بقلم عبد الله الزواري

المصدر: مدونة “المواطن الزواري”

بسم الله الرحمان الرحيم

(1)

الطاهر الحراثي

هو الأخ الفاضل الطاهر الحراثي من مواليد 24 جوان 1961 بمنطقة ريفية من بلدة سيدي عمر بوحجلة و تدعى ” الفتح”…انتقل متعلما من الريف إلى ” نصرالله” ثم “مدرسة ترشيح المعلمين بقربة و تخرج مدرسا للصفوف الابتدائية و قد بلغ العشرين من العمر، عمل بمدارس سليانة ثم استقر ب ” سيدي عمر بوحجلة”، متزوج و له من الأبناء ثلاث… كلهم يدرسون بالتعليم الثانوي…

اتنمى إلى حركة الاتجاه الإسلامي مبكرا… وقبض عليه يوم 7 جوان 1991 و أطلق سراحه بموجب سراح شرطي يوم 2 نوفمبر 2005… و كانت مقصلة المراقبة الإدارية في انتظاره… فأعيد إلى السجن إثر حادث مرور ألم بأخته المقيمة في العاصمة… و رغم تقدمه بمطلب لزيارة أخته إلى من يهمه الأمر… فإن من يهمه الأمر لآ هم له إلا مزيد هرسلة قدامى المساجين، فلم يأبهوا لمطلبه و لم يقدروا حاجة أخته إلى من يقف بجوارها بعد الحادث… و بعد التردد عليهم طيلة أسبوع كامل لم يظفر خلالها على جواب ما كان منه إلا أن توجه إلى العاصمة مغلبا نداء صلة الرحم و ضمير الإنسان على الاجراءات التي لا مكان فيها للإنسانية و للقيم النبيلة التي تربى و نشأ عليها… فأرجعوه ألى السجن في أوائل شهر رمضان المبارك 2006 بعد أن ساوموه بطلب العفو لطيّ الملف دون حاجة إلى محاكمة و سجن مجددا، لكنه رفض هذا الابتزاز… فكان السجن في الانتظار…

الطاهر مثل مئات المساجين محروم من كل الحقوق، العمل، التغطية الاجتماعية، التنقل…،خرج من السجن..لم يجد رعاية من احد، لم يجد إحاطة طبية مناسبة… لم يجد تأهيلا يعينه على التأقلم من جديد في المجتمع… لم يجد من يعينه على الاندماج في المجتمع و لا ما يساعده على ذلك…خرج بعد قرابة خمسة عشر سنة قضاها بين العزلة المغلظة و الغرف المكتظة… و لا اعتبار في هذه أو تلك لإنسانية الإنسان… خرج ليجد نفسه أمام واقع لا يرحم و أمام مجتمع بلا قيم، و امام نظام لم يحسن غير لغة التشفي و الانتقام..يرى العالم يتقدم من حوله و أهل بلده يراوحون مكانهم إن لم يكونوا يتقهقرون إلى حضيض الاستبداد المطلق … قد تستوي عنده أحيانا الإقامة أمام القضبان أو وراءها….

أقمنا معا في الجناح المضيق قرابة عام و نصف( 2000-2001)… و لعل دفاعه المستميت عن مساجين الحق العام و التصدي لمن يعذبهم و التشهير بمن يفعل ذلك من الحراس من أبرز ما يمكن ان يلمسه الذين عرفوا الطاهر في سجنه…

سألته منذ أيام عن تجربة السجن و هل وثق تجربته و ما مر به و تعرض له من صنوف التنكيل و التشفي…فآثر أن يحدثني عن الواقع، عن السجن الكبير، مؤجلا الحديث عن السجون الصغرى إلى مناسبة أخرى… و هاكم ما خطه حرفيا…

جرجيس في 26 جوان 2007

عبدالله الــزواري

* * * * *

بسم الله الرحمان الرحيم

في 21 جوان 2007

أخي العزيز:….

السلام عليكم

و بعد:

وجهت إلي – أخي مجموعة من الأسئلة طالبا مني الإجابة عنها- و قبل أسئلتك و بعدها حدثت نفسي أن أقول كلاما كثيرا يستمد هينته من معاناة بدأت، و امتدت، و طالت، و استطالت، و ما انتهت بعد… غير أني أفكر في المصير المحتمل فأحجم عن الكلام الذي لم أعد أميز بين المباح منه و غير المباح…

أوشك أخي أن أتفوه بكلمة. و لكن أليس من الجائز أن يجاب عن كلمتي بصليل مفاتيح مؤسسة وطنية رهيبة طالما ضمتني بين جنباتها حتى كادت تختلف ضلوعي من طول الضم.. تلك المؤسسة استحوذت علىّ طيلة عقد و نصف من الزمن، ثم لفظتني و ظلت ترقبني، حتى إذا ظننت أني تواريت عنها بين أكوام البشر و الحجر، امتدت نحوي يدها الطويلة الضخمة، فالتقطتني و أعادتني إلى جوفها، ثم أطلقتني مجددا، و ما أطلقتني… غادرتها و ما غادرتني.. هي الآن أكبر شيء في الحياة يجثم على صدري الهزيل الذي ينبعث منه الأنين بلا توقف و يوشك أن يصرخ عاليا أن اتركوني و شأني….

أخي:

” إني ذاهب إلى ربي سيهدين” هكذا أردد و أنا أمشي.. و ذات مرة مشيت ضمن مجموعة بشرية على أربعة عجلات، و على مشارف مدينة التفت يسرة فوقع بصري علىخربة موحشة، بابها الخشن مغلق،و كواها العالية ينبعث منها الظلام… و على الفور قفزت إلى ذهني صورة المؤسسة الجاثمة على صدري، و حصلت المقارنة.. و لو سألني حينها أحد عن السجن كيف هو لأشرت إلى تلك الخربة قائلا: تصور نفسك داخل تلك البناية و الباب موصد دونك و لا أمل لك في الخروج كيف يكون شعورك؟؟ ماذا لو تبقى يوما و ليلة هكذا بلا قدرة على التصرف في الباب المغلق؟؟ و ماذا لو تبقى شهرا بأكمله..أو بضعة شهور أو سنة، أو بضع سنوات، أما لو بقيت عشرين سنة مشلول الحركة، مسلوب الإرادة و الكرامة و الإنسانية فماذا تقول؟؟؟؟؟

لم أعد الآن افكر في نفسي و في السنوات الخمسة عشرالتي بقيتها خلف الباب الموصد و لكني أفكر بحسرة و ألم في الذين بقوا بعدي و لا زالوا، أفكر في “مزقريشو” الذي أكمل العشرين سنة غلرقا و لا احد يشفق عليه و لا احد يعنيه أمره، أفكر في لطفي السنوسي و هو يذرع غرفة الأسر جيئة و ذهابا شاغلا نفسه بتكرار القرآن و مرددا من بين الفينة و الأخرى عبارات يبعث بها الأمل في الخروج من السجن في قلوب من حوله، أفكر في محمد القلوي وهو ينوء بحكم قضائي طويل يشمل كامل ما بقي من عمره…لا، بل لم يكتف في شأنه بالسجن بقية العمر بل لا يزال يلاحق في قضية ما اصطلح على تسميته ب” الشركة”….. شركة اقرب إلى الظن أنها وهمية على افتراض أنها كانت، فقد تشكلت ثم حلت، ثم سجن أفرادها، حتى كلوا و خرجوا و تنعموا بالحياة حتى ملوا، و منهم من رمى بنفسه وراء البحار ربما بلا رجعة، و بقي محمد القلوي وحده ينوء تحت ثقل الشركة، شركة وهمية بفعل هكذا بمن يفترض أنه أحد أعضائها يلاحق في شأنها بلا رحمة، و يضيق عليه الخناق ، يراد أن يعصر و يصهر كما يصهر الحديد في الفرن… و شركة أخرى حقيقية تعيث في الأرض فسادا و لا يؤبه لها و لا يمس رؤساؤها بسوء، و أعني بها شركة ترويج الخمر خلسة في طول البلاد و عرضها، يقولون خلسة، و ما هو بخلسة، فالخمر يباع في وضح النهار على قارعة الطريق، تعالوا إلى قريتي مساء كل يوم لتروا ذلك.. و هي قرية فلاحية ريفية صغيرة مسحوقة وسخة منسية و مع هذا يحتسي أهلها الخمر كما يحتسون الماء و يروجونها كما يروجون أي مادة استهلاكية أخرى.. تغرق قريتي في بحيرة من الخمر الممنوعة قانونا… تفرغ في بطون محتسيها من علب صغيرة وردية اللون كتب عليها “جعة ممتازة” … و بعد إفراغ تلك العلب بنهم و شراهة تلقى بلا مبالاة في أي مكان أفرغت فيه.. فهي تملأ الشوارع و تتكدس هنا و هناك … و تقفز أمام البيوت و داخلها، و تدوسها السيارات و تصبح جزءا من الطريق يعبث بها الصبيان و يصبون ثمالاتها في أفواههم و يعثر عليها أكواما أكواما في مزارع الحبوب و تحت الأشجار و على طول المسالك الفلاحية المؤدية إلى أعماق الريف… و يتجمع عشاقها جماعات جماعات في أطراف البلدة و على جوانب الطرقات داخل أو حول سيارات، فبعضهم يحتسي، و بعضهم يزود المحتسين… هكذا في وضح النهار و كلهم آمنون لا يكلمهم أحد.. لا يعيب عليهم أحد، لا يلاحقهم أحد، من أين يأتون بهذه المادة المحظورة قانونا و المسكوت عنها واقعا… ألوف منها تستهلك كل يوم في قريتي، و في الأرياف المحيطة بها، و كأن لا شيء يضاهيها أهمية، آلاف قوارير الجعة و عشرات و مئات الآلاف تتكدس مع الزمن و تغطي أديم أرض قريتي و تسقي بقاياها قمحها و شعيرها فمن له القدرة على توفير هذا الكم الهائل من قوارير الجعة غير الشركات، و لكن شركتك المفترضة وحدها يا محمد القلوي تسترعي الانتباه و تستأصل من أعمق أعماق جذورها و ينكل بمنتسبيها و لا أحد يعمل جادا على إعفائهم من بقية التنكيل… بل مع الزمن أصبحوا في طي النسيان، لدى الإخوة و الأعداء و لا يكاد يوجد أحد يعنيه أمرهم، إن السجن الذي يقبض على إخواننا بقبضة من حديد و تسألني عنه، يا أخي- جاثم على صدورنا الواهنة بلا رحمة… إني أراه في كل شيء حولي و أراه أقرب إلي من شراك نعلي… أخي أنا لا أهاب السجن لأنه سجن و لو هبته فكأني أهاب القبر الذي هو قدري المحتوم.. و لكني أهابه لو صرت داخله سأصبح أرخص من أبسط حيوان.. أنت تسألني أسئلة مدارها حول السجن كيف قضيته؟؟ أفلا تكفيك هذه الجملة الأنفة تلخيصا للامر كله و كان الأجدر في رأيي أن تسالني كيف أعيش خارج السجن فأجيبك أنا ما خرجت من السجن بعد و على افتراض أني خرجت فحياتي حياة التائه الحيران، لا عمل يغنيني مؤونة السؤال، و لا حرية تسويني بالبشر، و لا حقوق تحميني من الجوع و من المرض و تداعيات الحياة هذا في الوقت الذي أطالب فيه أنا و أولادي بالمساهمة قسرا في صناديق واجهاتها نبل و طريقة أدائها توحي بأنها شيء آخر…

أخي ختاما إن كان لك من فضل علي فهو في إزالة قليل من الصدأ على قلمي النائم منذ زمان تحت ركام الخشية و فقدان الثقة و النصير، و انسداد الآفاق… أخي دعني أتوقف الآن فأنا أسمع صليل مفاتيح غلاظ شداد تأتيني من أعمق الأعماق و تحذرني من التفكير في الانعتاق…

و الســـلام

أخوك الطاهر الحراثي