بقلم عبد الرزاق قيراط.
“إنّ مجتمعاً بلا ديانةٍ كسفينةٍ بلا بوْصلة”، حكمةٌ قديمة تُــنسب لنابليون بونابارت، وتنطبق معانيها بشكل ملحوظ على الحراك الانتخابيّ في تونس. فلم نعد نميّز، في الأيّام الأخيرة، بين إسلاميّين وعلمانيّين ومتشدّدين سابقين في محاربة “الاتجار بالدين”، ومُنكرين طيلة عقود لهويّة التونسيّين في علاقتها بالعروبة والإسلام..، مع واجب التحرّي بخصوص هذه التصنيفات التي تخضع عادة للتجاذب والخصام. ولكنّها اليوم سائرة إلى الزوال بعد أن دخلوا “في دين الله أفواجا” وأصبحوا متساوين أمام الله والوطن.. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة آناء الليل وأطراف النهار. قبلتهم قرطاج وبوصلتهم لا تخطئ التقدير.
غير أنّ تلك البوصلة التي يُستدلّ بها للوصول إلى أفئدة الناخبين، أصبحت محلّ نزاع وانتزاع بين المتنافسين على منصب الرئاسة والمشرفين على حملاتهم الانتخابيّة.. وقد امتدّت تبعات ذلك التنازع إلى أنصارهم الذين اتخذوا من مواقع التواصل الاجتماعيّ ميدانا لإدارة معركتهم في فضاء حرّ لا يخضع للضوابط القانونيّة والأخلاقيّة… وفي هذا السياق، تعرّض أغلب المترشّحين للرئاسة، إلى ضروب من التهكّم على الفيسبوك، حيث نُشرت صور السياسيّين الذين افتــتحوا حملاتهم من المقابر والزوايا وقرأوا الفاتحة (لأوّل مرّة في حياتهم)، كما قيل، ترحّما على أولياء الله الصالحين وعلى شهداء الوطن. ومن بين هؤلاء مرشّح الجبهة الشعبيّة حمّة الهمّامي الذي أسّس حزب العمّال الشيوعيّ قبل ربع قرن من الزمان. ولكنّه قرّر، بعد الثورة، مع قيادات الحزب وهياكله أن يشطب صفة “الشيوعيّ” مراعاةً لما لوحظ لدى أكثر التونسيّين من ربط آليّ بين الشيوعيّة والعداء للأديان، واحتساباً لانتخابات أثبتت تجاربها السابقة أنّ عامل الدين قادر على التأثير في نتائجها. لذلك، حرص الهمّامي على إثبات عقيدته، فردّ في منبر تلفزيونيّ بلهجة حادّة على المشكّكين في إسلامه قائلا “أنا تونسيّ عربيّ مسلم”…
ومازلت المنابر التلفزيونيّة تتصدّى لقضيّة التداخل بين الدينيّ والسياسيّ، وقد تصاعد الجدل حول ما اعتُبرَ “استغلالا مريبا لرجال الدين” في حملة الدكتور المنصف المرزوقي على إثر ظهوره مع أحد الأيمّة الدعاة. ويُحاسَب الرئيس المتخلّي بإعلامٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، وحمّلها ما تحتمل وما لا تحتمل من المكاره إلى حدّ اتهامه بأنّه يتماهى مع الإرهابيّين، على خلفيّة استعماله لعبارة “الطاغوت” التي صارت مصطلحا إرهابيّا لنعت العسكريّين… قال المرزوقي:” ليس هناك من طاغوت إلاّ الذي طغى في العهد البائد، ويريد أن يرجع الآن ليطغى”. فقدّم لمنافسيه من (فلول) النظام القديم فرصة ثمينة للتنفير منه، معتبرين قوله تحريضا خطيرا ضدّهم…
وبغضّ النظر عن أمثلة أخرى لا يتّسع المجال لذكرها، تُـــثبت التجربة الانتخابيّة الحاليّة في تونس، نشوء وعيٍ متفاوتٍ لدى النخب السياسيّة أخضعها للنقد والإصلاح. وأدّى إلى مراجعات يتعلّق بعضُها بتهذيب اللفظ والمعنى، وتخيُّر ما يحبُّ التونسيّون سماعه ومرآه، في اتجاه المصالحة مع نمط العيش الذي تعوّدوا عليه من جهة، وباحترام أساس الهويّة الإسلاميّة من جهة أخرى، ومحاولة الاستفادة من العامل الدينيّ بالقدر الذي تسمح به القوانين من جهة ثالثة، حتّى لا تكون تلك المصْلحةُ حكرا على الأحزاب ذات المرجعيّة الدينيّة.
وغنيٌّ عن القول، إنّ الحركات الإسلاميّة استفادت من تلك المرجعيّة التي دعّمت شعبيّتها ومنحتها قاعدة انتخابيّة لا تتمتّع بها الأحزاب التي (العلمانيّة) المطالبة بمدنيّة الدولة وإقصاء الدين عن معترك السياسة. ولكنّها، وبقدر استفادتها، تضرّرت في أحيان كثيرة من سقوط بعض قياداتها في مواقف خطيرة حوّلتهم إلى دعاة متشدّدين. وقد حدث ذلك مراراً في تصريحات صحفيّة، وأثناء نقاشات المجلس التأسيسيّ بتدخّلاتٍ موغلةٍ في الوعد والوعيد جلبت لحركة النهضة آنذاك الكثير من التشكيك في حقيقة خطابها أهو سياسيّ مدنيّ أم دينيّ تكفيريّ… والمتأمّل في القوائم التي قدّمتها حركة النهضة لخوض الانتخابات التشريعيّة، يلاحظ بوضوح كيف تخلّت عن الكثير من الأسماء التي وقعت في تلك المزالق. فاستُبعِد، على سبيل المثال، الشيخ الصادق شورو الذي أفزع النوّابَ والإعلاميّين وجزءاً كبيراً من التونسيّين، حين توعّد “المخرّبين” الذين عطّلوا باحتجاجاتهم عجلة الاقتصاد، فخاطبهم بالآية الكريمة: ” إنّما جزاءُ الذين يحاربون اللهَ ورسولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرض فساداً أنْ يقــتّلوا أو يصلّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو يُنفوا من الأرض. ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم” (المائدة 33).
وأقدمت حركة النهضة بعد ذلك إلى تنقية خطابها من مظاهر التشدّد التي تجلب لها السخط وتؤلّب عليها الغاضبين.. حتّى أعلن الغنّوشي ترحيبه بالعمل مع وزراء بن علي، وأكّد مؤخّرا في برنامج حواريّ على قناة الجزيرة رغبته عن توصيف أولائك الوزراء بالفلول، وقال قياسا على حديث شريف:” كلّ من دخل الدستور فهو آمن”. وأعلن رفضه القطعيّ للإقصاء وتوريث الأحقاد وأعمال الثأر والانتقام ضماناً لسلامةِ سفينة الديمقراطيّة التي تبحر بجميع التونسيّين “نحو مستقبل زاهر” على حدّ قوله، وبعوْن البوصلة التي يهتدي بها للوصول إلى مبتغاه…
ومع ذلك، تبدو الطريق طويلة شاقّة، فيها العواصف والأخطار، والقراصنة الأشرار، والنفوس الأمّارة بالسوء، التي تتربّص بالسفينة لخرقها وإغراق أهلها.. وعندئذ لن تنفع البوصلة وحدها.. سنحتاج بالتأكيد لملاّحين من خيرة الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. “وما بدّلوا تبديلا”.
عزيزي الكاتب المسلم ولا يستسلم، أتفهّم جدااااا انشغالك وحيرتك ل”دخول السياسيين في دين الله أفواجا” (ولعلي أفتح قوسا هنا لأقول بأنّ دخول المرء لمكان يعني في العربية أنه كان خارج ذلك المكان، ومعنى دخول فلان أو علّان في دين الله أنه كان خارجا عن ذلك الدين أو بعبارة بسيطة كان كافرا بما أُنزل على محمد النبي الأكرم عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، واستعمال هكذا عبارة يختزن في طيّاته تكفيرا مبطنا لمن حيّروك وشغلوا بالك ولعلك تقصد تحديدا (لنكن أكثر دقة) الباجي قايد طبابلية التجمّع وحمة طباخ الروز بالفاكية)، إذن قلت أنني أتفّهم كثيرا حيرتك (ولعلك قد تنشر خواطرك هذه في كتاب يحمل عنوان “حيرة مسلم ولا يستسلم” ك”الثقفوت” إياها التي حيّرتنا بمواقفها في لعق أحذية المستبدّين الفاسدين أكثر من ترويجها لمبادىء “إسلام رافع التحديات، وصانع تغبير الشابع من نوفمبر” — لا خطأ في التنقيط!)، وحيرتك لا شك مبرّرة فهل رأيت في هذه الدنيا تاجرا يرغب في سوق مليء بالتجّار؟ وذلك -لعمري- بعكس الطبيعة وعلى غير هوى الناس وسنن الخليقة! ولعلّ شعبنا “المسلم ولا يستسلم” قد ابتدع في وصف مثل هذه المواقف أمثال عديدة ك”صاحب صنعتك عدوك” و”قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق” وغيرها الكثير. وبقطع النظر عن صحة عقيدة الطاغية المومياء قايد الطبابلية أو ذلك الماركسي الأحمر أبو شلغومة يقف فوقها الطير فلا يتحرّك، ذلك الذي اصطلح في أيامنا الغريبة هذه مع بورجوازية مصّاصي الدماء والرأسمال الفاسد (العدو الأول للبروليتاريا في كتابات ماركس وأتباعه) من طراز قروي آند قروي أو ذلك التجديدي/القطبي/المساري الأشعث الذي سخّر شركته الرأسمالية لخدمة حملة صاحبنا البروليتاري، بقطع النظر عن عقائد هؤلاء إن تبرّكوا بالأموات أو بالأولياء الصالحين (وتلك من أفعال الشرك التي نشرها الاستعمار في شعبنا الجاهل والأمّي علّه يقدر على تطويعه وتركيعه)، فمهما بلغت حيرتك عزيزي الكاتب “المسلم ولا يستسلم” فلا يجوز تكفيرهم ضمنا أو صراحة كما يشير عنوان نصّك فما شققت على قلوبهم حتى تعلم من المؤمن ومن الكافر، أو هكذا قال النبي الأكرم لأحد الخلفاء الراشدين عليهم السلام ذات مرة
ولعلّ من المضحكات المبكيات في ربوع هذا الوطن المكلوم بشعب جاهل ونخبة عمياء البصيرة أن يحتار المرء كل هذا القدر أمام مشهد أئمّة التجمّع البورقيبونوفمبري وهم يلعقون حذاء شيخ تسعيني لم يرحم نفسه في أرذل العمر ولا يحتار البتّة أمام مشهد أئمّة الزيتونة (أو ما تبقّى من أطلالها) وهم يقبّلون رأس الشيخ التكتاك ويصفونه بفلان “رضي الله عنه”. وهذه المفارقة العجيبة (إن نظرنا من خارج العلبة) والمعتادة إلى حد الرتابة والسأم (إن نظرنا من داخلها) لمعجزة تونسية مدهشة لا يصنعها ويفهم طريقة عملها سوى الشعب الذي قال عنه ابن خلدون “في إفريقية، وافق أو نافق أو فارق”! ولا حول ولا قوة إلا بالله
ولعلّي أختم بقول أنني بقدر ما أعجب لما أصاب بصيرة وعقول هذا الشعب، عامّة وخاصة، أشفق على ما أصاب ويصيب البلد بسبب التجارة التي حيّرتك عند خصومك وأسعدتك عندما امتهنها شيخك التكتاك منذ عقود وحكم بها، فظلم وتجبّر إلى أن جاءه طاغية عجوز أقوى وأحنك، سيسوقكم (ويسوقنا نحن أبناء الشعب البائس) إلى محرقة جديدة ستكون محرقة التسعينات أمامها مجرّد نزهة ربيعية رائقة في بستان عبق الأزهار وحلو الثمار. وليرحم الله هذا البلد وأهله في أيام قادمات يلُحْن سودا قاتمات، مكتئبات، مدلهمّات بظلمات الظلم والفساد والجور والاستبداد، وكله بسبب تجارة شيخك وجماعته – لا بارك الله فيه وفيهم. وتلك أيام الطغيان نداولها بين الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. والسلام على من اتبع الهدى
مقال مفيد وممتع .. كما عودنا عبد الرزاق قيراط