1513_519666051416712_4195634_n

تنظر امامك فتطالعك الوجوه كئيبة حزينة تختزن بين تجاعيدها حكاية ثورة مغدورة ..تَجُول بعينيك حواليك فيرتدّ البصر خائبا وهو حسير من فرط “الخراب” الذّي يستبدّ بالمنطقة حيث تنعدم مرافق الحياة الكريمة وتحلّ محلّها بنايات محترقة وطرقات غير منسجمة مع تضاريس المدينة وأحياءٌ سكنية غارقة في الفوضى كأنّها مخيّمات للّاجئين. وبين هذه الصّور الحزينة والممزوجة بغيض المتساكنين وغضبهم الجارف ينقاد بصرك الى لوحات وشعارات وأثار رصاص حيّ توثّق على الجدران ملحمة ثورة لم تكتمل بعدُ.

أنت هنا .. في مدينة القصرين، حيث يُكتب جزء من تاريخ تونس بالدمّ في انتظار أن تكتمل بقيّة فصول الحكاية.

على بعد كيلومترات قليلة عن “جبهة الألغام” في الشعانبي تنتصب مدينة القصرين بتضاريسها الجبلية القاسية تنوء بأوجاع تاريخ مُفعم بالكفاح ضدّ المستعمر والنّضال ضدّ الديكتاتورية وحاضر يستبدّ به التهميش والفقر والجوع واللّامساواة.

“كأنّ القدر ادّخرنا للنضال فقط – يقول محمّد بالرّابح السعيدي – فقد عشنا ويلات الاستعمار ثمّ ناضلنا ضدّ فاشيّة الحكم البورقيبي عندما انحرف نحو الاستبداد، ولم نرم المنديل أبدا وظللنا نناضل ضدّ الخيارات الاقتصادية والاجتماعية الخاطئة على مدى فترة ديكتاتورية بن علي، فماذا كان جزاؤنا يا ترى .. لا شيء سوى سفك الدماء ومزيد من التهميش والحقرة واللّامبالاة .. نحن مُقدَّمون في النضال والثورة، مُؤخّرون في اقتسام ثروات الوطن. باختصار شديد لقد أرادونا حطب ثورة فابتلعنا الطّعم.”

تهميش لا يعترف بالزّمن

998114_539305019449504_1195513888_n

كلمات محمّد بالرّابح لم تشذّ عن السياق العام لشهادات أهالي القصرين، فكلّ الشهادات كانت تطفح ألما وربّما حقدا تجاه ما أجمع الاهالي على اعتباره “تهميشا” للمنطقة و”احتقارا” لأهلها من قبل الحكّام على مدى عقود من الزّمن.

“انظر يا الى هذه الالبناية المتداعية للسقوط (تشير بيُمناها الى كوخ متداعي للسقوط) أليس من العار ان تسكن أمّ الشهيد كوخا .. أليس من العيب أن تكافأ الامّ التي أرسلت فلذة كبدها بصدر عاري لمواجهة رصاص بن علي، بتجاهلها واهانتها امام المحكمة العسكرية بالكاف وطردها من مركز الولاية وعدم الاحاطة بها اجتماعيا. يا للعار.”

هكذا حدّثتنا وسيلة الفرحاتي، أخصّائية اجتماعية وباحثة في مجال التغيّرات الاجتماعية العميقة، خلال زيارة عمل أدّتها الى حيّ الزهور وبعض الاحياء المنكوبة الاخرى في كل من القصرين وتالة. وتضيف الباحثة قولها :

“يبدو أنّ الاهالي، بحسب البحوث التي اقوم بها، أصبحوا يعيشون حالة يأس واحباط جرّاء عدم تغيّر اوضاعهم الاجتماعية بعد الثمن الباهض الذّي دفعوه خلال الثورة .. فولاية القصرين قدّمت نحو 20 شهيدا وأكثر من 600 جريح بالاضافة الى الخراب الكبير الذي عمّ المنطقة بأسرها جرّاء القمع الامني للانتفاضة الشعبية السلمية ومع ذلك لم تنل شيئا سوى التهميش والارهاب، لذلك فانّ الوضع بات مرشّحا للانفجار مرّة أخرى، وعلى الارجح فانّ ثورة ثانية تطبخ على نار هادئة.”

ما ذهبت اليه محدّثتنا لم يكن محض تخمينات أو رأيا شخصيا بقدر ما كان خلاصة لقاءات عديدة جمعتها بالمئات من أهالي القصرين وتالة وبعض القرى المهمّشة الاخرى. وقد خرجت الباحثة وسيلة الفرحاتي بخلاصة واحدة : الثورة الثانية قادمة لا محالة.

حيّ الزهور .. نبض الثورة

kasserine

وانت تتجوّل في حيّ الزهور، الشّريان النابض لمدينة القصرين، يُراودك شعور بأنّ المسار الثوري مازال ينبض حيويّة. هنا كلّ شيء ثائر .. الناس والجدران والاحزاب وجرحى الثورة والادارة .. حتّى الطّقس ثائر.

يقول صلاح السليماني، 22 سنة، احد جرحى الثورة، بأنّه لم يعد قادرا على استيعاب ما يحدث الآن في حيّ الزهور :

“انّنا نعيش على وقع الذكريات .. ذكريات الثورة المغدورة. على هذه الجدران المهترئة كُتبت الثورة برصاص الاحتلال الامني وبدماء أبنائنا وبناتنا.. انّ أصوات الرصاص مازالت تلعلع في أذاننا وتعزف سنفونية الحياة والموت. أحيانا ينتابنا ندم شديد لأنّنا ألقينا بأنفسنا في أتون معركة جنا ثمارها غيرنا.. لقد أرادونا حطب ثورة .. يموت أهالي القصرين لينعم غيرهم بثمار الثورة”.

على مقربة من صلاح كانت مجموعة من الشبّان ترمقنا بنظرات ملؤها الرّيبة والاحتراز .. اقترب منّا احدهم وعاتبنا بنبرة لا تخلو من غضب جارف :

“ماذا تريدون منّا .. ألم تتعبوا من احصاء عدد الارواح التي أزهقت في القصرين .. يبدو أنّكم لا تتذكّرون القصرين المنكوبة الّا للحديث عن المصائب والقتل والدمّ .. ألم تكفكم مسرحيّة الارهاب في جبل الشعانبي .. اصعدوا الى الشعانبي واسألوا عن حقيقة الألغام والارهاب .. اسألوا عن ملابسات مقتل (الأجودان شاف) الخضراوي .. اسألوهم عن القصرين بأيّ ذنب قُتلت ..”.

وبالتوازي مع المشاكل الاجتماعية العويصة التي يعيش على وقعها أهالي القصرين أصبحت هذه المدينة الحدودية منذ موفّى العام المنقضي محطّ أنظار العالم بسبب الأحداث المريبة المتعلّقة بجبل الشعانبي. ويعتقد أبناء القصرين بأنّ مسألة “الارهاب” في الجبل لا تعدو ان تكون سوى “كذبة كبرى” تمّ ابتداعها من أجل مزيد انهاك القصرين ومعاقبتها لأنّها ثارت ضدّ بن علي وقدّمت أبناءها قرابين للثورة وواجهت الآلة الأمنية بصدور عارية.

“انّها يعاقبوننا لأنّنا أوّل من يثور وآخر من يعود الى منزله ولكن هيهات منّا الذلّة .. هيهات منّا الصّمت، فالجبل نعرفه شبرا شبرا ولسوف نقتحمه سيرا على الاقدام ان عاجلا أم آجلا بهدف كشف خداعهم وكذبهم”.

هكذا حدّثنا أبناء حيّ الزهور مؤكّدين بأنّهم بصدد وضع اللمسات الأخيرة للانطلاق في تظاهرة “القصرين تتكلم” التي قام عدد من الحقوقيين و الناشطين بالمجتمع المدني بالقصرين بالدعوة إليها لتكون على شاكلة تجمّع شعبي وسط المدينة بتاريخ الجمعة 14 جوان على الساعة العاشرة صباحا للانطلاق في رحلة ترفيهية رمزية لجبل الشعانبي قصد رفع همم قوات الأمن والجيش الوطنيين وتفنيد رواية الارهاب.

وقد تضمّن برنامج التظاهرة إخلاء المدينة من السكّان ومغادرتها لبعض الوقت كحركة رمزية للمطالبة بنصيب الجهة من التنموية والثروة الوطنية.

أسئلة قديمة .. جديدة

مرّت أكثر من سنتان ونصف السنة على انتفاضة أبناء تالة والقصرين التي زعزعت اركان نظام بن علي وعجّلت بسقوطه ولكن ما الذّي تغيّر بعد أن قدّمت الولاية 20 شهيدا ومئات الجرحى ؟

سؤال طرحناه على الأهالي فكان بمثابة القطرة التي أفاضت كأس الصّبر :

“يا وليدي قتلوا أبنائنا وألقوا بالبقيّة في السجون بتعلّة أنّهم شاركوا في التخريب ومارسوا العنف .. أيّ ثورة هذه التّي تأكل أبنائها .. أيّ حكومة ثورية وشرعية هذه التي تحاكم شباب الثورة وتُلقي بهم وراء القضبان”.

هكذا حدّثتنا الحاجّة هنيّة السعيدي، والدة أحد جرحى الثورة بالقصرين، مضيفة قولها:

“نحن ثرنا من أجل اسقاط منظومة الظّلم والطغيان .. وطالب أبناؤنا بحقّهم في الشغل والكرامة، ولكنّ الظّلم تواصل الى يومنا هذه وتفاقمت البطالة والفقر وأصبح لدينا بفضل ثورتنا المباركة من يجوع ويأكل من المزابل .. بئس الثورة هذه”.

ويعاني أهالي تالة والقصرين من تواصل حالة التهميش والفقر والبطالة غير أنّ الجرح الغائر الذّي يستبدّ بهم جميعا دون استثناء ويحوّل حياتهم الى ألم متواصل هو عدم انصاف شهدائهم وجرحاهم، حيث يعتبر الجميع بأنّ “القضاء العسكري التفّ على دماء الشهداء” و “باع القضيّة” بعد أن أفلت أغلب الفاعلين الأصليين من العقاب.

“انّنا نعرفهم فردا فردا .. نعترف من ثنى الرّكبة وأطلق النار ومن أعطى الاوامر ومن عذّبنا ابنائنا في مراكز الايقاف .. معرفهم فردا فردا وسنحاسبهم يوما ما .. ولكنّنا لن نكون بهم رحيمين.. نعدكم بذلك فنحن قصارنية وما نخافوا كان من ربّي الّي خلقنا”.

كانت هذه آخر وعود “القصارنية” قبل أن نغادرهم ونشدّ الرحال باتّجاه العاصمة وفي الذّهن تجول اسئلة حائرة لم نجد لها اجابات مقنعة وشافية.