مأساة أهالي برج شاكير بدأت منذ أكثر من 15 سنة بسبب المعاناة الصحيّة للسكّان من مصبّ النفايات. هذه البلدة التي تبعد عن العاصمة 8 كيلومترات ويتجاوز عدد سكانها 000 50 نسمة (سكان العطّار، برج شاكر، الجيّارة وسيدي حسين) كانت وجهة نواة لترصد عن كثب مأساوية الوضع الصحيّ والبيئيّ في المنطقة.
مصبّ جبل برج شاكير الذّي أنشأ في سنة 1999 يعتبر أكبر مصبّ نفايات في تونس الكبرى (ولايات تونس، منوبة، أريانة وبن عروس)، إذ يمتدّ على أكثر من 120 هكتار كانت في السابق مساحة مزروعة بأشجار الزيتون واللوز والحبوب.
يوميّا، تصل الشاحنات إلى مصبّ برج شاكر لتفرّغ ما يتراوح بين 2700 إلى 3000 طن من النفايات المختلطة. وفي طريقها تملأ الأجواء بسحب من الغبار كما تنشر القمامة التي تتساقط من الحاويات على الطريق وداخل المناطق الحضريّة وسط إهمال تام من قبل العاملين والمشرفين على المكبّ لمخاطر هذه التسربّات. هذا إضافة إلى انهيار السور المحيط بالمكبّ والذّي أدّى إلى تدفّق عشرات الكلاب السائبة على المنطقة.
مظاهر الإهمال والاستهتار بأبسط قواعد الحماية أفرزت وضعيّة بيئيّة مزرية في منطقة العطّار التي يختنق أهاليها نتيجة الروائح الكريهة التي تعمّ المكان.
المهنة القاتلة
التلوث الناجم عن مصبّ النفايات زاد انتشاره وتوسّعه حول محيط برج شاكير ليتحوّل إلى عامل أساسي في العديد من الأمراض التي أصيب بها سكّان المنطقة خلال الفترة الأخيرة.
احد الحالات التي رصدتها نواة خلال تحقيقها في برج شاكير كانت لكمال المرواني الذّي توفيّ نتيجة لاستنشاقه الدائم للروائح المنبعثة من المصبّ الذّي يعمل فيه. لتتطوّر حالته ويصاب في نهاية المطاف بسرطان الرئة. الضحيّة لم يجد بدّا من تجاهل نصائح الأطباء ومواصلة العمل في مصب النفايات نظرا لظروفه الماديّة الصعبة، خصوصا أنّ هذا الأخير كان محروما من التغطية الاجتماعيّة سواء من جانب الوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات (ANGED) أو من شركة النقل ECOTI، التي تستغلّ المصبّ المذكور.
حول هذه الحالة، يعلّق حبيب عمران؛ الرئيس المدير العام للوكالة الوطنيّة للتصرّف في النفايات قائلا:
وفقا للوائح الإدارية للوكالة، لا يسعنا التدخّل على الصعيد الاجتماعي لفائدة عمال الشركة المشغّلة للمكبّ، ومع ذلك، فقد تعهّدت بصفة شخصيّة بمتابعة ملفّ كمال المرواني وعائلته.
مأساة كمال لم تكن الحالة الوحيدة التي رصدتها نواة في مصبّ برج شاكير، فمحمد علي الطرابلسي كان الضحيّة الثانية لهذه المهنة القاتلة. إذ نتيجة لمستوى التلوّث المرتفع فقد هذا الأخير بصره، بالإضافة إلى تعرّضه لإصابة في ساقه قد تصل به إلى البتر بعد تعرّضه إلى وخزة حقنة ملوّثة أثناء عمله هناك.
السبب الرئيسيّ لهذه المآسي الصحيّة يعود بالأساس إلى أنّ عمليات التجميع ودفن النفايات تتمّ لمدّة طويلة دون مراعاة للقواعد الصحيحة، كما تمّ تجاهل تصنيف النفايات وتجميعها وفقا لمخاطرها والانبعاث السامّ الناتج عنها.
بغضّ النظر عن الروائح الكريهة المنبعثة عن المصبّ، فإنّ سكان برج شاكير كانوا ولفترة طويلة يستنشقون الغازات السامّة المنبعثة من تلال النفايات الموجودة في المنطقة. هذه المخاطر الناجمة عن النفايات تستوجب من الشركة المستغلّة للمصبّ وضع نظم لالتقاط هذا الغاز والسيطرة على ارتداداته السلبيّة على صحّة السكّان وعلى الوضع البيئيّ في المنطقة، ولكنّ الآلية التي يتم التعامل بها مع الفضلات المجمّعة في برج شاكير وهي الحرق بالأساس تظلّ فعاليتها محدودة للغاية. إذ أنّ جزءا من الغاز يتسرّب إلى الجوّ مما يؤدّي إلى انتشار سحب من الدخان التي تحتوي على العديد من الجزئيات السامّة، من ضمنها المعادن الثقيلة، وهو ما يمثّل تهديدا خطيرا على البيئة وصحّة السكّان الذين يعانون من تفاقم أمراض الجهاز التنفسي الناتجة عن تراكم السموم التي يحملها الهواء في المنطقة.
الأجيال القادمة تختنق
تنصّ المادة 47 من الدستور التونسي على أنّ:
حقوق الطفل على أبويه وعلى الدولة ضمان الكرامة والصحة والرعاية والتربية والتعليم. على الدولة توفير جميع أنواع الحماية لكل الأطفال دون تمييز ووفق المصالح الفضلى للطفل.
لكنّ هذا الحقّ الدستوريّ يبدو غائبا في برج شاكير، حيث على بعد مسافة لا تتجاوز بالكاد 500 مترا من مصبّ النفايات تقع مدرسة ابتدائيّة تتعرّض بصفة دائمة لما تحمله الرياح من غازات وجزئيات سامّة تستقرّ في رئات التلاميذ.
يعلّق حارس المدرسة غاضبا حول ارتدادات قرب المدرسة من المصبّ قائلا:
هذا الوضع الكارثيّ أدّى إلى إصابة 140 طفلا بمرض الربو، كما وتمثّل ساعات الدرس كابوسا حقيقيّا لهؤلاء التلاميذ الذّين لا يستطيعون حتى التركيز أثناء فصول الدراسة بسبب الروائح الخانقة. إضافة إلى هجمات الكلاب السائبة التي تجوب بحرية قرب فصولهم الدراسية.
بالفعل، كان الأطفال الذّين قابلناهم في المدرسة يعانون من الربو، واضطرابات القلب والجهاز التنفسي، والأمراض المعدية، والحكة وتهيج الجلد.
هذه الأمراض لم تقتصر على تلاميذ المدرسة فحسب، بل تنتشر على نطاق واسع لتشمل معظم الأهالي في المنطقة. إضافة إلى ارتدادات هذه الأمراض على الصعيد النفسيّ على غرار الصدمات النفسية والقلق والتوتّر، لتتحوّل حياة الأهالي إلى سلسلة من المعاناة والآلام التي لا تطاق.
لقد كان الوضع المأساوي الذّي وصلت إليه منطقة برج شاكير والبلدات المحيطة بالمصبّ نتيجة طبيعيّة لسياسة التنصّل من المسؤوليّة واللامبالاة من قبل الدولة تجاه التزاماتها التي ينصّ عليها الدستور وهي ضمان الحياة الكريمة والبيئة الصحيّة للمواطنين كما جاء في الفصل 21 من الدستور «تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامّة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم»، أو في الفصل 45 الذّي ينصّ على أن «تضمن الدولة الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ. وعلى الدولة توفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التلوث البيئي».
لقد حاول سكّان بلدة العطّار الاحتجاج في مناسبات عديدة تعبيرا عن ضيقهم وغضبهم من وضعهم المأساويّ. عندما تواترت الشكاوى في شهر مارس عام 2014، تدخّل وزير البيئة في محاولة لتخفيف الاحتقان والسيطرة على غضب الأهالي. إذ تمّ تنظيم قافلة صحية خلال شهر أفريل من نفس السنة بالتعاون بين الوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات ومنظّمة أس.أو.أس بيئة إضافة إلى بعض سكان المنطقة. ولكنّ هذا الإجراء لم يكن سوى ردّة فعل وقتيّة على احتجاجات الأهالي ومحاولة لتسكين غضبهم ولم يرتقي إلى مستوى الإستراتيجية المستدامة لمعالجة مشكلة التلوّث في برج شاكير.
“البرباشه”، حين تصبح القمامة مصدر رزق
كلّما اقتربنا أكثر فأكثر من المصبّ، كلّما ازدادت المشاهد التي رصدتها كاميرا نواة أكثر بؤسا وتعاسة حول أناس صارت القمامة مصدر رزقهم الوحيد، وأين يتحوّل خطر الموت اختناقا أو تسمّما شرّا لا بدّ منه لاستمرار حياة هؤلاء “البرباشه”.
ما أن يفتح مدخل المصبّ حتّى يسارع عشرات الرجال والنساء إلى تلال القمامة في رحلة يوميّة للنبش والبحث في أكوام النفايات. ولكنّ ما يثير الدهشة هو حجم العدائيّة الذّي قابلناه من طرف هؤلاء الذّين يرتابون من وجود الغرباء على ما يعتبرونه ملكهم الخّاص.
لقد تحوّل محيط المصبّ إلى ما يشبه الحيّ السكنيّ لمئات “البرباشه” كما يصطلح على تسميتهم باللهجة التونسيّة، وهم أولئك الذّين يعتاشون من نبش النفايات واستخراج المواد الصالحة بالنسبة لهم لإعادة الاستهلاك أو الرسكلة.
إنّ كارثيّة مستوى البطالة بين السكان المحليين وتدهور الوضع الاجتماعي دفع المئات من أهالي تلك المنطقة إلى اللجوء إلى هذه المهنة، حيث بلغ عدد البرباشه تقريبا ما يفوق الخمسمائة نفر.
ويعتمد نشاطهم بالأساس على الفرز يدويا واستخراج بقايا المواد الغذائية ومختلف المواد القابلة لإعادة التدوير أو التي يمكن إعادة استخدامها في مصّب النفايات. هذا ويتجاهل أصحاب هذه المهنة إن صحّ التعبير مخاطر التعاطي مع هذه المواد الملوّثة في ذلك الفضاء غير الصحي والخطير والمزدحم.
إذ أنّ البرباشه يعرضون حياتهم لجميع أنواع الكوارث على غرار الانفجار والتسمم الحاد والاختناق بالغازات السامّة وغيرها من التهديدات. كما أنهم يتعاملون دون حماية مع المواد الكيميائية شديدة السمية والأدوات الحادة.
أمّا عن أوضاعهم الاجتماعية، فأغلب مساكنهم غير صحية وتفتقر إلى البنية التحتية الصحية، كما أنّها شيّدت باستخدام المواد التي تمّ استخراجها من المصبّ وإعادة تدويرها.
لتلبية احتياجاتهم، يعمد هؤلاء غالبا إلى بيع المواد المفروزة إلى مخازن تقع بالقرب من مصّب النفايات والتي تعتبر مصدر رزقهم الرئيسيّ، وهو ما يدفعهم إلى انتظار شاحنات القمامة للمسارعة بفرز المواد التي يمكن إعادة بيعها فيما بعد.
تنظيم عمل البرباشه وتقسيم المهام على المستوى الزمني والمكانيّ كان مثيرا للدهشة. إذ تتميّز نشاطاتهم بالدقّة والنظام والتخصّص. ويعلّق هنا الرئيس المدير العام للوكالة الوطنيّة للتصرّف في النفايات قائلا:
يتوافد البرباشه على مصبّ برج شاكير بمحض إرادتهم، ويختارون منذ البداية التخريب والعنف. هم هنا رغما عن الجميع، حتّى قوّات الأمن عجزت عن التعامل معهم. علاوة على ذلك فهم يحتلون أراضي المصبّ ويرفضون السماح لأي شخص بالاقتراب من دائرتهم الخاصّة.
ليضيف السيّد حبيب عمران أن هذا القطاع غير الرسمي الذّي تنوي GIZ (التعاونية الألمانية للتنمية) تنظيمه لا يشمل سوى فئة معيّنة من البرباشه، أي أولئك الذين يتم اختيارهم من قبل الوكالة لجمع الزجاجات البلاستيكية لا غير. في المقابل، فإن هؤلاء يرفضون أي نوع من التدخل لتنظيم عملهم.
في نفس السياق، يعلّق السيّد مرشد قربوج، رئيس جمعيّة أس.أو.أس بيئة قائلا:
في الواقع لا يساهم البرباشه سوى ب 10٪ من الكمية الإجمالية للنفايات التي يتمّ إعادة تدويرها. وعلينا الإقرار بأنها مهنة خطيرة للغاية، فالعديد منهم مبتورو الأطراف كالأصابع أو القدمين، كما تم سحق بعضهم بالشاحنات خلال تفريغ القمامة. إنّ وضعهم كارثيّ بأتمّ معنى الكلمة.
يعود السيّد حبيب عمران ليؤكّد :
شخصيا، أنا ضد هذه المهنة اللا إنسانية، ولا أعتقد أنّ محاولة تأطير البرباشه ستنجح. وقناعتي الشخصيّة أنّهم لا يريدون التعاون معنا، بل يفضّلون إدارة عملهم بمفردهم.
مخاوف البرباشه مبرّرة. فهم يدركون أن هذا ليس مجرد خطوة لتنظيم القطاع أو توفير التغطية الاجتماعيّة لهم. بل يعرفون أنهم سيجدون أنفسهم في مواجهة قانون يحدّ من أنواع النفايات التي يقومون بفرزها وهو ما سيؤثّر بالضرورة على مداخيلهم. بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال تدخل مؤسسات الدولة، فلن يتمكّن هؤلاء من تلقّي أموالهم مباشرة من مراكز الرسكلة، بل سيتمّ اقتطاع نصيب الدولة من الضرائب والآداءات.
لقد تعوّد البرباشه على العمل بعيدا عن القوانين واللوائح، وهم يفضّلون الموت على دفع الضرائب. وقد تحوّلت نشاطاتهم إلى ما يشبه الشركات العائلية التّي يشمل عملها الجمع والفرز والبيع، ولن تقبل أبدا بأيّ إجراء قد يحدّ من مداخيلها.
وهو ما يفسّر في النهاية ردّة فعلهم العنيفة ومقاومتهم لأيّ تدخّل من خارج دائرتهم الضيّقة في ما يعتبرونه مجالهم الخاص. إذ أنّ اعتقادهم راسخ بأنّ أي خطوة نحو تنظيم عملهم سوف تقوض مصالحهم، ممّا خلق علاقة عدائية مع السلطات المختصة.
يتدخّل السيّد حبيب عمران في الختام قائلا:
بالنسبة للدولة، التعويل على البرباشه في عملية الفرز أقل كفاءة وأكثر تكلفة. لذلك نحن نفضل الدخول في شراكة مع القطاع الخاص ليتولّى الاهتمام بهم.
على الرغم من انّ التنمية الاقتصاديّة والحفاظ على البيئة لا يتعارضان، إلاّ أنّ الوضع في برج شاكير يعكس صورة مغايرة تماما؛ حيث ترزح المنطقة تحت مظلمة تنمويّة وكارثة بيئيّة حوّلت حياة ساكنيها إلى جحيم لا يطاق.
يتبع…
أمر مؤسف حقا خاصة أن الدولة لا تبلي للأمر أي إهتمام، على سبيل الذكر لا الحصر فثمة دول مثل السويد تستورد القمامة لرسكلة ما يمكن رسكلته و إستخدام الباقي لإنتاج الطاقة. بجانب كل مبنى تجد غرفة بها حاويات للبلاستيك و البلور و فضلات الطعام وهلم جرا، و بالنسبة لقوارير الماء و المشروبات فيمكن بيعها مقابل وصل تستعمله في الفضاءات التجارية
الشعب التونسي المتخلف كالديك الغاطس في برازه حتى الرقبة ومع ذلك يغنّي! وفي كل الأحوال، “الدفاع عن الإسلام” و”الحفاظ على النمط” يستحقّان كل هذه التضحية! أليس كذلك؟
جودة_الحياة
تونس_الغد
وكالة_الناموس
شعب_القردة_المخصيّة
الجماهيرية_التجمّعية_الاسلاموية_البوليسية_العظمى