انبلج الفجر الثوري في تونس و انبلج معه فجر العنف لفظيا ، سياسيا ، ماديا ، جسديا ، فكريا ، ثوريا ، عنف الدولة ، عنف الاعلام، تتواتر الكلمات ، يصعب حصرها و ضبطها فيمارس علينا المفهوم عنفه الممنهج و المنظم فننزلق الى ثرثرة تجيب على اسئلة طُرحت سلفا و لا تُجيب ، فننسج محاولتنا الدائمة في انارة ظُلمات الاسئلة الموغلة في طرحها الفلسفي العميق. و لكننا سنحاول البحث في ” العنف السياسي ” و نُبحر معه الى ميناء مفهومه و تجلياته في حياة اجتماعية تُعد خصوصية بعض الشيء في مجتمع تونسي اضحى يعيش تحولات لم يعرفها منذ عقود من الزمن. عنف رجال السياسة وعنف عباراتهم ومفاهيمهم في تحليل و طرح رؤاهم في علاقة بمن يختلفون او يتناقضون معهم، عنف الاوصاف و التعليقات و التسميات و المسميات ، عنف التبريرات الحكومية في الدفاع عن رؤاها و برامجها، عنف الدولةو عنف الاطروحات الايديولوجية ماركسية كانت او دينية ، نحاول الاضطلاع بمهم تمعين هذه الظاهرة المسكونة بهاجس المعنى و الخروج عن العالم الموضوعي و المُعطى لانها في حد ذاتها تعاني العنف الذي يحاول الزج بها في عالم من التمثلات الجديدة و الغريبة عن واقع اجتماعي يعشق السلم و التحابب و التقارب و التضامن.
انت من دعاة الانغلاق و التعصب و استعباد الارواح و الابدان” و يرتفع الاصبع و يتجه الى الخصم و الى الرؤية المقابلة ثم تضاف الكلمات التي اضحت عناوينا في خُطب اليسار ،” انت ظلامي و رجعي” ، نُدرجها في خانة العنف و لن نجزئ هذا المفهوم ونقسمه اربا اربا بين لفظي او جسدي او اي شيء اخر ، فللعنف عنوان واحد و لافتة واحدة مكتوب عليها مرحبا بكم في مدينة العنف ، أُدخلوها بأمان و انعموا فيها بالسلام. فيكون الرد النابع من ردات الفعل كعادته ” و لكنك ايها الاصبع المتجه لفكري القُدسي غريب دخيل ملحد وفاسد و لافكاري عقوباتها عليك” . و يظل المجتمع مشاهدا وفيا لاطروحات تُحاول تعنيف اطروحات تعارضها ، فلا الاولى صائبة و لا الثانية حققت مبتغاها فللفكر الانساني مولوداته التي بلا نهاية ، فتحديد النسل ليس من مشمولات الفكر و المعرفة و التفكير و الابداع.
لابد ان نكتبها بوضوح العبارة حتى لا ننساق في تعنيف القارئ او دفعه نحو التأثر ، يسار ماركسي يمارس عنفه على الايديولوجيات الدينية التي تتناقض او تختلف معه و الايديولوجيات الدينية و خاصة الاسلامية تمارس عنفها على الافكار اليسارية اشتراكية كانت او ليبرالية تصل حد المنع من التواجد على الكرة الارضية اي من الحياة. فلأن الصدمة كانت عميقة عمق المحيطات و شاسعة اتساع السماوات على حاملي الايديولوجيات و المنتمين للاحزاب و التنظيمات و الحركات و المجموعات السياسية و الفكرية ، في تونس بعد التغيير الذي عاشته البلاد في رءس نظامها السياسي و بعض مؤسساتها و كذلك في اسقاط منظومة قوانين مهترئة ارتبطت بعقود من الاستبداد. و لأنه الخوف من الاندثار و التعلق بقشة الحياة في بحر يزمجر بافكاره و اطروحاته الجامحة فيكون الهجوم و التهجم وسيلة للدفاع ، و تحملنا حرب الكل ضد الكل الى ما لا يُحمد عُقباه معلنا تهديده لمناخ سلمي مبني على الاحترام و التواصل كنسيج عائلي و مثالي.
اننا لا نتجاوز الحق في التفكير و ابداء الرءي و حمل و تبني الايديولوجيات و لا نتجاهل السجالات الفكرية و الحق في بناء و امتلاك و الانتساب للاساق الفلسفية او للنصوص الدينية مهما كانت مآربها و مشاربها و غاياتها ووسائلها، فلكل فضاء جغرافي امكنة و للامكنة مايُؤثثه من افكار و حكايات و خرافات و اهتمامات تستعمل العقل و الوجدان في اشكاليات و اطروحات فكرية لا تنتهي و لكن الحراك الفكري المرتبط بعد 14 جانفي بمنابر مفتوحة على المجتمع اتسعت مجالاته حد استعمال العنف و ممارسة التشويه من منطلقات امتلاك البدائل و الانفراد بالحقيقة المطلقة ، فلا النص الماركسي او اليساري عموما كالاطروحات القومية “ناصرية” كانت و” بعثية ” او الافكار “الاناركية” او غيرها اصابت و لا الاطروحات الدينية من سلفية جهادية او سلفية علمية او اطرحات حركة النهضة او حزب التحرير او التنظيمات او الحلقات التي لها علاقة بالدين او تتبنى نشر الدعوة دون ان ننسى حلفات الانشاد الديني او التصوف ، تفوقت و اصابت مبتغاها ، فالاولى و الثانية لازالوا يتحسسون خريطة طريق تُوقع المجتمع في شباك افكارهم، ليس هذا هو المقصود و لسنا في موقع شماتة و تشفي لانكساراتهم و فشلم الدائم و المتواصل و لكننا نحاول تحليل منهج العنف المنظم المعتمد من الطرفين . فالعنف اوله تجاذب و تراشق بنيران منجنيق النعوت و الاطروحات و الافكار و آخره عنف يتلقاه مجتمع تونسي لا زال لا يُتقن طريقه في الظلام و الحيرة و الجوع.
يتوهج الخطاب و تعتلي المفاهيم منابر العنف زمن التعددية الفكرية و التنظيمية في وطن ظل عقيما لعقود من الاستبداد ، و لكن العنف حين يتصدر مقولات الدولة التي لم ينتجها الفكر الانساني الا بحثا عن انسانيته و محاولة لابتكار وسائل انجع تساعده على الحياة . نحاول ان نستعرض لكم بايجاز مشاهد من عنف الدولة و مؤسساتها: رصاص حي لازال يُطلق في سماء تونس السلام الدائم و غازات تدعو الناس للبكاء تطلق من بنادق مؤسسة كان الاجدر بها السهرعلى امن البلاد و العباد وحكومة تتجاهل شهداء الوطن و جرحاهم و تمارس عنفها ولو كان في خطاباتها او تصريحاتها الاعلامية على كل شيء : ضد المبدعين و المعتصمين و المحتجين و الساخرين و الصحفيين و الاعلاميين و المواطنين العاديين. اسلاك شائكة لازالت تُزين مداخل المدن و تُسيج شوارعها فتُرهب الطفل و تُمزق ثياب المارة و تقتل العصافير و الحمائم . لم نعدد كل المشاهد و لم نحصر كل المعارض في جملنا القليلة و لكننا عرجنا بايجاز حتى لا نثقل كاهل القارئ و لا نعنفه ليُكمل مقالنا و ينهيه.
ان طموح القيادة و الادارة و عدوى الدوافع السياسية في البقاء على كرسي السلطة و كذلك نشوى الطموح ، كلها تستجمع ادوات شرعية و مشروعة او عكسها اي تتناقض مع الحق المطلق في استعمالها ، تُوهم الساهرين على مقود الدولة في ممارسة العنف كحق وواجب مطلق بل اكثر من ذلك الاعتقاد بضرورة ووجوب استعماله . فالعنف المُمارس من الدولة ليس عنفا اجتماعيا او اقتصاديا بل هو سلوك يدور حول السلطة و يتستر بعناوين شتى كالحفاظ على السلم الاجتماعي و ترك المجال لصياغة البرامج التنموية و التفكير من اجل خير العباد و البلاد . فلعل ماتجلى مؤخرا من اضرابات جوع ليس لان الجوع فتك بالمجتمع و لكن من اجل حقوق بسيطة مثل حق النفاذ للمعلومة و حق اخذ الصور دون قيد او شرط و لعل رفع شكاوي قضلئية ضد وزير الداخلية في عيدي الاستقلال و عيد الشهداء لهما خير دليل على عنف الدولة ضد المواطنين وضد الشعب في مفهوم اشمل ، فلن نمارس عنف المفهوم ونتساءل عن مقاضاة الدولة في الدولة و في جملة ابسط مقاضاة مؤسسة تابعة للدولة في مؤسسة اخرى تابعة كذلك للدولة لهو ضرب من التناقض ، و لكن مانطرحه هو المجتمع التونسي و العنف و تسارع الاحداث في مد ثوري وسط زمن ثوري كذلك لا يُقاس ، فليس للثورات اعمار و ليس للزمن الثوري محرار ، فقط الارادات هي عقارب ساعاتها و بواخرها تحركها بوصلة الامل و الصبر و السعي الازلي لانسانية الانسان.
iThere are no comments
Add yours