بسم الله الرحمان الرحيم

بقلم الأستـاذ فتحـي نصري

maitre_nasri @ yahoo.fr

بعـد غــزة تحولــت ” أمطــار الصيــف ” الـى ” طــوفــان الصيــف ” وجـاء دور لبنــان ، القــذائف تتسـاقط على الجنـوب اللبناني بــرا وبحــرا وجـوا ، والبنيــات التحتيـة للجنوب تتهاوى لتتحول الى غبار كثيف ودخـان يغطي سمــاء عــروس المتوسـط في عــز الموسم السيــاحي ، والجسـور الرابطة لأوصال الجنوب تمزقت كما تمزق المشهــد السياســي اللبنانــي والمشهد العربي الرسمي ، والخطــوط الحمـراء تحولــت الى خضراء ، ولا أحــد أصبــح بامكانه تقدير ما ستؤول اليه الأوضاع في أسخن المناطق الشـرق أوسطـية
في خضم العدوان الصهيوني وصمود المقاومة الاسلاميــة الفلسطينيــة واللبنانيــة قد تكــون المقاربة العسكرتية ضرب من ركوب الموج لمن لا يجيد السباحــة ، وقد ســبق ” لجــورج كليمنصــو ” خـلال الحرب العالميــة الأولــى أن قــال ” الحـرب مسألـة جدية كــي نــترك العسكريون يقررون شؤونها لوحدهم ” ولكن مـاذا لـو نأى العسكريون بانفسهم عــن شــؤون الحرب وتركوا لحركات المقاومة مسؤولية التقرير ؟ فهل يستقيم المنطق العسكري ؟ وهــل تصـدق التحليلات العسكرية ؟

مــا أشبه اليوم بالأمس ، خــلال نكبة 1948 خاضت الجيوش العربيــة الحــرب ضــد عصابات ” الهـاغـانــا ” المدربة على القتال وحرب العصابات من خلال تجــربة عناصرها في الحرب العالمية الثانية ، وكانت معركة ” صفد ” وقتـذاك اهانة كبرى للعسكرية العربية التي جرعت الهزيمة والخيبــة ، واليـوم مدينــة”صفد ” على مرمى الكاتيوشــا اللبنـانيــة ، والمعادلة أصبحت معكوسة فقد أصبحت المقاومة الاسلامية مجســدة في حـزب الله تحارب بالنيابة عن الجيوش العربية وتواجـه جيشا نظاميا حديثا يمتلــك آلــية عسكــرية رهيبـة ، وأصبح”توازن الرعــب ” مفتــاح فهــم المعـادلة.

أنــا لا أراهــن عــلى الحكـام العرب بل على الله وعلى الشعـوب ” هكــذا علق الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله على المواقف الرسمية للسعودية ومصر والأردن التي حملت المقاومة مسؤولية العدوان الصهيــوني على غــزة وبيروت ، واعتبرت عمليــة ” الوعد الصادق ” تمــت وفق أجـنـدة خارجية تحمل توقيع ايران وسورية ، ممـا أباح تفسير هــذه المواقف الرسميــة كتبرير ضمني للهمجية الصهيونية ، واعطـائهــا غطــاء عربيــا رسمــيا ، فلمصلحـة مــن جـاء هذا التوافق الرسمي للحكومات العربية على ادانة عمليات المقاومة ؟ ووفق أيــة أجنــدة جـاء هذا الاستباق في المواقف ليلة انعقاد القمة العربية لوزراء الخارجية العرب ؟

الســؤال المحوري الحقيقي يتعلق يتعلق بغياب الجيوش العربية والسبات العميق الذي تغــط فيه وعكس دورها بتوجيه بنادقها نحو شعوبها ! فمـا فائدة انفاق 200 مليــار دولار علــى الجيوش العربية في ظل رفعها لشعـار ” قـوة الجيوش العربية في ضعفها ” ، ولو كانت هذه الجيوش تلعب دورها المفروض في حمايــة الحدود العربية وخوض معارك التحــريــر واسترجاع الأسرى لكانت حركات المقاومة الاسلامية جــزءا من هذه الجيوش لامتلاكها ما تفتــقــده الجيــوش النظامية العقــيدة القتاليــة

عمليـة ” الــوعد الصــادق ” أعادت للواجهة بعـض طــروحات النخب العربية ودعوتها الى عقلنة الفكر السياسي العربي بتوخي الواقعية والتخطيط العلمي ومرحلية التغلب على التحدي الصهيوني ، فاذا كنا نتفهم بعض التصريحات الصادرة عـن وليــد جنبــلاط ومــروان حمــادة وغيرهما من الفاعلين في الساحة اللبنانية لارتباطهم الحزبي في مواجهة مشروع المقاومة وفق أجندة حزب الله ، فان ظهــور بعــض الأقـلام الصحفية المطالبة بالاعتبــار بــما وقــع عام 1948 وعـام 1967 وعام 1973 يوحي بنجاح الدوائر الغربية في استمالة أقلام وقنوات عربية عبر الاختراق والتجنيد والتوجيه المباشــر وغير المباشر ، بل وانشــاء وتمويل صحـف وفضائيات موجهة ناطقــة بالعربية لالهـاء الرأي العام العــربي ، وفــرض منطق التخذيل والتطبيع وكشف ظهر المقاومة ، وهذا يخدم المشروع الصهيوني الثابت رغم تعاقب الحكومات في كون أقصر الطرق الى اجهاض المشروع الفلسطيني المقاوم هو عزله عن محيطه العربي الاسلامي ، والبداية كانت بتحييد مصر وتحويل دورها من قيادة المواجهة العربية الى مجرد سمسار اقليمي يعمل لحساب السياسة الأمريكية في المنطقة ، ثم الفصــل بين سورية ولبنان لاضعاف الدور السوري ، فبدون مصـر تكون ســورية ولبنان أضــعف ، وبدون مصر وسورية ولبنان والأردن تصبح القضية الفلسطينية أسهل للمضغ
منـذ عدة سنــوات عند قرائتي لمذكرات كمال حسن علي رئيس وزراء مصر الأسبق والقائد العسكري ورئيس المخابرات السابق استوقفتني اشارته الى أن المشكلة الأساسيــة في نكبة 48 تكمن في تأثير الشحن القومي والديني على قرارات الحكومات العربية في اتخــاذ قرار الحرب وهي غير مستعدة لذلك ، ورغم فساد هذا التبرير الا أنه يعبر عن قــوة الرأي العام العربي وقتذاك ، أما الآن فقد أصبحت أصــوات الشعوب العربيــة تواجه بالهــراوات والسجون ، وتحولت قوة الشحن والدفع الى مجرد مظاهرات في الشوارع والجامعات تتبعثر بعد سويعات من انتهائها كما تتبعثر الرغوة فوق الماء ، فالتعبئة الحقيقية هي تعبئة الرأي العام التي تحدث عنها الشيخ يوسف القرضاوي في مذكراته قبل حرب العبور ، وهــي التفــاف الشعوب حول قياداتها الحقيقية ، ومساهمة كل فــرد ايجابــيا في المجهــود الحربي والدعــم اللوجستيكي والتصبير المعنوي

المشكلة الحقيقية تكمن في الهوة بين الحكومات العربية ونخبها والشعوب ، والأمر المخيف حقا هو شعور هذه الشعوب بأنها لا حول لها ولا طول وأنها ” تحمل السلم بالعــرض ” بـلا جدوى وتكتفي بالتسمر أمام الفضائيات لمشاهدة ما يحدث ، مما يعيد طــرح الاستشكـال الأساسي حول غياب الحرية والديمقراطية وانعدام دور مكونات المجتمع المدني واضمحلال فرص تخليق الحياة السياسية بما يكفل لهذه الشعوب تقرير مصيرها وتأثيرها فــي المواقــف الرسمية لحكوماتها

وعود على بدء يحق لنا القول بأن ” أمطار الصيف ” التي تهطل على غــزة والجنوب اللبناني ليست ببعيدة من حيث الأسباب غير المباشرة عما يحدث في الدول العربية من تكميم للأصوات الحرة المطالبة بتحرير الفرد قبل الأرض وتفجير طاقاته ، كما أن السجون العربية المكتظة بالمساجين السياسيين خاصة في تونس ومصر أحد المظاهر المعطلة لارادة الشعوب العربية ، فالمظلة الحقيقية الواقية من ” أمطار الصيف ” الصهيونية تمــر حتمــا عبر بوابة تغيير التركيبة السياسية للدول العربية بأخذ الشعوب لمصيرها بيدها