المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

essebsi-reconciliation-nationale

بقلم شكري بن عيسى،

تطورات دراماتيكية تعيشها الاسابيع الاخيرة هيئة الحقيقة والكرامة وتحديدا منذ ايداع مشروع ما يسمى بالمصالحة يوم 16 جويلية المنقضي بمجلس نواب الشعب، ووصلت مداها بعد رفت نائب الرئيسة بن سدرين زهير مخلوف على خلفية تسريب رسالة “الوشاية” التي ارسلها لللبرلمان.

ولا ندري حقيقة بعد الذي حصل، ولا يزال يتفاعل بحدة في الساحة السياسية والاعلامية وداخل هيئة الحقيقة والكرامة بعد استقالة احد اعضائها القاضي محمد العيادي (مازالت غير نهائية)، هل ان مسار العدالة الانتقالية سيتواصل؟ وهل ستستمر الهيئة في شكلها الحالي باعضائها الحاليين ورئيستها الحالية؟ وفي النهاية هل سنصل يوما الى مطالب كشف الحقيقة ومحاسبة الجناة وجبر ضرر المتضررين وتفكيك منظومة الفساد والاستبداد وصولا الى المصالحة الحقيقية، خاصة بعد انطلاق “هجمة” برلمانية اولى لمقاضاة بن سدرين على خلفية تصريحات الناشط عزيز عمامي المهددة بحرق البرلمان وثانية بفتح تحقيق برلماني (طلبه 62 نائبا) حول مزاعم فساد متعلقة بها بعد رسالة مخلوف؟

والتساؤل المطروح في الصدد بعد التداعيات الخطيرة الحاصلة اليوم، هل ان طرح رئاسة الجمهورية مشروع القانون المثير للجدل كان هدفه الحقيقي تمرير القانون الحامي للفاسدين (كما وصفه الكثيرون)، ام كان مناورة لنسف مسار العدالة الانتقالية، ام الاثنين معا لاعادة تغيير خارطة هيئة الحقيقة والكرامة و”تعديل” مسار العدالة الانتقالية بما يأخذ بعين الاعتبار المشهد السياسي الحالي والمنتصرين الجدد ومن وراءهم الممولين الفاعلين؟

ما تجدر ملاحظته في المنطلق ان مسروع القانون كان تم الاعلان عنه منذ 17 مارس 2015 بشكل صادم على اعمدة مجلة “جون افريك” الالكترونية التي تربط رئيس تحريرها علاقات شخصية مع السبسي، مع تاكيد موافقة راشد الغنوشي على التوجه تحت حجة “مصلحة الوطن”، وتاكد الامر بالاعلان عنه في احتفالية عيد الاستقلال في الخطاب الرئاسي.

عفو شامل.. وتشويه العدالة الانتقالية

وكان واضحا منذ البداية الارتجال في التوجه ووجود ضغوط على الرئاسة كانت بارزة في تقارير صندوق النقد الدولي المتعددة الداعية لاتمام المصالحة بسرعة، وايضا من رموز النظام النوفمبري الذين نزلوا بثقلهم وراء النداء والسبسي وكانوا احد ابرز عوامل الصعود للسلطة، ما جعل مشروع القانون يتأخر بعد الاعلان عنه لاربعة شهور كاملة ليخرج ضعيفا مفككا ركيكا في الصياغة ومقتضبا في اثني عشر (12) فصلا فقط، اخطرها على الاطلاق التنصيص على “ايقاف التتبعات والمحاكمات واسقاط التتبعات” في حق الموظفين العموميين المتورطين في افعال تتعلق بالفساد والاعتداء على المال العام (الفصل 2)، و”انقراض الدعوى العمومية وايقاف المحاكمة وسقوط العقوبة” في حق الاشخاص المتورطين في نفس الافعال الذين ينفذون بنود “الصلح” (الفصل 6).

وليس اقلها خطورة ما ورد في في الفصل الثالث من احداث “لجنة مصالحة” تتراسها رئاسة الحكومة غريبة في صلاحياتها وتحوزها لسلطات قضائية ستفتح الباب واسعا للمحسوبية والفساد والابتزاز في دراسة الملفات، وايضا تركيبتها وطريقة تعيينها من قبل رئيس الحكومة دون الحديث عن مسألة الكفاءة، هذه اللجنة التي ستسطو على صلاحيات “لجنة التحكيم والمصالحة” المحدثة بموجب قانون العدالة الانتقالية في فصله 45 وما بعده. وهو ما اكده الفصل 12 من مشروع قانون السبسي الذي ينص دون مواربة بانه “تلغى جميع الاحكام المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام الواردة بالقانون الاساسي (..) المتعلق بارساء العدالة الانتقالية وتنظيمها”.

عدالة انتقالية.. بشروط الجناة

وظهر مشروع القانون في شكل “ترجمة” شروط ‘المنتصر” سياسيا ولكن تحت “الايديولوجيا التبريرية” (على حد قول المفكر نعوم شومسكي) المعنونة تحت شعار “مصلحة الوطن” التي اخضعت الغنوشي للموافقة واستثمار تسبيق حزبه هدف “المحافظة على الوجود الداخلي” وتحقيق “القبول الدولي” لابتزازه سياسيا، خاصة وانه لا يمكن له ان يعارض سلطة رجال المال الذين اصبح يستفيد منهم حزبه هو الاخر ويمكن ان يستفيد اكثر بعد مساندتهم عبر القانون المقترح، خاصة وان “اللحمة سمينة”.. فجاء مشروع القانون يعكس بوضوح فرض “سوق موازية” للعدالة الانتقالية باشتراطات واملاءات الجناة ان لم يكن الغاء “السوق الاصلية” تماما.

محسن مرزوق المسوق الرئيسي للمبادرة ومهندسها مع رضا بلحاج اظهر “صلفا” سياسيا في دفاعه المستميت عنها الى حد توجيه الاتهام المباشر بعدم مراعاة مصلحة الوطن (في تحوز واضح للحقيقة والمصلحة والقيم) لكل من يعتزم النزول للشارع لاسقاطها سلميا وديمقراطيا في الحشد الذي هددت به المعارضة البرلمانية خاصة (الجبهة والسي بي ار والتيار وحركة الشعب والجمهوري..) الذين استفزتهم المبادرة الرئاسية التشريعية بشدة، ومكنتهم الحقيقة من هامش تحرك سياسي واسع بعد الركود الذي صبغ نشاطهم على مدى قرابة الثمانية الاشهر الفارطة.

المعارضة.. تتصدر المشهد

المعارضة التي اتهمت السلطة بعرضها هذا القانون بتمزيق ما بقي من وحدة وطنية وزرع الاحتقان وتفجير الشارع ونسف مسار العدالة الانتقالية والتشريع للفوضى وترسيخ الافلات من العقاب وتبييض الفساد والتطبيع مع الفاسدين وفرض اشتراطاتهم عبر مصالحة مغشوشة غير حقيقية، حذر بعضها من اندلاع ثورة ثانية ستاتي على الاخضر واليابس.

المعارضة اليوم حققت نوعا من “الوحدة” على اساس “وحدة” الخصم ووجدت عمقا شعبيا خاصة مع تنوع الحملات الاعلامية على شبكات التواصل الاجتماعي “فايسبوك” واطلاق شعارات وعناوين مبتكرة استوعبت الكثير من المتعاطفين خاصة وان الامر يتعلق بـ”المال العام” في الوقت الذي يعاني فيه المواطن ويرزح تحت ضغط المعيشة الحاد، وزيادة ان الامر ياتي في فترة رسملة البنوك العمومية بضخ قرابة 900 مليار في البنوك العمومية المنهارة نتيجة نهبها من الرموز الفاسدة وبعد التوجه في اقرار ارساء منحة شهرية بـ900 دينار للنواب.

مأزق النهضة.. “ضرورة” التعديل

النهضة برغم انخراط الغنوشي منذ البداية في المشروع و”تخريجة” علي العريض الفقهية بوجود عديد الايات القرانية التي تحث على الصلح وتحض على المصالحة، فان الامور بدأت تتغير والدكتور المكي اصبح يقود تيارا “تعديليا” لا ندري ان كان “تكتيكيا” من الحركة ام هو توجه خاص به (قد يكون مبدئي وقد يكون تكتيكي لدعم مركزه بين انصار الحركة)، وفي كل الحالات فالنهضة وجدت نفسها في مأزق خاصة وانها “المأتمنة” كما تسوق لنفسها على اهداف الثورة والدفاع عن ضحاياها العديدين الذين عانوا وقاسوا بسبب الفساد، وفضلا عن ذلك فالتيار يزداد مع انخراط عديد فعاليات المجتمع المدني واخرها اتحاد الشغالين في مناهضة مشروع القانون وقبل ذلك “الائتلاف المدني ضد مشروع قانون المصالحة “، زيادة على موقف افاق “الوسطي” باشتراط «اضفاء تعديلات على القانون حتى لا يتم تكريس الإفلات من العقاب وتُشوه العدالة الانتقالية»، خاصة وان الاحتقان الشعبي موجود وانتقال الاحتجاجات الى الميدان قد يخرجها اكبر الخاسرين.

الحركة الاسلامية بدات بالمراجعة وتصريحات الغنوشي “المعدلة” والحديث عن احداث “لحنة مختصة لدراسة مشروع القانون” يصب في هذا الاتجاه، ولا يستبعد ان يقدم المكتب التنفيذي عديد الاحترازات الجوهرية خاصة وان لا دستورية القانون واضحة سواء في دوسه مسار العدالة الانتقالية او عديد المقتضيات الدستورية الاخرى منها مبادىء علوية القانون (الفصل 2)، وضمان استخلاص الضريبة ومقاومة الغش والتهرب الجبائيين (الفصل 10 . 2 )، وحسن التصرف في المالي العمومي ومكافحة الفساد (الفصل 10 . 3 )، والعدالة الاجتماعية (الفصل 12 )، وخدمة الادارة للصالح العام والمواطن وحياد الادارة وشفافية الادارة والمساءلة (الفصل 15 )، والمساواة امام القانون (الفصل 21)، واحترام رئيس الجمهورية للدستور (الفصل 72 )، واختصاص رئيس الجمهورية (الفصل 77 )، وفصل السلط واستقلال السلطة القضائية (الفصل 102 )، والتزام الدولة بمنظومة العدالة الانتقالية (الفصل 149 فقرة عدد 9 )، هو ما سيجعل حظوظ تمرير القانون ان تمت المصادقة عليه في صيغته الحالية عند فحصة من هيئة دستورية القوانين منعدمة خاصة وان جمع 30 توقيع لنواب للطعن في دستوريته اصبح متاحا اليوم.

اسئلة حارقة.. اختيار نهج الانهيار؟

والحقيقة لا نعلم لحد الان بالتدقيق الخلفية الحقيقية لطرح هذا المشروع للتداول في المجلس النيابي خاصة بعد تازم الاوضاع في البلاد في مختلف الاصعدة مع ركود النمو وتراجع التنمية وارتفاع نسبة البطالة والتازم في قطاع السياحة والوضع الامني الهش وتواصل الاحتقان الاجتماعي في قطاع التعليم وتعطل المفاوضات الاجتماعية وفي ظل تأزم العلاقة مع الشقيقة الحزائر والعيش في ظل الطوارىء الممدد مع تدهور الحريات، وهل ان الامر في علاقة بهذا الواقع للتغطية عليه!؟

وفي المحصلة يطرح السؤال بالبنط الكبير هل سيحقق مثل هذا القانون على فرض المصادقة عليه هدفه المعلن في “المصالحة” وفي “تهيئة مناخ ملائم للاستثمار” وفي “تعزيز الثقة بمؤسسات الدولة”، والحال اننا اصبحنا في واقع الانقسام الحاد وازدياد الاحتقان وتآكل الثقة في الدولة بمختلف اجهزتها ومؤسساتها، و”الفتنة” اطلت براس كبير، ولا ندري حقا هل ان الفشل في الحكم هو ما دفع بخلط الاوراق التي يمكن ان تقودالى الانهيار العام لا قدر الله، وهل ان من طرح مشروع القانون للتداول واع بكل هذه المخاطر الكبيرة على حاضر ومستقبل البلاد!