مجرم من يلجأ إلى السلاح في بلد يمكن الاستغناء فيه عنه, ومجرم كذلك من لا يلجأ إلى السلاح في بلد لا يمكن اللجوء فيه لوسيلةٍ غيره…

هكذا تحدث أحد رموز التغيير والتحرير في أمريكا اللاتينية, الكوبي خوسيه مارتي José Marti هذه مقولة واضحة ولا تحتمل التأويل والتفسير ولا التبرير؛ فهي نابعة من عمق تجربة زعيم مشبع بروح الثورة, ومشبع أيضا بالروح الإنسانية . ولذلك فإنها ترقى إلى درجة السنن والقوانين الكونية العامة, التي لا ترتبط بزمان ولا بمكان.

ألم يعطي إعلان حقوق الإنسان, وليد الثورة الفرنسية, والذي بات اليوم بمثابة المرجع المتفق عليه عالميا؟ ألم يعطي هذا الإعلان للشعوب حق مقاومة الاستبداد la résistance à l’oppression.

-  بلى.

-  ولكن متى تبدأ هذه المقاومة؟

-  حين يكون هناك استبداد… أو بالأحرى حين يحصل الوعي بوقوع الإستبداد. وأول من يعي الإستبداد, هم طلائع الشعب من « المثقفين » (من علماء, أدباء, مفكرين, شعراء, فنانين, طلبة…) لإمتلامهم لأدوات التعبير-المنظم- عن هذا الوعي. وفي هذا الأمر تكليف لا تشريف.

ولو فصلنا تفصيلا –وإن ميكانيكيا- لمراتب التعامل مع الواقع الإستبدادي, لتبدت لنا مجموعة من المراحل المتسلسلة, التي لا بد لكل متصدٍ لهذا الأمر أخذها بعين النظر والتدبر :

أ- المرحلة الأولى, وسمتها تعرية الواقع الإستبدادي وفضحه بالكلمة –كتابة وخطابة. وهذا ما لن يصبر عليه الإستبداد وسلطته التي تلجأ عندها إلى المنع والكبت, حتى لا تنتقل « العدوى » إلى شرائح المجتمع المختلفة؛ فتأتي آنذاك

ب- المرحلة الثانية, وهي مرحلة الثبات على الخط ومحاولة المحافظة على حرية التعبير والرأي والتنظم داخل الأحزاب السياسية والجمعيات المدنية, والسعي إلى توسيع دائرة هذه الحرية. وهذا أيضا مما لا يرضي سلطة الإستبداد, التي تتوخى عندها –بحسب ما تملكه من « ذكاء » وبحسب ما لها من ارتباطات إقليمية وعالمية- سياسة مزدوجة, قطبيها : القمع والإحتواء. إذ لا بد لها أن تحافظ على حدٍ أدنى, مطلوب, يظهرها بمظهر « البلد السائر على درب التقدم والديمقراطية ». فلا يوجد اليوم, في ما أعلم, نظام ما يزهو علنيا بطبيعته الإستبداديَة. وحتى لا نبتعد كثيرا عن « التجربة التونسية », أسوق بعض الأمثلة من تاريخها القريب. فلقد توخى بورقيبة هذه السياسة مع الإسلاميين –وقبلهم مع الإتحاد العام التونسي للشغل وكذلك مع تيارات اليسار, كل بحسب ما كان يشكله من خطر, او بالأحرى من قلق (لقد شعر النظام بخطر حقيقي في المناسبات التالية : محولة الإنقلاب العسكري لسنة 1962, الإضراب العام العمالي لسنة 1978, محاولة الإنتفاضة المسلحة بقفصة سنة 1980, الحركة التلمذية لسنة 1981, إنتفاضة الخبز لسنة 1984, والمواجهات الشرسة بين السلطة والإسلاميين لربيع وصيف 1987… وفي كل مرة يقع اللجوء إلى الجيش و/أو إلى التدخل العسكري الخارجي, المباشر أو غير المباشر). في اليوم الذي أعطى فيه النظام رخصة التواجد العلني القانوني للحزب الشيوعي التونسي (في النصف الثاني من جويلية 1981), شنّ حملة شعواء, هي أولى حلقات مسلسل درامي رهيب, على حركة الإتجاه الإسلامي, معتقلا كل كوادرها وآلافا من قواعدها. دامت الحملة ثلاث سنوات ؛ ثم « أنتهت » عندما دخل النظام, سنة 1984, في صراع دامي مع الشارع التونسي, نتيجة بداية العمل بالسياسة الإقتصادية المملاة من البنك الدولي وصندوق النقد العالمي. وكان عندها النظام ينعم, مع المعارضات ومع أتحاد العمال, على فراش الحب الوثير, بشهر عسل وغزل, لا يعكر صفوه غير الهتاف الشعبي المزمجر في البطاح والشوارع « فلوس الشعب يا حوافة », « بالروح بالدم نفديك يا شعب », وبين الفينة والأخرى يشق هذا الهدير وهذه الصفوف المتراصة, صوت دوي الرشاشات الآثمة.. ثم من جديد, صوت الشارع وقد تخللت نبرته البحة والدموع : « يا شهيد لا تهتم الحرية تفدى بالدّم »… بعد بضعة أيام, طويلة كالسنين, وبضع مئات من القتلى, تراجع الرئيس عن قرارات حكومته ؛ وكان في تراجعه هذا أجرأ وأكرم من المعارضات ومن إتحاد العمال الذين أقتصرت مطالبهم على بعض التعويضات لضعاف الحال, فكانوا بذلك كالزّانية التي أستيقظت صباحا فلم تجد عشيقها, ولم تجد بكارتها, وكان عليها دفع فاتورة غرفة هذا الفندق/المبغى… ستصبح هذه الفتاة بحسب أحسن الإحتمالات, مومسا محترفة على بعض الأرصفة الموبوؤة, في حماية (ماكرو) فتوّة, طويل الباع… هذا ما حدث لها بالفعل بعد سنة 1987.

ثم حل »العهد الجديد « … عهد بن علي, الذي توخى, بعد تطويرها, نفس السياسة السابقة. فزادها حنكة وشراسة جعلته يحتوي, بعد سنتين من النقاهة اللازمة لنظام لا يملك أدنى شرعية, جل الحركات اليسارية وكذلك أتحاد العمال؛ فأدخل رموز هذه الهياكل سرايا الحكم, ليصبحوا بين عشية وضحاها, مستشارين ووزراء حتى يتسنى له « استئصال » الإسلاميين عن بكرة أبيهم. ثمّ رمى بمعظمهم كما يرمى الكلينيكس القذر بالإستعمال, ولم يخطيء بن علي في ذلك, فلقد عاملهم كما يستحقّون فعلا !

ج- المرحلة الثالثة : والتي أخطأ طريقها الإسلامييّون وغيرهم من المعارضين. سمة هذه المرحلة هي مقاومة الإستبداد بالوسائل الكفأة بطبيعته. وأعود من جديد إلى التّجربة التّونسيّة. لقد نظّم بن علي, وقد إستتبّ له الأمر بعد فترة نقاهة لازمة لنظامه « السبوعي المولد », إنتخابات تشريعيّة, كانت من منظوره بمثابة الإمتحان والإستقراء لواقع البلاد والعباد, وكانت من منظور المعارضات بمثابة الفرصة الذهبيّة للحصول على بعض المواقع (المقاعد) يشعرها بأهميّتها وببعض النّصر وتحقيق المكاسب وإن كانت ضحلة وشكليّة… وربّما أيضا لإشباع طموحات جدّ شخصيّة. وجاءت نتائج الإنتخابات لتؤكِد وتدعّم الصورة الّتي أرتسمت لديه من قبل … منذ بدء مسيرته الثّابتة, الرّصينة, الرّاسخة نحو سدّة الحكم.

نتائج الإنتخابات هذه, جعلته يتأكد بأنّ المعارضات اليساريّة والليبيراليّة لا وزن لها ولا أمل في أن تحقّق أكثر ممّا حقّقته, بأرقام تكاد تتّحد مع الصّفر لشدّة أقترابها منه. والأدهى من ذلك والأمرّ أنّها –أي المعارضات المذكورة آنفا- بلغت سنّ اليأس, لا سيّما والأحداث العالميّة باتت تتسارع في إتجاه تفكّك وانهيار النّظام الشّيوعي وكذلك الليبيراليّة, في شكلها الأوروبي, تاركة أتباعها في حالة يتم مقيت, يجعلها ” تعوي في الصّحراء بلا مأوى [1]”.

ثمّ إنّ نتائج الإنتخابات أكّدت له حقيقة أخرى, كان يعلمها أيضا, ومنذ البداية. فالحزب الدّاعم له, حزب بورقيبة الذي ورثه بعد الإنقلاب, ورغم سنتين من الهلاّلي والبروباقاندا لم يتحوّل إلى حزب شعبي, كفيل بأن يوفّر له ما يرجوه من شرعيّة, ولم تنجح كلّ عمليّات التّجميل في إخفاء تجاعيد الشيخوخة من على وجه هذا الحزب. فبن علي يعلم حقّ العلم أنّ هذا الهيكل الضخم فاقد للمقوّمات الأساسيّة للحزب السّياسي, ألا وهي الأيديولوجيا والميكانيسمات الديمقراطيّة وكذلك القاعدة الشّعبيّة العريضة… إنّه –أي الحزب الحاكم منذ ما يناهز النّصف قرن- ملتقى لكلّ الوصوليّين بأصنافهم ودرجاتهم : فمن طامع في مركز بالسّلطة, إلى طامع في إعانة من الدّولة مرورا براغب في الحصول على رخصة تاكسي أو محلّ لبيع التبغ… إنّه نادى لكلّ محترفي التّصفيق و”حمل القفّة” لكلّ قائم على السّلطة… لأيّ قائم على السّلطة. ألم يرى بن علي بأمّ عينيه, ذات الوجوه تحمل المجاهد الأكبر على الأعناق هاتفة ومصفّقة : بالرّوح بالدّم نفديك يا بورقيبة, إلى حدّ عشيّة السادس من نوفمبر 1987 ؛ ولكن ما أن أنبلج صبح السّابع من نفس الشّهر, حتّى انقلبت الصورة رأسا على عقب, لتنصبّ اللعنات على الرّئيس الهرم وأعضاده, ويصبح الشّعار: بالرّوح بالدّم نفديك بن علي.

[1] مظفّر النوّاب, وتريّات ليليّة.