حوار مع الصحفي عبد الله الزواري القيادي الإسلامي المنفي في وطنه

الجزء الأول

حاوره فوزي الصدقاوي

sadkaoui.fwz@gmail.com

الأستاذ عبد الله الزواري نشكركم على حسن إستقبالكم لنا ، ونفتتح محاورتنا لكم بالسؤال عن تجربتم داخل الحركة الإسلامية، كيف كانت منذ البدايات ؟ وكيف عشتم عقودها الثلاث ؟

بسم الله الرحمان الرحيم ،

لايدّعي المرء أنه كان من أوائل من بعث هذه الحركة لكني كنت من المجموعات الأولى في السبعينات التي قدمتْ إسهاماتها في هذا المجال ، بعد الإخوة الأكبر سناً والأغزر علماً والأخصب تجربة ،الإخوة راشد الغنوشي وصالح كركر وعبد الفتاح مورو و..البوغانمي ، فكان لي شرف الإنخراط في الهيئة التأسيسية لحركة الإتجاه الإسلامي سنة 1981 ، وفي تلك الفترة كنتُ مسؤول الحركة في جهة الكاف وسليانة ، ونحن الآن [1] في شهر نوفمبر2006 نتذكر أنه منذ خمس وعشرين سنة كانت الحركة تستعد لعقد مؤتمرها الثالث في ديسمبر الذي حمل وقتها عنوان مشروع الأولويات ومن المعلوم أن المؤتمر التأسيسي للحركة كان في صائفة سنة1979 ثم كان مؤتمرها الإستثنائي في أفريل1981 الذي كان الداعي لعقده إنكشاف تنظيم الحركة لدى السلطات الأمنية في ديسمبر1980. ثم كان في سنة 1984 المؤتمر الإنتخابي الذي جاء عقب سراح قيادة حركة الإتجاه الإسلامي التي جرى إعتقالها في جويلية-أوت 1981 للبت والحسم في المسألة التنظيمية بعد خروج القيادات من السجن وعودة بعضها الأخر من الخارج . ثم ستعقد الحركة كما قلنا مؤتمرها الثالث في نوفمبر سنة1986 تحت شعار : مشروع الأولويات .

في مثل هذا الشهر إذاً ، منذ عشرين سنة كانت هياكل الحركة تتمدد على طول البلاد وعرضها مدنها وقراها وكان مطروح على كثير من أعضاء الحركة البت في هذا المشروع ، وكان المؤتمر قد إنعقد برئاسة الأخ راشد الغنوشي الذي كان تحت ما يشبه الإقامة الجبرية حيث كان يخضع للمراقبة المستمرة و اللاصيقة دون حكم قضائي وكان المؤتمر قد إنعقد في ظروف أمنية صعبة وكللت أعماله بنجاح نسبي ، واليوم بعد عشرين عاماً تجد الحركة نفسها في وضعية جديدة تلتقط فيها أنفاسها وتعيد النظر في مشاريعها ورؤاها ، والواقع أن بين 1986و2006 يمكن أن نلاحظ الإختلاف ففي 1986 كانت الحركة ترتبط فيها مع أحزاب تلك الحقبة في علاقة تتميز بمستوى من النضج والتفاعل الإيجابي لكنها شهدت فتوراً كبيراً في المرحلة اللاحقة وضعفاً عاماً ، لكن نحمد الله أن المعارضة في الوقت الحاضر بدأت تبحث عن نفسها وعن نقاط التلاقي فيما بينها إذ أن ما يجمعها من نقاط أكثر مما يفرقها ونأمل أن يتواصل هذا التلاقي إلى مزيد من الإيجابية ، إذ على المعارضة أن لاتنسى أن هدفها هو النظام الذي ما إنفرد بطرف سياسي إلا وضيّق عليه وحاول تدمير بناه التنظيمية وهياكله . فليس على الأحزاب الجادة أن يكون خصمها الأول غير هذا النظام الذي سعى إلى القضاء على الجميع وظل يعتبر نفسه صاحب المنة والفضل كلما سمح لأي حزب بالوجود، فليس للمعارضة الجادة من خصم غير من إعتدى على الجميع وكمم أفواه الجميع ، ولايمكن للتباينات الفكرية والإيديولوجية والسياسية بين المعارضات أن تكون مانعاً للتلاقي والتوحد وللنضال المشترك من أجل تحقيق أهداف مشتركة: حرية التعبير ، حرية التنظم ، حرية التنقل ، الحق في الإعلام وجميع ما تتضمنه القوانين واللوائح الدولية .

بعد عشرين سنة يبدو أن الحركة مُقْـدمة على عقد مؤتمر جديد نتمنى أن يكلل أعمالها بنتائج إيجابية تعيد للحركة صيتها ومكانتها داخل البلاد [2]

توقيت ولادة حركة الإتجاه الإسلامي سنة 1981 يثير لدينا سؤالاً فيما إذا كان إنبعاثها خياراً بلغت فيه الحركة لحظة نضجها واكتملت فيها دورة نموها، أم أن الظروف الأمنية التي وجدت فيها الحركة نفسها قد دعت إلى الإعلان عن تأسيسها.

لعل المستقرأ للواقع الإسلامي يلاحظ أن الإسلام كدين وكدعوة وكفكر و كثقافة ينتشر ويشهد زخم كبير في ظل الحريات والعمل العلني حيث لا تشهد الساحة غير صراع للأفكار، ففي مثل هذه الظروف لا خشية على الإسلام. وسيكون المرء مكابراً لو قال أن الحركة أعلنت عن نفسها سنة1981 بعد إكتمال دورة نموها الداخلي ولم يكن للظروف الأمنية أي دخل . فقد عجّل الوضع الأمني بعض الشيىء في الإعلان عن الحركة ، لكن في ذلك الوقت أيضاً كانت هناك قناعة عامة داخل الحركة أن في أجواء الحريات لاخشية على الفكر الإسلامي في أي موضوع يطرح للنقاش ولعل هذا ما كان قد ذهب إليه إبن حزم في معنى قوله تعالى( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا )[ سورة النساء آية 141 ] فيقول أن السبيل لايعني أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً مادياً ، ففي التاريخ الإسلامي وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كما في عهد الصحابة، إنتصر المسلمون وإنهزموا ، لكن في إطار الجدل الفكري والحضاري لن يكون للفكر غير الإسلامي أي سبيل على الإسلام فينتصر عليه . بينما في الجانب المادي أصابت المسلمين الهزائم كما غنموا الإنتصار. فـ«السبيل» هنا هو النقاش الذي يدور حول الدين والسياسة والإجتماع والثقافة ، فالفكر الإسلامي لايمكنه أن ينهزم في مواجهة الفكر الماركسي أو الفكر القومي أو غيرهما .. لكن هذا يتحقق في ظل مناخ من الحريات العامة التي تفسح المجال للجميع وليعرض حينها كل صاحب رأي قناعاته وأفكاره بحيث يقوم النقاش بين الطرفين على أساس الحُجة و الحُجة المضادة ، فلاخشية على الإسلام من صراع من هذا القبيل .

إذا هذه القناعة هي التي كانت تدفع أعضاء الحركة إلى الخروج للعمل العلني القانوني ومن ثم الإعلان عن نفسها في جوان 1981 ، فلو أن العامل الأمني لم يعجّل بإعلان الحركة عن نفسها ، ربما لم تكن الحركة لتطيل أكثر من ستة أشهر أو سنة على أقصى تقدير لتعلن عن نفسها بصورة طبيعية ، وذلك لأن القناعة بضرورة العمل العلني كانت لدى أعضاء الحركة عامة وقوية . ولأننا نعيش في ظل نظام قمعي يرفض العمل الإسلامي المنظم، فالعمل السري مرحلة ضرورية لإعداد النفس قبل الظهور العلني الذي، كما أسلفتُ بالقول، كان قناعة راسخة لدي الجميع، لذلك جاءت حادثة 5 ديسمبر لتعجّـل بالإعلان فقط ، ففي 05 ديسمبر 1980 إكتشفت السلطات الأمنية التونسية لأول مرة أن العمل الإسلامي الموجود في المساجد والمدن والقرى التونسية لم يكن عملاً عفوياً وإنما كان مترابطاً فيما بينه من شمال البلاد إلى جنوبها بتنظيم يُرتِبُ أشغاله . وإنكشف هذا على إثر إجتماع للمكتب التنفيذي للحركة المنعقد بمقر جريدة الحبيب، فهال السلطة ما إنكشف لها من أمر هذه الحركة وقامت بحملة إيقافات في صفوف العناصر البارزة منهم حبيب ريحان من بنزرت و محمد سلمان من قفصة وحبيب اللوز من صفاقس….وشملت هذه الإيقافات بضع عشرات من الأفراد تم لاحقاً الإفراج عنهم بعد التحقيق. كان لدى القائمين على العمل الإسلامي قناعة قوية أن النظام يُعِدّ عُدته للانقضاض علينا، وكانت علاقتنا مع المعارضة جيدة وجلسات الحوار مع الديمقراطيين الإشتراكيين والحزب الشيوعي والوحدة الشعبية (واحد) فقد كانت علاقات طيبة وجلسات أسبوعية مستمرة وعمل مشترك وبيانات مشتركة ، وكانت لدينا مجلتي المعرفة والمجتمع ثم لاحقاً جريدة الحبيب [3] ومع أن الصحف التونسية كانت تتحدث عن الإتجاه الإسلامي و التيار الإسلامي فقد كان الحرص أن يتم الإعلان عن الحركة فلا ينقضّ النظام علينا وقسم من شعبنا لاعلم له بوجود هذه الحركة.

ثم كانت محاكمات سنة 1981 التي شملت عددا من قياديي الحركة، فكانت الأحكام الثقيلة للإخوة راشد الغنوشي وصالح كركر وصالح بن عبد الله وعلي نوير رحمه الله وحبيب ريحان وبنعيسى الدمني و الفاضل البلدي (غيابياً) و أخرون جميعهم صدرت ضدهم أحكام بعشر سنوات سجن ، ثم تلي ذلك أحكام بثمانية سنوات لـعبد لعزيز التميمي وضو السويد ومحمد الصالح الشنني وأنا ثم تليها أحكام بخمسة سنوات لوليد البناني… وبعد المحاكمة تم فصل أصحاب الأحكام الطويلة عن أصحاب الأحكام القصيرة، فكنتُ من ضمن سبعة عشر سجين إسلامي في سجن برج الرومي ببنزرت رفقة مجموعة بنزرت الذين أقاموا معنا بالرومي نظراً لكونهم من المدينة ، وهم علي الغالي ومحمد علي المغربي وصالح الصفاقسي والبقية أحكامهم طويلة . وبموجب عفو رئاسي تم إطلاق سراحنا في أوت 1984.

إذًا هذا التيار الإسلامي تحوّل إلى حركة سياسية ، لكن ما يمكن أن نلاحظه هو أن السياسي طغى على الروحية الحاكمة لمشروع الحركة ، وصارت وتيرة السياسي متصاعدة على نحو متسارع ، كما لو أن الحركة تنقاد وراء واقع سياسي جارف أفقدها القدرة على ضبط النفس لصالح توازن معقول بين السياسي المحكوم بلحظة الواقع ومشروعها الحضاري الذي يحتكم إلى رؤية إسلامية يمثل فيها الروحي والأخلاقي حزامها ومقصدها ،لم يكن ذلك فقط قبل سنة 1987 بل كان أيضاً بعدها.

في واقع الأمر السياسة تشمل كل حياتنا، وما يقوم من تمايز بين الروحي في معناه التعبدي وبين الإسلام في معناه العام وما يشتمل عليه من سياسة بما هي أهم أركانه، فليس في الإسلام رهبانية،فجزء هام من الترقي الروحي يعود إلى الفرد بحد ذاته ، وليس مطلوب من الحركة ، في رأييّ ، أن ترعى الفرد في كل صغيرة وكبيرة ، فهي تحضن الفرد وتحضّه على تنمية روحه لكن ليس عليها الاعتناء به في هذا الجانب بصورة كلية وتفصيلية .فالأمر موكول للإستعداد الذاتي من أجل تنمية هذا الجانب في شخصيته .فالحركة لا تُلزم أبناءها صيام النوافل أو قيام الليل وإنما توجههم إليها وتحرص أن تجعل ذلك في صلب أنشطتها العامة منها والخاصة . قد يكون التفاوت بين الجانب الروحي والجانب السياسي ناتج بدوره عن الواقع السياسي ، فإضطرارنا في السابق إلى العمل السري لم يساعد على تحقيق مثل هذا التوازن ، فلو كان عملنا علنياً ، وإجتماعاتنا علنية وإتصالاتنا ونشاطاتنا كذلك فإن تأطيرنا سيكون أفضل والتوازن بين الروحي والسياسي سيكون أفضل ، لكن نتيجة لواقع القمع والمنع من العمل القانوني و التضيّق على الحركة وأبنائها في حرية العمل ، كانت الحركة في حدود ضرورات تلك المرحلة الأمنية تجتهد في توفير توازن معقول بين السياسي والروحي . فنحن ننظر نظرة واقعية للإسلام ، و ننطلق في تصورنا للمسألة من إعتبار أن ما هومطلوب من المسلم أساساً هو أن يكون إنساناً صالحاً وليس إنسان حافظ للقرآن مثلاً ، فالصحابي الجليل خالد بن الوليد خاض حروباً كثيرة وإنتصر فيها جميعاً لكنه لم يكن من حفظة القرآن ولم يكن ذلك نقيصة فيه، وكان يقول: شغلني الجهاد في سبيل الله عن حفظ القرآن ، ففي الحركة ذاتها نجد من كان متميزاً في الجانب الروحي ، من غير ذكر للأسماء إذ لا نزكي على الله أحد . كما في الحركة أيضاً من أبنائها من يغلب عليه نمو المقدرة السياسية والنضج السياسي ويتضاءل فيه تناسباً الجانب الروحي ، ولم يكن مع ذلك هذا التمايز نقيصة في هذا ولا كان خصلة في ذاك ،فهو إختلاف في الميولات بين الناس جُبل عليه الخلق جميعهم ليحقق تكاملا تقتضيه حياة الناس.

وإجابة لما يمكن لسؤالك أن يستبطنه من إيحاءات من أن التوازن بين الروحي والسياسي كان يمكن أن يضبط فعل الحركة الإسلامية ويجنبها المزالق المحتملة أستطيع أن أقول جازماً ، أن النظام كان يستعد للإجهاز على الحركة بقطع النظر عن أعمال الحركة ورؤاها في التسعين من القرن الماضي . كان النظام يستعد للإجهاز على الحركة وهويبحث فقط عن الفرصة المناسبة ،وإن لم توجد الفرصة كان لامحالة سيجدها . تذكروا جيداً أنه قد تم نشر وثيقة في أخر صائفة سنة 1990 في جريدة الفجر هي عبارة عن رسالة موجهة من رأس السلطة إلى الجهات الأمنية تدعوها إلى البحث عن العناصر الفاعلة في الحركة وإطاراتها وهياكلها …وكان بها ملاحظة تطلب أعضاء الديوان السياسي للحزب الحاكم أن يبدي رأيه في المسألة. فقد كان النظام مصِممٌ على ضرب الحركة مهما كان تصرفها وموقفها وكان سيعمل على إيجاد حادثة شبيهة بالـ(منشية) [4] على نحو( منشية /باب سويقة) [5] ولمن كانت له الفرصة لمعايشة أبناء قضية باب سويقة والإستماع إليهم سيعلم أن ما حدث بباب سويقة لم يكن بفعلهم بالصورة التي أدينوا بها ، فلأول مرة في تاريخ القضاء التونسي تصدر أحكام ويقع تعقيب الحكم ويقبل التعقيب لتصدر أحكام جديدة ففي القضايا السياسية في تونس منذ الإستقلال إلى اليوم كانت تصدر الأحكام قاسية في المرحلة الأولى ثم يرفض التعقيب في المرحلة الثانية ثم ترفض الأحكام ، إلا في قضية باب سويقة وأكثر من دليل يمكن أن نسوقه يؤكّد أن إعادة النظر في هذه القضية كان لإعتبارات سياسية بحتة وليس لإعتبارات قانونية . فقد كان الحزب الحاكم وقتها قد شعر بالإهانة بعد تلك الحادثة وكان عليه أن يثأر لنفسه ويمسك القضاء بيده ويستخدمه لينتقم من حركتنا .

كانت حادثة باب سويقة مع ما يمكن أن يقال عنها من الناحية القانونية والمحاكمات التي أعقبتها في ظل شروط غير عادلة وما حملته من دلالات ، في تقدير المراقبين للشأن التونسي،فاتحة لشروع النظام في عزل الحركة والإحتجاج على سياساتها ، فكيف تقدّرون من جهتكم ذلك المنعطف ؟

مسألة العزلة السياسية التي أراد النظام أن يَشُلّ بها فعالية الحركة الإسلامية في التسعينات لم تكن الحركة مسؤولة عنها بصورة رئيسية والدليل أن الأطراف السياسية التي إنفضّت عن الحركة في حينها عادت اليوم إلى الحركة بطريقة أو بأخرى للتنسيق والتعاون والتفاعل واللقاءات المشتركة . فقد قدمت بعض الأطراف السياسية وقتها التحالف مع النظام على العمل مع الحركة ،وأعتبرت النظام حليفاً إستراتيجيا إلى أن خاب ظنها فيه في السنين الأخيرة.فكل من إنتهت مصلحة النظام معه ، إما أحاله على القضاء للمحاكمة أو أبعده أو سجنه . فبعد أن كان الإتحاد العام التونسي للشغل الطفل المدلل لدى النظام خوفاً من «الإتجاه الإسلامي/ حركة النهضة» حين إنتهى دور السحباني تخلص النظام منه ، وحين إنتهت مصلحته مع مواعدة تم التخلص منه وألقي به في السجن ، وحين إنتهى العمل بالتليلي زُجّ به هو أيضاً في السجن ، وهكذا فكلما قضى النظام مآربه بأحدٍ تخلّص منه على الفور، وهو مصير ينتظر جميع الأحزاب «المعارضة» الموالية للنظام فلكل منهم ملفات مفتوحة ولو شاء منير الباجي أو إسماعيل بولحية الخروج عن بيت الطاعة فسيجدا نفسيهما في السجن لأن تصرفات مالية ستكشف( مزيفة أو حقيقية) من يدري ؟ يعود تاريخها إلى ثلاث سنوات أو عشر سنوات.

ففي المحيط السياسي التونسي هناك شيء من قبيل العقدة السياسية إزاء النهضة يشعر بها عددٌ من الأطراف السياسية في تونس ، وهذه العقدة تتمثل في أن هذا الحزب الجماهيري الضخم الذي كان يضم آلاف الطلبة وآلاف التلاميذ وآلاف العمال وهو منتشر في كل المدن التونسية والقرى والمداشر والأرياف ، إستطاع النظام أن يجهز عليه.وهكذا أرهب النظام المعارضة فجعل من تصفية الطرف السياسي الأكبر في الشارع (حركة النهضة) درساً يتعض به بقية المعارضة الأقل حجماً ، ثم إن عقدة أحزب الديكور هذه ، هي أنها يوم تخالف النظام في قضية بسيطة وتخرج عن بعض الخطوط الحمراء أو حتى الخطوط الوردية ستجد هذه الأحزاب نفسها أو قياداتها في السجن ، وهو المآل الذي إنتهى إليه مواعدة أو السحباني أو التليلي ، فهذه العقدة ترسم المسار الأكثر سلامة للفعل ، بل وتسوّغ البحث عن مبررات من شأنها أن يطمئن بها إلى تواطئه والإنسياق وراء السياسة المقررة .

ففي تقديري ما كان لنـظام سبعة نوفمبر أن يستمر لو أن المعارضة قدمت العمل المشترك على عملها مع النظام، فالذي ساعد النظام على بلوغ أهدافه هو وجود مجموعة من الأحزاب والشخصيات السياسية والمثقفين الذين اختاروا السير مع النظام. لو أن عمل الجميع تركز على أن حق التعبير هو حق مقدس لايجوز لأية سلطة أن تنتهكه ، ولو أن الجميع جعلوا من السجن السياسي محرم و التنظم السياسي حق مكفول للجميع لكان حال البلاد أفضل مما هي عليه الآن . لكن بعض المعارضة حينها لم تكن تجد غضاضة في غض الطرف عن إنتهاكات النظام إن كانت تلك الانتهاكات تستهدف حركة النهضة التي إكتسح أبناءها الجامعة . وبدلاً من أن يقف الجميع ضد تلك الانتهاكات، كانت مباركتهم لتلك الانتهاكات قد عمّقت لدى النظام رغبته في مزيد من الإنتهاك ليصبح هذا الإنتهاك بعد حين واقعاً مقنناً ستجري أحكامه على الجميع . فقوة النظام من قلة تنسيق المعارضة فيما بينها وأيضاً من سوء ظن بعضها ببعض. فالقول أنه لو تركت حركة النهضة تشتغل فستأكل الأخضر واليابس قول كان يهيأ لمعاداتنا وضربنا فالأصل أن من يعتقد في كونه ديمقراطي كان عليه أن يدافع عن حق أي مواطن تونسي في التعبير عن رأيه أو ممارسة السياسة من داخل أي حزب يختار.

غير أن الأحزاب السياسية ذات العمق العقائدي لايمكن القضاء عليها بجرة قلم أو بقرار من رئاسة الدولة، فليس هناك من خيار أمام السلطة إلا التحاور معها بعد فشل كل الوسائل القمعية الأخرى ، فماذا حقق عبد الناصر بضرب الإخوان المسلمين ، ذهب عبد الناصر وبقي الإخوان وحافظ الأسد الذي دمر مدينة حماة على رؤوس الإخوان المحتمين ببيوتها ، ذهب حافظ الأسد وبقي الإخوان ، ماذا فعل صدام مع حزب الدعوة وغيره ، ذهب صدام وبقي حزب الدعوة . فواهم من يعتقد أن الإجراءات والتضيقات والملاحقات البوليسية والمحاكمات يمكنها أن تقضي على حزب سياسي بقطع النظر عن هذا الحزب السياسي من يكون .

وفي الوقت الحاضر بات من المستحيل عودة المواجهة بين السلطة و الإسلاميين فقد إتعضت المعارضة بدرس التسعينات وتأكدت أن ترك الإسلاميين لوحدهم في المواجهة لم يكن في مصلحتها ولا في مصلحة البلاد .

ولقد سبق لنا أن صرّحنا في أكثر من بيان ومناسبة أن حركتنا، حركة النهضة لا تحتكر هذا الدين، وما ينطبق علينا في ما يتعلق بالإسلام، ينطبق أيضاً على غيرنا ممن ينطقون باسم الديمقراطية أو التقدمية أو الاشتراكية أو العروبة أو الدستور .فالمواجهة الضرورية ليس بإستخدام العنف ضد طرف سياسي وإنما بفتح مجال الحوار للجميع ، ونحن في حركة النهضة لانخشى الحوار بل واثقون أن الحوار يقوينا، وما نعلمه جيداً هو أن فرعون كما جاء في القرآن لم يرفض النقاش ودعا ليتكافح مع موسى يوم الزينة على مرأى ومسمع من الناس أما حكام اليوم فليسوا على إستعداد ليخوضوا غمار مناقشات وحوارات مع خصومهم ، فليس بأيديهم غير الاستئصال وخداع الرأي العام .

والمحاكمات السياسية السابقة بما فيها تلك المتعلقة بإتحاد الشغل كانت تدين النقابيين بقلب نظام الحكم ، وضبطت حينها سلاسل وقضبان حديدية وحجارة في سطوح إتحاد الشغل وإتحاد الطلبة ،وكانت الكذبة تنطلي في كل مرة على المعارضة ،فنفس التهم كانت توجه إلى اليوسفيين واليسار وإتحاد الشغل والوحدة الشعبية و نفس السيناريوه يُعاد في كل مرة واُعيد مع الإسلاميين في تسعينات القرن الماضي . لكن هل سيظل واقع الإسلاميين في حالة إستضعاف دائمة ، لن يكون الأمر كذلك أبداً لأن متغيرات دولية ونمو داخلي في مستوى الوعي السياسي والحضور البشري في الساحة جعل من الوجود الإسلامي في عدد من الدول وجوداً معترفاً به بدرجات متفاوتة مثل مصر والأردن و الكويت واليمن والجزائر والمغرب ولبنان والسودان وتركيا وفي أسوأ الأحوال يُغض عنها الطرف كما يحدث في مصر ولن تظل تونس إستثاءاً أبدياً .

الواقع أن الحركة الإسلامية منذ ظهورها لم تعش في ظروف عادية، وأبناء الحركة جميعهم مع المراجعة وتقييم مسيرة الحركة رغماً عن هذا الظرف الإستثنائي لكن ذلك يجب أن يُحدِث تَعطيلٌٌ لكل جهد عملي ،وأنا لا أقول أن خط الحركة كان مقدساً ودون أخطاء ، لكن مع تلك الأخطاء إن وجدت، ليس هناك ما يبرر وقوفي بعيداً عن الإهتمام بشأن الحركة ،فهناك مخلفات محنة التسعينات التي أورثت مشاكل إجتماعية في مستوى السجناء المسرحين والمبعدين أيضاً وخصاصة وأمراض نفسية وبدنية في وضعيات حرجة وما إلى ذلك من المشاكل التي يجب الاعتناء بها بتوفير إسناد إجتماعي لصاحب الحاجة .

أما على المستوى الخارجي فحركتنا لم تقطع أبداً إتصالاتها مع أي طرف سياسي ، وفي الوقت الذي كانت حركة الوحدة الشعبية 1 ترفض الجلوس مع حركة الوحدة الشعبية 2 وكان الحزب الشيوعي يرفض الجلوس مع حزب العمال الشيوعي التونسي ، كنا نحن في حركة النهضة نجلس مع جميع الأطراف بما فيهم السلطة، لم نكن نرفض الحوار مع أحد من الأطراف الوطنية، وقد أعربت الحركة في عدة مناسبات على إستعدادها للمصالح مع السلطة رغم المظالم التي لحقت بها طوال السنين الماضية،لكن أسمعتَ لو ناديتَ حياً ، والسلطة لم ترفض التحاور معنا فقط بل هي ترفض التحاور مع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وترفض الحوار مع نقابة الصحافيين وترفض الجلوس للتحوار مع الأحزاب القانونية التي منحتها التأشيرة ، فكيف يمكن محاورة هكذا نظام ، فالدكتور المرزوقي لايجانب الصواب حين يقول أن هذا النظام لا يَصلُح ولا يُصلَح.

1 | 2 | 3

…….يتبع

[1] كان ذلك خلال لقاء بالأستاذ عبد الله الزواري في شهر نوفمبر 2006 بجرجيس وقبل أن تعقد حركة النهضة مؤتمرها الثامن في جوان 2007

[2] سينعقد المؤتمرالثامن لحركة النهضة التونسية في الخارج في جوان 2007

[3] مجلةالمجتمع / مجلةالمعرفة / هي المنشورات الدورية التي كانت تصدرها الحركة في طور الجماعة الإسلامية وإثر إعلان حركة الإتجاه الإسلامي عن نفسها أما جريدة الحبيب:فهي المطبوعة الثالثة للحركة بعد مجلة المجتمع ومجلة المعرفة، ولم يوزع منها إلا ثلاثة أعداد قبل إيقاف صدورها.

[4] حادثةالمنشية: تعرض الرئيس المصري جمال عبد الناصر في 26 أكتوبر 1954 لمحاولة اغتيال فاشلة في ميدان المنشية بالإسكندرية ستُتَهمُ جماعة الإخوان المسلمين بترتيبها وسيَشن نظام عبد الناصر على إثرها حملة اعتقالات واسعة ضدهم

[5] واقعة باب سويقة :قام عدد من الإسلاميين المتعاطفين مع حركة النهضة في مطلع تسعينات القرن الماضي بحرق مقرّ لجنة التنسيق للتجمع الديمقراطي الدستوري، لما بلغ إلى علمهم أن قوائم ومعلومات بأسماء إسلاميين يجري تجميعها هناك قبل الإعداد للإعتقالهم، أما بقية المشهد فقد أثثت فصوله فرق الأمن التي إلتحقت بالمكان لتجعل من الواقعة « جريمة نكراء »إلا أن كثيراً من الغموض إكتنف العملية ذاتها والظروف التي أدت إلى وفاة الحارس السيد عمارة السلطاني وقد شكّلت تلك الواقعة صدمة في نفوس عدد من قيادات الصف الأول داخل حركة النهضة: الأستاذة عبد الفتاح مورو والفاضل البلدي وبن عيسى الدمني ونور الدين البحيري الذين قرروا سعتها تجميد نشاطهم داخل الحركة. وفيما وصفت السلطة هذه العملية بالإجرامية، أكدت حركة النهضة أنه لا علاقة لها بهذه العملية ولا علم لها بها قبل وقوعها، وقد إستغلت السلطة هذه الواقعة لتشن حملة واسعة النطاق على الألآف من أبناء الحركة وقياداتها بعد أن حكمت بإعدام إثنين من الإسلاميين .