“سأكتب هنا أفكاري من غير ترتيب ولكن قد لن تكون في غموض خال من كلّ تصميم. هذا هو التّرتيب بعينه والذي سيسم, وإلى الأبد, موضوعي بالفوضى نفسها”.

ب. باسكال, أفكار, ف 717.

“في الوقت الذي دكوا فيه الباب بعقب البندقية كان فيليبس يخاطب سان فيسنتي قائلا:

-  إن الثورة عِلْمٌ, يا صاحبي, لا يمكنك أن تجد نفسك في المكان المناسب, بمفهوم… – لست متأكدا من العبارة؟ خيط, مجرى, the strame of history, التاريخ, نعم, هذا هو. (…)

-  أنت مخطئ على طول الخط, يا فيليبس, قال هذا وهو ينظر إلى صديقه, ومن دون أن يلتفت ولو مرّة واحدة تجاه البنادق الموجّهة إليهما. الثورة هي عمل إرادة لا أرى لعِلْمك هذا من مكان هاهنا.

-  أغلق فاك يا كلب. قالها الشرطي وهو يدفعه بعقب بندقيّته.

-  الإرادة, الإرادة, هذه ترّهات, إذا ما غاب عنها مفهوم التاريخ…”

باكو إينياسيو تايبو الثاني, مرور, 1987.

بقلم أشرف زيد

لتحميل المقال بالكامل (60 صفحة) PDF

سألني صاحبي, ذات صباح, وكان بصدد إعداد القهوة الّتي دعاني إلى احتسائها عنده:
– هل شاهدت, البارحة برنامج أكثر من رأي على قناة الجزيرة؟

-   لا لم أشاهد بالأمس شيئا… بل لم أفتح التلفاز بالمرّة. هيّا! قل لي ما الّذي حدث بعالمنا هذا, المتقلّب.

-   لقد فاتك خير كثير! لحظة واحدة سآتيك في الحال, قال ذلك وهو يسكب القهوة في الفناجين, ويقدّمها على طبق, مصحوبة بكأسي ماء وبمرشّ لماء الزّهر, فالقهوة العربيّة عند صديقي, تقليد له طقوس لا يمكن التّهاون معها وإلاّ فإنّ البنّ يفقد مذاقه ويصبح مشروبا مبتذلا كغيره من السوائل.

-   هيّا لقد أعييتني بتقاليدك وطقوسك! ما الذي قيل بالأمس على قناة الجزيرة؟

اعتدل صاحبي في الجلسة وتحمحم تصفية لصوته وانطلق في الكلام:

” استضاف برنامج أكثر من رأي, سفيرا سابقا لأمريكا لدى المغرب, وعلمانيّان عربيّان, يشتغلان بجريدة الحياة, السّعوديّة التّمويل؛ وكذلك المفكّر الإسلامي الشّيخ راشد الغنّوشي, وذلك للتَحاور حول إحدى منعطفات 11 سبتمبر. وساد الحوار الكثير من الخطاب المتداول والممجوج: الأمريكي يبرر سياسة بلاده الرّشيدة تجاه الإرهاب, مؤكّدا أنَ الحرب لا علاقة لها بالإسلام و لا حتّى بالبترول؛ والعلمانيّان وبدرجات متفاوتة يدعمان مبدأ الدّيمقراطية و لكن في حدود… ؛ في حين أنّ الغنّوشي ركّز على مقولة الدّيمقراطيّة, أوّلا و آخرا. لقد كان ثلاثتهم يسعون من خلال أطروحاتهم إلى الخروج بالعالم العربي الإسلامي من وضعه الحالي و بأقل التّكاليف.

-  ما الذي تجده مهماّ إذا؟

-   لا تتعجّل بالأمر يا صديقي العزيز. فأنا لا أعتبر ما قاله السّفير والعلمانيّان كلاما ذا أهمية فيجدر الوقوف عنده, ولكنّ مداخلة راشد الغنّوشي, على قصرها, تركت في نفسي بعض المشاعر الغريبة. فهو من حيث المبدأ محقٌّ, وكلامه معقول ولا يمكن إلاّ أن يكون مقنعا… ولكنّني تساءلت عن الدور الذي كان بإمكانه لعبه لو أنَه بقي في تونس في مواجهة واحدة من أعتى الدِيكتاتوريَات.

-   لو مكث هناك, لكان في السجن, وهذا أمر لا يتمنَاه المرء لأحد.

-   أنا معك في هذا. ولكن تبوُء قيادة حركة شعبيَة معارضة يحمِّل من قام بالأمر مسؤوليَات عدَة وجسيمة, ويعرِّضه إلى مخاطر جمَة… قد تصل إلى بذل الرُوح, وهو نظريًا منتهى ما يصبو إليه المؤمن المجاهد في سبيل قضيَة عادلة. لو كان الشيخ راشد الغنّوشي داخل السِّجن لكان عبأ ثقيلا على الديكتاتوريَة, ولكان شعلة وهّاجة تنير الطريق للآخرين, لهؤلاء السَائرين على نفس الدرب, ولكان لكلِّ كلمة ينبس بها من الوقع أكثر من كل ما ينشره ويكتبه ويقوله الآن من منفاه.”

ترشّف صديقي قهوته وأضاف متنهّدا:

-  ” المنفى, مقبرة المعارضين…
لا يمكن لأي نشاط في المنفى أن يغيّر من واقع الأوضاع في الدّاخل, لا سيّما حين تنعدم الطّليعة القائدة في هذا الدّاخل المقهور, المتروك لنفسه, في مواجهة قدره.
فأنا لا أستغرب البتَة لما آل إليه أمر الشَعب في تونس من انعدام الاهتمام بالسِّياسة ومن غياب روح الصراع لديه, ومن تسليمه التَام وخلوده إلى الأفراح والمسرَات… ولا ألومه البتة على ذلك؛ بل أتفهَم إلى حد بعيد موقفه هذا. سأله مقاطعا:

-   أتسمّي هذا موقفا؟

-  أجل! وأيّ موقف! إنَ الذي يسوؤني ويدفعني إلى التَقزُز إلى درجة الغثيان, هو مواقف بعض المعارضين المهزومين بالنَفي, أو بالصَمت, أو ربَما بهما معا: لم يلحقوا العنب لقطفه فقالوا عنه أنه حامض. تراهم ينعتون الشَعب التُونسي بشتَى النُّعوت: فهو شعب استهلاكي, لا همَ له إلاَ الشطيح والرديح, وهو شعب مسالم -بالمفهوم السلبي- أي أنَه جبان ولا يمتلك الرُجولة الكافية, إلى آخره من التُرَهات التي تتسلى أشتات المعارضة باجترارها في بعض مقاهي باريس.

أقول لهم ماذا فعلتم أنتم, بربّكم, غير أنّكم أتقنتم كلّ فنون الهرب إلى الخارج, وانتظار الآتي المجهول؟ لقد باتت آمالكم مرهونة بقشَة واهية, فصرتم تعيشون على وقع الإشاعات المختلفة: فتارة توشوشون [1] , ورؤوسكم تلتفت يمنة ويسرة, بأنَ الرَئيس في خلاف شديد مع ليلاه, قد يصل إلى حدِ الهجر في المضاجع ؛ وطورا تروِّجون بأنَ شيبوب أضحى من المغضوب عليهم. ومرة تنتشون لما يتردد عن مشاجرات, وصلت إلى استعمال الأيدي والهراواة بين أفراد من عائلتيْ الطرابلسي و بن علي في إحدى ملاهي الحمّامات الليلية …من يدري, لعلَى الثورة تندلع في فراش إحدى المومسات, حين تكتشف بأنَ المْعلِّمْ لم تعد تهتزُ له قصبة… من يدري؟ أشْكونْ يعرف ؟
يالى خيبة المسعى…
لقد بدَدوا في لهثهم وراء الأوهام الزائفة وبعض الوعود المعسولة سنوات من النضال وليال طوال من الأحلام, وأنهار من دموع الأمهات والأطفال… وأرواح إخوة لنا أزهقت على منصَات التعذيب الوحشي, بأيدي بعض المتبقِين من العصر الحجري… وكان أقصى ما توصلوا إلى فعله أنَهم راهنوا على تشويه صورة النظام لدى من أسموه : الرأي العام العالمي, بل و أصدروا ذات يوم قائمة سوداء بأسماء من ثبت عليهم التعذيب والتقتيل… يا ويلهم منهم… إنهم الآن يرتعدون هلعا…

-   أراك تشككّك في دور الرأي العام الدّولي؟

-  لا يوجد رأي عام دولي… إنَها لأكذوبة كبرى لا يقبلها إلاَ ساذج أو معتوه, هناك مجموعات ضغط, تحرِّكها مصالح واضحة و معيَنة, تصنع الأحداث, وتؤثِّر في مجرياتها, وتعتقد بأنَها تميت من تشاء و تحي من تشاء, و تذلُ من تشاء و تعزُّ من تشاء. فما قيمة معارض إسلامي يعذَّبْ و يُقتلْ؟ بل ما قيمة عشرة و مائة و ألف:
« Un bon islamiste est un islamiste mort »
ماذا تمثِل تونس عند من يعلم بوجودها ممَن يشكِّلون الرَّأي العام العالمي ؟ لا شيء… مجرَد بطاقة بريديَة باهتة, تغمرها زرقة البحر, ومشموم ياسمين على أذن طفل مبتسم, وشاشيَة مائلة, لتكتمل الصُورة… وابتسم إنَّها تونس…
هذه تونس اليوم… لا أكثر…

[1] تسرّون القول.