأسلوب “الأليغوريا” التمثيلي لبث الرّوح في الكائنات الحيوانية الصامتة التي دفعت هي الأخرى ثمن إحراق جبل الشعانبي، وعلى لسانها يسرد آلام سكان الجبل ورُعاته «جبلنا، ها قد مُنِعنا منه وصرنا نرعى القطعان على السّفح، وحتى السّفح سنُحرم منه لأنه جزء من المنطقة العسكرية المحظورة».

يدافع الكاتب عن اختياره الفنّي بين ثنايا الرواية عندما يقول

علينا أن نُعيد تنظيم الجبل وكتابة معجمه. فالبشر نعتوا الحيوانات حسب شهواتهم. كل ما لم يلذ لهم ولم يزيّن فطورهم أو يبرقش قصورهم فهو كريه مقيت، ويا لعمامة عماهم وصدأ صداهم.

“ضبعون” والتدمير الأيكولوجي

يختفي عدنان الهلالي وراء شخصية “ضبعون”، بطل الرواية الذي يصوّر لنا تفاصيل الحياة في الجبل، ويلمّح الكاتب إلى هذا الاختفاء «هموم ضبعون تلبسني أكثر فأكثر. فجأة بدأت أشعر بانشراح الهائم في الصحراء ينصت إلى شدو الماء. الآن التحمت بذاتي، وهذا الوبر الرمادي هو كسوتي الحقيقية…خرجت من الخربة أركض صائحا أنا ضبعون، أنا ضبعون».

وبأسلوب طريف يُعيد الكاتب سرد الحياة الجبلية التي أصبحت مسرحًا لمعارك الرعب وملاذًا لحرّاس الإله، ويصوّر الصّراع اليومي للحيوانات مع حرب التدمير الأيكولوجي التي اجتاحت جبال الشعانبي والسّلوم وسمّامة وغيرها منذ انطلاق أول المواجهات المسلحة بين الجماعات الإرهابية والقوات المسلّحة.

ويَسرد عدنان معاناة الإنسان والحيوان -على حد السواء- من خلال مرافقة طويلة لشخصية “ضبعون”، وينقل حالة التقلّب التي أصبح يعيشها الجبل، وحتى الزمن في هذا المكان «لا يشبه الزمن. صرنا لا نحتسب الأيام بدوران الشمس وإنما بدوراننا المتعثر حول الجبل. العصافير تهاجر قسرا نحول مجهول السهول».

ولا يكتفي الكاتب بتتبّع مسار المعاناة وإنما يُقحِم الحيوانات في ملحمة القصاص من الغرباء الذين زيّنوا الجبل بمشاهد الخوف والدماء، ونلمح هذا في العديد من مقاطع الرواية من بينها «في الليلة الموالية مررت مع كلبون الكئيب قرب مقبرة الدّوّار فوجدنا قبرا جديدا إنه قبر حارس النّحل صديق النحل بل شقيقه….النحل جاء ينعى حارسه…النحل سيلسعهم…النحل أقسم بزهر الإكليل على أن يثأر لحارسه الأصيل».

“الرعاة أفضل من الدعاة”

Chaambi-adnend-helali-troupeau

كتب عدنان “يوميات آخر ضبع في الشعانبي” وهو يلامس مأساة الرعاة، السكان الأصليين للجبل، الذين احتل الغزاة الجدد أرضهم وقَطعوا عليهم الطريق الآمن إلى الجبل. وقد نضَج نص الهلالي وهو يستشرف المذبحة التي تترصد الرعاة. وبالفعل أصبحت مقصلة الجهاديين تترصد رؤوس الرعاة، وتم اغتيال الراعي نجيب القاسمي بمنطقة سيدي حراث بجبل سمامة، ثم اغتيال الراعي مبروك السلطاني في جبل المغيلة التابع لولاية سيدي بوزيد.

يحاول عدنان الهلالي زعزعة الخطاب الجهادي، الذي يدّعي أحقية قتل الرعاة لأنهم وشاة ومخبرين، من خلال إرجاع الأمور إلى نصابها والتذكير بأن الأنبياء كانوا في الأصل رعاة، مُستلهما الحديث النبوي الذي يقول «ما بَعث الله نبيًا إلا رعى الغنم». ويتجاوز الكاتب حدود الربط بين تاريخ الرعاة والأنبياء، مُبشِرا بثورة الرعاة الذين أطرِدوا من الجبل إلى السهل، ويقول في متن الرواية «أشعيا النبي الذي قالوا إن الجبل يحمل اسمه…جاء يرى نكبة جبل الفقراء. أشعيا، لو رآك الرعاة الذين يئنون في السفح، لثاروا عليك».

ويبشر الكاتب بعودة الرعاة إلى أرضهم…هذه الأرض «التي لا تنجب مستثمرين، توفر الثمار فقط، ثم تعرضها على قارعة الطريق».